ا. د صلاح رشيد الصالحي
صناعة الحلي والأحجار الكريمة في العراق القديم
شكل 1: أشكال خيالية من مدينة سـﭙار، نساء بابليات من العهد البابلي القديم يرتدين قلادة تتدلى منها حلقة دائرية، وشكل الهلال يرمز إلى الإله سين /نانار إله القمر.
كانت المجوهرات جزءًا أساسيا من حياة سكان بلاد الرافدين، فعلى الرغم من معرفتهم بأن المجوهرات توضع ضمن الحاجات الجنائزية التي ترافق المتوفى، مع هذا كان الرجال والنساء في بلاد الرافدين يرتدون وعلى نطاق واسع القلائد، والأقراط الخاصة بالأنف والأذنين، وكذلك أساور الذراع والكاحل (بالعراقي الحـﭼل)، وكانت ذات أشكال وتصاميم متنوعة منذ ثلاثة آلاف سنة ق.م، ونرى في تلك الأشكال وضع الحجارة الكريمة في داخل إطار أو تجويف صنع عادة من الفضة أو أحيانا وبشكل أقل من البرونز، واحيانا أخرى من الذهب لزيادة ثمن الأساور ومن أجل ابراز لون الأحجار الكريمة، وكانت هذه الطريقة شائعة في جميع الفترات التي مرت بها حضارة العراق القديم، وغالبا ما كانت الأقراط مستديرة أو على شكل حلقات بسيطة أو مزدوجة أو ثلاثية تتدلى منها أوراق ذهبية كما في المجوهرات المكتشفة في المقبرة الملكية في أور، وكانت خواتم الأصابع في الغالب على شكل حلقات شبكية مطروقة جيدا ومزينة عادة بأحجار شبه كريمة، أما المواد المستعملة في صناعة المجوهرات والأكثر شعبية هي أحجار اللازورد الازرق، والعقيق الأحمر، وزجاج على شكل ماس، والذهب، والصدف، والفضة، واليشب، والكريستال الصخري، والحجر الجيري، والعقيق اليماني، وتكون تلك الأحجار النفيسة على شكل بيضوي، أو رباعي الاضلاع، أو خرز دائرية، أو أسطوانية الشكل، واحيانا مستطيلة، أو شبه منحرفة، ومن بين الجواهر كانت هناك أيضا العديد من القلائد والتمائم الصغيرة وفي بعض الأحيان كانت تأخذ شكل الحيوانات، وكان الذهب عادة منقوشا أو محببا، أما مصادر تلك المواد النفيسة فاللازورد الأزرق من جبال زاكروس ومنطقة بادكشان (Badakshan) في أفغانستان، والفضة من بلاد الاناضول، والذهب من مصر، والبرونز من خلط النحاس مع الرصاص ويأتي من جبال زاكروس، والنحاس من مـﮕان (عُمان)، ولدينا نص يعود إلى جوديا حاكم لـﮕش (2143-2124) ق.م ذكر فيه منطقة كيماش (Kimash) مدينة في عيلام، وميلوخا (يعتقد انها إما باكستان أو الصومال) كما في النص الآتي: (كيماش ، جبل النحاس الرائع مصدر هذه المادة له... وأخذوا الفضة من هناك لجوديا: بالنسبة له جلب العقيق ذو اللون الفاتح من ميلوخا). (اسطوانة A لجوديا).
كانت مصر أحدى مصدر مهم للذهب كما ورد في رسائل تل العمارنة، فقد احتكر فراعنة مصر انتاج الذهب من مناجم النوبة، وكان الفرعون امنحتب الثالث (Amenhotep) (1386- 1349) ق.م يهدي الذهب الخام الممزوج بالنحاس إلى ملوك (بابل، واشور، وميتاني، وحاتتي) وقد خلقت تلك الهدايا الفرعونية الذهبية دعوات صريحة من ملوك الشرق الأدنى القديم بضرورة زيادة كميتها أو التدقيق في نوعية الذهب المرسل اليهم كما ورد في الرسالة (عمارنة 3)، والأكثر من هذا مطالبة الفرعون بتحسين نوع الذهب المرسل وزيادة كميته، فقد عبر اشور اوبالط (Aššur-uballit) (1365–1330) ق.م ملك آشور (العصر الاشوري الوسيط) في رسالته للفرعون (عمارنة 16) (في بلادك الذهب كثير مثل التراب) ويطالب بزيادة كمية الذهب حتى يشيد له قصرا، ونفس الحالة عبر عنها بورنابرياش ملك بابل (عمارنة 4)، وبالمقابل ارسل ملوك بابل واشور هدايا إلى الفرعون منها أحجار اللازورد الأزرق على شكل خام، وخيول بيضاء، وعربات خشبية، وختم اسطواني من العقيق، ولكنهم لو يرسلوا حلي مصنعة، بعكس ملك ميتاني كان يبعث لملوك مصر حلي ومجوهرات مصنعة وليست خام، على اية حال هذه الهدايا كان هدفها توطيد العلاقة الأخوية بين ممالك الشرق الأدنى (مصر، وبابل، وآشور، وميتاني، وحاتتي)، وفيما يلي بعض النماذج من صناعة الحلي في بلاد الرافدين:
شكل 2: قلادة من الخرز تعود للأميرة أبا-باشتي (Abbabashti) من سلالة أور الثالثة (2112-2004) ق.م من معبد الوركاء (اوروك) إلى الإلهة إنانا (Eanna) الإلهة عشتار، وتعود القلادة إلى القرن الحادي والعشرون ق.م، يبلغ ارتفاع الخرزة المركزية 7 سم وهي من العقيق اليماني والذهب، (من مقتنيات المتحف العراقي في بغداد).
شكل 3: قلادة من مدينة دلبات السومرية تعود للقرن (17) ق.م من الذهب الطول (43.6) سم، كما عثر عليها مجزئة (اليمين)، شكل القلادة بعد إعادة تركيبها، (من مقتنيات متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك) (اليسار)
القلائد والخرز تعود للعصر البابلي القديم (1800-1600) ق.م، عثر عليها في مدينة دلبات (Dilbat) السومرية جنوب شرق مدينة بابل على الضفة الشرقية للفرات في محافظة القادسية، هذه الحلي الذهبية أهم الأمثلة حول صناعة الحلي الذهبية في بلاد الرافدين، يبدو من الترتيب وكأنها قلادة كاملة (شكل 3 يمين)، في الأسفل خمسة المعلقات تمثل الأشكال الرمزية الرئيسية آلهة بلاد الرافدين: القرص كبير في الوسط مع تصاميم تشبه أشعة الشمس وهي رمز الإله شماش (Shamash) إله الشمس، أما الهلال فهو رمز الإله سين إله القمر، وعلى جهة اليمين اشعة أو صواعق البرق رمز إله ادد إله العواصف، أما القرصين في داخلهما ورود فهما رمز للإلهة عشتار إلهة الحب والجنس والحرب، بينما الشكلين الانثويين الصغيرين مع فساتين طويلة تصل للكاحل في جهة اليسار فهما تمثلان آلهة الحماية والشفاعة وتدعى الإلهة اللاما (lama) وهي إلهة سومرية، (شكل القلادة بعد إعادة تركيبها) (شكل 3 اليسار)، هذه الرموز هي تقليد قديم في فن الشرق الأدنى القديم، فمثلا الورود على سبيل المثال، يمكن ارجاعها إلى الالف الرابع ق.م، في حين أن قرص الشمس، والهلال ، وصواعق البرق، والإناث بالفساتين الطويلة، ظهرت لأول مرة في النصف الأخير من الألفية الثالثة ق.م .
هذه المعلقات على القلائد التي تحمل رموز الآلهة اعتقد بأنها تملك طاقة سحرية في الأشكال نفسها، وان وجود الآلهة بشكل رموز على الحلي الذهبية كأنما نفس قوة وجود الإله في الرمز المنقوش وأنه يسكن في تلك القلائد الذهبية، ربما هذا هو السبب الذي كانت المجوهرات تقدم إلى الآلهة كهدايا توضع جنبا إلى جنب مع تمثال الإله المعبود، ومن ثم كان على سكان المدن من الطبقة الحاكمة والتجار والحرفيين والكتبة ...الخ تقديم هداياهم الثمينة وخاصة الحلي للآلهة التي ترتديها في الأعياد وخاصة عيد اكيتو البابلي (1-12) نيسانو من كل عام، ولذلك كانت معابد بلاد الرافدين من اغنى معابد الشرق الأدنى القديم، ومطمع للغزاة الأجانب لغزو بلاد الرافدين وسرقة المعابد، ولازال تقديم الهدايا من الحلي الثمينة موجودا عند عامة الناس حاليا برمي أو اهداء النذور من القطع الذهبية والمجوهرات في اضرحة الائمة (رض).
شكل 4: الصورة الأولى قلادة من آشور في القبر 45 عثر عليها تحت أرضية منزل خاص القرن (14–13) ق.م، الطول 27.5 سم من الذهب، واللازورد الأزرق، واليشب، وتشمل قطعة مربعة من اللازورد الأزرق ترتبط مع قطعة ذهبية مربعة ومخرمة، أما المعلقات فهما من حجر اليشب على شكل عجول، (من مقتنيات متحف برلين) (اليمين)، الصورة الثانية اكليل ملكي تم اكتشافه في قبر بمدينة نمرود (كالح) في القصر الشمالي الغربي تحت الغرفة رقم 49 عندما عثر على لوح حجري عليه نقشر بالخط المسماري في غرفة الدفن يبلغ عمق الغرفة 32 قدم، وذكر بانه يعود لأحدى نساء البلاط الملكي الاشوري وتدعى يابايا (Yabaya) محتمل زوجة سرجون الثاني (Šarru-ukin) (شروكين) (721-705) ق.م ، ففي أعلى الاكليل أشكال جنيات مجنحة، وازهار من الذهب، وأحجار شبه الكريمة (من مقتنيات المتحف العراقي) (اليسار)
شكل 5: الصورة الأولى قلادة من قبر في نمرود (كالح) القصر الشمالي الغربي وجد القبر محفور تحت الغرفة 49، ويعود إلى القرن 9-8 ق.م، والعقد من الذهب وقد علق به شكل أجراس ذهبية، ويعود القبر للملكة يابايا (Yabaya) محتمل زوجة الملك سرجون الثاني الاشوري، ومعها في نفس القبر اخت الملك وتدعى تاليا (Taliya)، ومعهما الملكة موليسوم-اوكانيشات-نينوا (Mullissumukannishat-Ninua ) زوجة الملك آشورناصربال الثاني، وأم الملك شلمانصر الثالث، وضمت قبورهم حوالي (10.000) قطعة صغيرة من الجواهر، و (119) قطعة كبيرة بضمنها قوارير صغيرة، وأقداح، ومزهريات، وأدوات للزينة، (من مقتنيات المتحف العراقي) (اليمين)، الصورة في الوسط أساور من نمرود (كالح) قبر 49 العائد للملكة يابايا (Yabaya) القرن 9-8 ق.م من الذهب والأحجار الشبه كريمة، نلاحظ الحجر الأزرق وهو حجر الفيروز (التركواز)، والحجر الأحمر هو العقيق، والحجر الأزرق الغامق هو اللازورد الأزرق، القطعة بجانب العقيق من الذهب، وبجانب حجر اللازورد الأزرق حبات من العقيق مثبته بغراء أبيض، في الاطار الأعلى والأسفل للسوار حجرات صغيرة ركب فيها أحجار شبه كريمة، وإلى جانب السوار خاتم من الذهب مطعم بالأحجار النفيسة (من مقتنيات المتحف العراقي) (الوسط)، الصورة الثالثة عصابة للجبين مؤلفة من 25 ورقة ذهبية بيضاوية قصيرة الشكل مدببة ومعلقة بحلقات ومرتبطة بسلسلة ذهبية، عثر عليها في المقبرة الملكية في أور وتعود إلى فجر السلالات الثالث منتصف الالف الثالث ق.م (من مقتنيات المتحف العراقي) (اليسار)
شكل 6: أقراط، وأساور الكاحل (حـﭼل )، ومشابك للشعر، وخواتم من آشور تعود للقرن الثامن ق.م صنعت من الفضة، وهي (من مقتنيات المتحف العراقي):
الصورة الأولى الشكل في الأعلى سوار من الفضة محفور في الوسط على شكل أربعة ورود وصف من المثلثات مع اثنين من الأضلاع الكبيرة، ونقش على شكل نخلتين كبيرتين مع بتلات بيضاوية، وثلاثية في نهاية السوار، أما الشكل الأول والثاني على اليسار فهما اقراط اذان على شكل هلال مع سلك يغلق في ثقب الاذن، وتتدلى قلادة صغيرة على شكل براعم لوتس مفتوحة بأربع بتلات، على كل جانب اثنين من البراعم مغلقة ومغطاة بحبيبات دقيقة جدا، أما الشكل الثالث في الوسط فهي حلقة اذن عليها ثلاث زخارف على شكل قرون مقوسة بهيئة اضلاع، وتعلق في ثقب الاذن، والشكلين على اليمين هما مشابك للشعر على شكل سلك ملتوي، والشكل الأول في الأسفل من اليسار فهو خاتم ذهبي زخرف بتسعة اسلاك ملتوية تمسك بحجر من اللازورد الأزرق، أما الشكل الوسط في الأسفل فهو خاتم فضي نقش عليه وردة و مثلثات محببة، (من مقتنيات المتحف العراقي) (اليمين)، الصورة في الوسط نجد عقد من العصر الاشوري الوسيط من مدينة آشور (1039-991) ق.م صنع من أحجار اللازورد الأزرق والذهب طوله 56 سم، وقد ورد عقد اللازورد في ملحمة الطوفان عندما صرخت الإلهة عشتار كما تصرخ المرأة في الولادة وهي ترى البشر وقد عادوا إلى الطين بسبب الطوفان .... وعندما نصب اوتو-نبشة القدور القرابين حضرت عشتار العظيمة ورفعت عقد اللازورد وقالت: كما انني لا أنسي عقد اللازورد هذا الذي في جيدي سأظل اذكر هذه الأيام (تقصد الطوفان) ولن أنساها أبدا، وبذلك كان العراقيون القدماء يفضلون اللازورد فهو في مقدمة هداياهم واثارهم الفنية الثمينة، (من مقتنيات متحف برلين) (الوسط)، الصورة الثالثة اقراط اذن من الفضة والذهب عثر عليهم في مدينة دلبات السومرية وكما يلاحظ معرفة السومريين عملية ثقب الاذن وتعليق الحلق فيها (من مقتنيات المتحف البريطاني) (اليسار)
4001 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع