جودت هوشيار
هل انتحل نابوكوف رواية " لوليتا " من كاتب الماني مغمور؟
في 15 سبتمبر 1955 صدرت عن دار نشر" اولومبيا برس " الفرنسية رواية " لوليتا " لفلاديمير نابوكوف باللغة الانجليزية ، ولكن سرعان ما تم حظرها في انجلترا والولايات المتحدة ، ثمّ في فرنسا. وكانت عدة دور نشر اميركية قد رفضت نشر الرواية بسبب موضوعها الشاذ والشائك ، الذي اعتبرته انتهاكا صارخا لبراءة الطفولة.
ان اقل ما يقال عن هذه الرواية انها ايروتيكية . وربما كان مصيرها النسيان السريع، على غرار الروايات العاطفية المثيرة التي تخصصت " اولومبيا " في نشرها ، لولا ان نسخة من الرواية وقعت بيد الكاتب الانجليزي غراهام غرين (1904- 1991) الذي نشر مراجعة لروايات عام 1955 الصادرة باللغة الانجليزية ، وقال ان " لوليتا " واحدة من افضل ثلاث روايات صدرت خلال ذلك العام ،مما أثار غضب الكثيرين ومنهم الصحفي البريطاني جون غوردن الذي نشر ردا شديد اللهجة على غرين ، واصفا " لوليتا " بانها رواية قذرة .
وعلى اثر ذلك اشتد الجدل حول الرواية في الاوساط الأدبية الانجليزية والفرنسية ، وربحت دار نشر " اولومبيا " دعوى قضائية اقامتها ضد حظر الرواية في فرنسا ، مما مهد الطريق لرفع الحظر عنها في انجلترا والولايات المتحدة. وكان كل ذلك اشهارا واسعا لرواية مثيرة للجدل عن الحب المحرم . وعند نشر الرواية في الولايات المتحدة عام 1958 تصدرت على الفور لائحة افضل الكتب مبيعا . واصبح اسم كاتبها على كل لسان ،بعد ان كان معروفا فقط في اوساط المثقفين الروس المهاجرين ، ولدى الباحثين في الأدب الروسي . وكانت " لوليتا " الرواية الثانية عشر لنابوكوف والثالثة التي يكتبها بالانجليزية . وربما هنا يتبادر إلى الذهن تساؤل مهم ، هل كان الكاتب الروسي شبه المغمور سينال الشهرة العالمية لو لم يكتب هذه الرواية . وكان نابوكوف نفسه يردد دائما : " لست شهيراً، لوليتا هي الشهيرة ".
من كتب " لوليتا " أولاً ؟
رجل مثقف في منتصف يتذكرقصة حبه الجارف لصبية تبلغ الثانية عشرة من عمرها ، تحمل علامات واضحة وجذابة لمراهقة مبكرة . كل شيء يبدأ عندما يسافر البطل – راوي القصة – الى الخارج ، ويستأجر غرفة في منزل احدى السيدات . وفي اللحظة التي يقع فيها بصره على ابنة صاحبة المنزل يتعلق يها ، ويستعبده سحرها ، دون ان يعير اهتماما لفارق العمر بينهما . وتنتهي القصة بموت الفتاة الصغيرة . ولكن الرجل يظل يتذكرها الى آخر يوم في حياته .
نحن نعرف ان اسم هذه الفتاة " لوليتا " ونعرف قصتها . ولكن المؤلف ليس نابوكوف ، بل الكاتب والصحفي الألماني هاينز فون ليشبرغ ( 1890-1951) .
مقال مثير
في مارس 2004 نشر الباحث الأدبي الألماني البارز ميكائيل مار– المتخصص في ادب نابوكوف - مقالاً في صحيفة " فرانكفورت الجماين " تحت عنوان" ماذا عرف نابوكوف؟ " سرعان ما ترجم الى الانجليزية ونشر في ملحق التايمز الادبي ، أشار فيه الى ان نابوكوف استعار فكرة رواية " لوليتا "، وحبكتها ، وحتى اسم بطلتها الرئيسية ، من قصة قصيرة للكاتب الألماني " هاينز فون ليشبرغ ، الذي اصدر عام 1916 مجموعة قصصية تتألف من خمس عشرة قصة تحت عنوان " جوكوندا اللعينة " بضمنها قصة بعنوان " لوليتا ".
وثمة اوجه تشابه عديدة بين العناصر الاساسية لرواية نابوكوف وقصة ليشبرغ : غرفة مستأجرة في الخارج ، رجل في منتصف العمر مهووس بصبية متقلبة المزاج ، في الثانية عشرة من عمرها ، ويقيم علاقة حميمية معها ، وتنتهي القصتان بموت " لوليتا" .
اثار مقال ميكائيل مار ضجة في الاوساط الادبية الاوروبية والاميركية . وادعى بعض الباحثين المتخصصين في ادب نابوكوف ، ان كل هذه العناصر المتشابهة مجرد مصادفات ، وهذا امر قد يحدث احيانا في العديد من الاعمال الأدبية . وكان نابوكوف يقول انه لا يعرف اللغة الالمانية .
The Two Lolitas اللوليتان - (وفي عام 2005 أصدر ميكائيل مار كتابا صغيرا باللغة الالمانية تحت عنوان " اللوليتان "
ويقصد بذلك لوليتا نابوكوف ولوليتا ليشيرغ ، أورد فيه معلومات جديدة عن العلاقة بين الكاتبين الروسي والالماني ، ومدى تأثر نابوكوف بقصص زميله الالماني. وقد ترجم الكتاب فور صدوره الى الانجليزية والفرنسية ولغات أخرى .
ومنذ ذلك الحين لم يهدأ الجدل حول هذا الموضوع ، وان كان يخفت لبعض الوقت ، ويشتد من جديد مع اكتشاف معلومات جديدة عن علاقة نابوكوف المباشرة وغير المباشرة بليشبرغ وعائلته.
اكتشافات مار الجديدة
لم يكتف مار بتحليل " اللوليتين "، بل قام باستقصاء واسع وبحث طويل في الأرشيفات الالمانية ، للوقوف على مدى معرفة نابوكوف للغة الالمانية وعلاقته بأسرة ليشبرج ، والقى المزيد من الاضواء على هذه المسالة في الحوار المطول ، بينه وبين الكاتب الروائي والمسرحي الالماني المعروف " دانييل كيلمان " الذي نشر نص المقابلة في مجلة " شيشرو " الالمانية ، ثم في مجلة " باريس ريفيو " الشهيرة عام 1916 .
وقد اكد الباحث الالماني ان نابوكوف كان يعرف الالمانية جيدا ، ولكنه لم يكن يعترف بذلك . وهذا امر في غاية الغرابة ، إذا علمنا ان نابوكوف قد ترجم بعض مؤلفات يوهان غوته و هاينرش هاينه من الالمانية الى الروسية. كما قام بمراجعة وتدقيق الترجمة الالمانية لاحدى رواياته ، وتصحيح الأخطاء اللغوية والاسلوبية فيها واعترف نابوكوف في مذكراته المعنونة " تكلمي ايتها الذكريات " بأنه قرأ اعمال توماس مان وفرويد بالالمانية . ان من يترجم من الالمانية، أو يصحح النصوص المترجمة الى هذه اللغة، لن يجد صعوبة في قراءة مجموعة قصصية المانية.
من المعروف ان نابوكوف قضى خمسة عشر عاما في المانيا بين عامي ( 1922-1937). وتوصل الباحث الى ان نابوكوف وليشبرغ كانا يقيمان في الحي نفسه في برلين ، وان نابوكوف كان يستأجر غرفة في منزل سيدة تمت بصلة القرابة الى ليشبرغ ، الذي ربما كان يزور قريبته . ويكاد الباحث يجزم بأن نابوكوف قد قرأ مجموعة قصص "جوكوندا اللعينة ". وكان ليشبرغ كاتبا على هامش الأدب الالماني ، وصحفيا برز خلال العهد النازي بعد وصول هتلر الى السلطة . ثم طواه النسيان تماما ، قبل اكتشافات مار المثيرة .
في عام 1937 كتب نابوكوف رسالة الى زوجته فيرا يتحدث فيها عن صاحبة المنزل الذي اقاما فيه من عام 1929 الى 1932 . وهذا يشير الى ان علاقة نابوكوف لم تنقطع بصاحبة المنزل خلال السنوات الخمس التالية .
هل يمكن القول اننا امام عملية انتحال ؟ . من الصعب تأكيد ذلك ، حتى لو افترضنا ان نابوكوف كان على دراية بقصص ليشبرغ ، لأننا لو تتبعنا اعمال نابوكوف الادبية لوجدنا ان صورة الحورية الصغيرة لم تكن تغادر خياله. وقد رافقته لفترة زمنية طويلة، وكان يعود اليها بين حين وآخر .
ثمة اشارات في العديد من اعمال نابوكوف الشعرية والنثرية ، الى الحورية الصغيرة ، منها على سبيل المثال لا الحصر قصيدة (ليليث ) التي كتبها عام 1928 عندما كان يعيش في برلين ، وهي تتناول قصة حب متخيلة بين الراوي وبنت على عتبة المراهقة ..
وفي عام 1933 نشر تابوكوف رواية " الكاميرا الغامضة " عن قصة حب مؤلمة لرجل بالغ لصبية صغيرة ، وكذلك رواية " ادا" التي تتناول قصة حب مماثلة حيث تستسلم صبية صغيرة في الثانية عشرة من عمرها لزميلها (فان) ، الذي يكبرها بعامين . ولنابوكوف رواية قصيرة بعنوان " الساحر " كتبها في باريس عام 1938 ، ولم تنشر خلال حياته . وكانت آخر رواية كتبها باللغة الروسية . وقد قام ابنه ديميتري بترجمتها الى اللغة الانجليزية في عام 1986 ونشرت في العام التالي .، وهي ذات حبكة مشابهة لرواية " لوليتا " . ومن حقنا ان نتساءل هل كان نابوكوف نفسه مهووسا بالحوريات الصغيرات ؟
اوجه التشابه العديدة بين اللوليتين لا يمكن أن تكون محض مصادفات . ومع ذلك لا يمكن اتهام نابوكوف بالانتحال المتعمد ، بل اننا امام عملية اعادة صياغة لحبكة قصة ليشبرغ ، وتحويلها الى عمل فني كبير وممتع. وهذا هو التفسير الأكثر ترجيحا للتشابه المدهش بين ( اللوليتين )
327 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع