عبد الوهاب بدرخان
لعبة قديمة، مستمرة ومتجددة، بين المكوِّنات الاجتماعية العراقية، لكنها تدور في الأعم الأغلب بين مكوِّنين اثنين من دون ثالثهما، وتكون عادة على حساب هذا الأخير. فكلما تشنجت العلاقة بين الشيعة والأكراد، مثلاً، يتجه كلٌ من هذين إلى السنة يستنصرهم على الآخر وضدّه.
وعندما تعقَّدت الأزمة أخيراً بين الثلاثة دفعة واحدة، فعمّت الاعتصامات والاحتجاجات محافظات السنة، صار مجلس وزراء نوري المالكي منغلقاً على مكوِّن واحد من دون الآخرين.
هذا، إلى أن تصاعدت مخاطر الصدام الطائفي والمذهبي، فهم المالكي أن كسر الاعتصامات بالقوة، تأسيساً على التجربة في "الحويجة"، يعني حرباً أهلية مفتوحة يفقد معها كل الذرائع التي يستخدمها لتغطية الحكم الفردي الذي استطاع بلورته.
في هذه اللحظة اشتعل الضوء الأحمر، الذي ينذر رئيس الوزراء بأن نهجه غير مقبول، ولو اقتصر الأمر على إنذار أميركي لظل المالكي يعتبر الضوء الأحمر برتقالياً، ما يمكنه من متابعة التحدي، لكنه كان إنذاراً من راعيتيه الأميركي والإيراني: هذه ليست لحظة مناسبة لإشعال العراق، وهذا لن يفيد شيئاً إذا كان الهدف إنقاذ النظام السوري ودعم بقائه، بل إنه غير مواتٍ تماماً لاستكمال فدرلة العراق تحت وطأة تأزيم داخلي وإقليمي وليس بتفعيل هادئ لدستور التقسيم. إذاً، لابد من تغيير الوجهة والطريقة، وطالما أن هناك إمكاناً لمعالجة الأزمة بعناصرها الداخلية، فلا داعي للتحجج بأبعادها الخارجية، خصوصاً أن المالكي كرر الحديث عن الطائفية وكأنها وباء مستورد.
فجأة، تبعاً للضوء الأحمر، أصبح الاتفاق مع الأكراد ممكناً، فضّل المالكي التراجع عن كل المواقف المتشددة التي أجج بها خلافه مع أربيل، آملاً في أن يضعف موقف السنّة ومطالبهم. أما الأكراد، الذين تلقوا بدورهم "نصيحة" أميركية، فوجدوا الفرصة سانحة لانتزاع اتفاق يحقق مصالحهم، غير عابئين بالحراك الذي أبدوا شيئاً من التعاطف معه استفزازاً للمالكي، لكنهم أيقنوا أن التأزم الشيعي- السُني فرصة مواتية لتحقيق مكاسب. ثم أن أي ليونة يبديها المالكي تعكس عملياً تقاطع "النصائح" بين أميركا وإيران. وهذا في حد ذاته تطور لافت بالنظر إلى "الحرب بالواسطة"، التي يخوضها الأميركيون والإيرانيون في أكثر من مكان، خصوصاً في سوريا.
بالنسبة إلى العقل السياسي لدى المالكي، لابد أن اتفاق النقاط السبع مع نيجيرفان بارزاني يمثل انكساراً وهزيمة سيسعى إلى جعلهما مرحليين، لأن العبرة في التطبيق.
وبالنسبة إلى الجانب الكردي فإنه سارع إلى بث عبارة أن هذا الاتفاق ليس موجهاً ضد أحد وليس على حساب أحد. كان يمكن أن يكون هذا صحيحاً لولا أن كل سياسات إقليم كردستان تشي منذ زمن بأنه لم يعد معنياً بـ"العراق" ولا بمشاكل المكوّنات. صحيح أنه لم يظهر تبنياً للحراك السُنّي، ولم يربط توافقه مع بغداد بتوافقها مع المطالب المحقة للمعتصمين، ولم ينسق مع أطراف عراقية أخرى قبل الحصول على مكاسبه.
لكن هذا لا يعفيه من اللوم والمسؤولية، فحتى لو كان مركزاً منذ عشرة أعوام على تحقيق انفصاله، لابد أن يهتم بالوئام في جواره، أقلّه لحماية الانفصال ومستقبله.
لا شيء مؤكداً، لكن ربما يكون المالكي تعلّم شيئاً من صراعه مع الأكراد واضطراره لإرضائهم في ملفات الميزانية والنفط وإدارة المناطق المتنازع عليها، وترسيم الحدود بين المدن وتعويض المتضررين الأكراد من ممارسات النظام السابق بمن فيهم المرحّلين الذين نزحوا إلى دول الجوار. فهل تعلم شيئاً من الأزمة مع السُنّة؟
هل أدرك أنه أخطأ حين أعاد إنتاج نظام الاستبداد فيما يشير يومياً إلى أنه يعمل وفقاً للدستور والقوانين؟ هل لاحظ مثلاً أن حلفاءه المضطرين وغير المخيّرين من الشيعة يئسوا بدورهم من إمكانية عودته من تغريبته "الصدامية"؟ وهل نسي، أخيراً، أنه عندما نصّب رئيساً للوزراء في المرة الأولى كان على جدول أعماله بند رئيسي ملحّ وعاجل عنوانه "المصالحة الوطنية"، وأن الأميركيين طالما أثاروا معه هذا الاستحقاق خلال التحضير لانسحابهم، لكنه أدار لهم أذنه الصماء؟ لا، هو يعرف ولم ينسَ، لكنه انتهج عدم الاعتراف بالأخطاء وسيلة للتسلط.
حتى مكافحة الإرهاب لا تصلح كذريعة للتعامل بحقد وتميز مع أي فئة من الشعب، فكيف إذا كانت أحد مكونات المجتمع التي يعترف بها الدستور. وإذا لم يكن الحاكم قادراً على التعامل مع المعتدلين المنتخبين، بحجة أن هناك إرهابيين على الهامش، فهذا يعني أنه عاجز عن التعايش مع أحد إلا بإخضاعه. أين "الديمقراطية" في ذلك؟
المشكلة مع المالكي أنه لم يعرف في حياته سوى ثلاثة نماذج من الأنظمة، العراقي السابق، والسوري، والإيراني، وهي متماثلة. لذلك أخذ النظام العراقي "الجديد" إلى مزيج منها جميعاً.
1465 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع