د. ضرغام الدباغ
الحرب على اللغة العربية ليس جديداً
في الستينات من القرن الماضي، كنا شباناً نتوق للعمل الوطني / القومي، آنذاك قرأنا محاولة قام بها مهووسون بالعداء ضد العروبة في لبنان، فكانوا يحاولون أولاً إحلال اللغة المحكية بدل الفصحى، ثم تمادوا أكثر فطالبوا بإبدال الحروف العربية بحروف لاتينية أو ما يماثلها. وتملكنا الغضب وقتها، ولكن الزمن كان زمن صعود المد القومي، فهمدت هذه الموجة ولم تبلغ أي من أهدافها.
ثم أني توفر لي الوقت لأقوم بترجمة عمل موسوعي ضخم بأربعة أجزاء، قام به مجموعة أستاذة كلية الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جامعة لايبزغ بألمانيا في مطلع السبعينات، وفي هذا العمل الموسوعي وبذلك تيسر لي أن أعلم، أن الهجوم العاتي على الثقافة العربية، كلغة وحضارة لم يتوقف يوماً، تبذله قوى العالم الغربي، وهو مجهود كبير وغريب فعلاً. لأن ما تقوم به المؤسسات الغربية (جامعات، وقوى تبشيرية، ومعاهد ذات بعد استخباري، ومدارس) هو مجهود لو رصدناه بدقة لوجدنا أنه ضخم جداً، وهذا يتطلب بالضرورة وجود جهة وراءه تدير هذا العمل الكبير (مؤسسة ــ هيئة ــ جمعية)، وتتولى الإنفاق السخي على هذا المشروع، ولو تأملنا كم من المدارس الأجنبية في بلداننا، في كافة المراحل الدراسية (من الابتدائية وحتى التعليم الجامعي) لأنتابك العجب فعلاً لهذه المساعي المحمومة ، وتتعجب أكثر، عندما تعلم أن مثل هذا المجهود لا تبذله هذه القوى في دول أخرى في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ربما هي بحاجة أكثر لهذه المؤسسات التعليمية، ومنها نعلم أن الأمر ليس علمياً بل هناك مآرب أخرى، وعلينا أن نفتش جيداً.
وإذ لا يمكننا تجاهل الدور الثقافي والعلمي التنويري الذي مارسته هذه المؤسسات الأجنبية، لابد لنا من ذكر حقيقة موضوعية، أنها لم تكن تفعل ذلك هبة منها لوجه الله، بل كان ذلك ضمن مخطط له صفحاته التفصيلية، وقد تسابق الفرنسيون والأمريكان والإنكليز والإيطاليون بصفة خاصة، فتنافست هذه الأطراف فيما بينها، تنافساً بدا في بعض مراحله تناحرياً من أجل إحراز النفوذ الثقافي، وليس أدل على ذلك، حجم الأنشطة والفعاليات الثقافية التي كانت تتنازعها تيارات الثقافة الأنكلوسكسونية والفرانكفونية، وفي مرحلة ما بين الحربين العالميتين، حيث كانت إيطاليا تسعى لتكريس نفسها كقوة عالمية، والهيمنة على البحر الأبيض المتوسط وجعله بحيرة (رومانية)، فاستخدمت بدورها المدفعية الثقافية، ففي العام 1937 سجل تصاعد مثير للدهشة رقم المدارس الإيطالية في مصر إلى رقم مدهش: 64 مدرسة تضم أكثر من 10 آلاف طالب، مقابل 39 مدرسة بريطانية تضم 5 آلاف طالب !
وجدير بالذكر والإشارة، أن هذه الأطراف الاستعمارية والإمبريالية أدركت حقيقة أن أحد مكامن قوة الأمة العربية تكمن في لغتها، فسعت دون هوادة إلى إضعاف أسس هذه اللغة وذلك بمحاولات إبدال الحروف العربية باللاتينية كمقدمة لتحجيم تطورها و إضعافها وتلاشيها على المدى البعيد، فحاولت ذلك في مصر ولبنان وإلى فرض اللغة الأجنبية على عرب شمال أفريقيا وبلاد الشام وإحلال الثقافة الفرنسية فيها، والإنكليزية في مصر والسودان والأردن، وقد بذلت مجهودات كبيرة في هذا الاتجاه ولكنها باءت بالفشل الذريع.
ومن جملة مساعي الدوائر الثقافية الاستعمارية أيضاً، كانت ولا تزال تهدف إليه، يتمثل بإحلال اللهجات المحلية بدلاً من الفصحى، وكذلك في محاولاتها لإبراز خصائص معينة في ثقافة قطرية وتقديمها بشكل يطغي على الخصائص الموحدة للثقافة العربية وفي مقدمة ذلك اللغة العربية الفصحى، فسعت إلى الفينيقية في لبنان وإلى القبطية في مصر، واستغلت في مساعيها المحمومة والخبيثة كل مكامن الضعف والثغرات، أو سعت بنفسها إلى خلقها وأحياء المتلاشي منها واستنهاض الضعيف فيها واستخدمت لهذه الغاية عناصر مرتدة، ارتضت للأسف التعاون مع الأجنبي لأسباب شتى، وربما أعتقد قسماً من هؤلاء(تحت ضغوط شتى) أن اعتناق ثقافة أجنبية وهي ثقافة القوى العظمى ستمنحه قيمة مضافة.
كان هذا في مراحل ما بعد قبل الحرب العالمية الثانية، والأمر تغير بنسبة ما، بسبب التغيرات الجوهرية على مسرح السياسة الدولية، فالفاشية الإيطالية هزمت، والنازية العنصرية الهتلرية قضي عليها، وقام الاتحاد السوفيتي كقوة اشتراكية عظمى، وترسخ وجود منظومة البلدان الاشتراكية، واتسعت الأفكار الاشتراكية عالميا إلى الصين وكوريا وفيثنام، وكوبا، وبلدان كثيرة بنهج التطور اللأرأسمالي، ولكن الغرب الاستعماري / الإمبريالي لم يغير من أخلاقه .. ولكن تغيرت أساليبه فحسب ..!
وما أن انتهت الحرب الباردة على الاشتراكية، صار هناك مزيد من الوقت للتركيز على البلاد العربية والإسلامية تحت شعارات شتى. فهبت أفكار عنصرية فاشية من الولايات المتحدة (صاموئيل هينتغتن ــ فرانسيس فوكوياما)، وبالمقابل أفكار وحركات يمنية تجدد الفاشية والنازية في إطارات جديدة ولكن بذات المحتوى. والهدف الأول المعلن لهذه التوجهات هم العرب والمسلمون، واليوم تتسيد الساحة في العالم الغربي، الولايات المتحدة وأوربا الأحزاب اليمينية من النازية الجديدة .
في أواسط العقد الأول من القرن الجديد (ربما 2005) شاهدت برنامجاً للإعلامي فيصل القاسم، يقابل فيه طرفين أحدهما يدعو صراحة لتبديل اللغة العربية حروفاً وتفاصيل أخرى، وشخصية أكاديمية كانت تفند ما يزعمه الشخص الأول الذي كان يبدو عليه بوضوح تام أنه ملقن، لا يضره أن تعلم أنه مأجور، وأنه ينفذ ما تعاقد عليه، ولا يخرج عن خط سيره هذا قيد أنملة. والحجج واهية وسخيفة، لأن الحروف العربية أسهل للكتابة والفهم من كثير من لغات العالم منها اليابانية والصينية مثلاً، وأنا أعلم من صديق عراقي / ياباني، أن الفرد الياباني قد يبلغ الخامسة عشر من العمر وهو لا يجيد الكتابة بلغته الوطنية وهي ثلاث أنظمة من الحروف. والفنلنديون كانوا حتى الحرب العالمية الثانية يتحدثون بالألمانية كلغة رسمية، لأن لغتهم معقدة وصعبة، برغم ذلك استبدلوها بلغتهم، لأن لا يوجد بينهم من يقترح " لنبق على اللغة الأجنبية لأنها أجمل ..! ".
تصدر وزارات الخارجية في بلدان العالم كافة، كتابا سنويا يدعى " الكتاب الأبيض" ويتضمن جرداً للعناصر الدبلوماسية والإدارية لكافة السفارات الأجنبية المعتمدة في عاصمة البلاد. بما في ذلك اسم الموظف (دبلوماسي / إداري)، وبالطبع حجم السفارة يشير إلى حجم العمل، ولا سيما الدول المتقدمة لا يبعثون بموظف بلا عمل حقيقي. ولذلك السفارات التي تضم مثلاً 30 ــ 40 موظف تعتبر سفارة كبيرة جداً ويشير إلى حجم عمل واسع، فهناك بعثات من 3 موظفين فقط، الآن المفاجأة الكبرى، كم يتصور المرء حجم سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في القاهرة ...!
ربما سيعتقد البعض أنها ستبلغ 100 كأقصى عدد .. ولكن العدد هو 11 ألف وكسور موظف ...! تخيل ماذا يفعل هذا الجيش العرمرم ...! سأروي لكم واحدة من فعالياتهم واحدة فقط ... صاحب مكتبة قديمة بالازبكية شارع المكتبات أسمه عربي لا يدل على شيئ، يدخل موظف السفارة الأمريكية إليه، ويسأله عن كتب باللغة القبطية، فيجيبه الرجل، لا توجد كتب باللغة القبطية، فهذه لغة منقرضة، وأنا قبطي ولكني أتكلم وأقرأ وأكتب باللغة العربية. الموظف الأمريكي ينفعل ويعنف المصري، لماذا تنسى لغتك ولغة أجدادك، فيجيبه المصري حتى أجدادي يتكلمون العربية، والأمريكي ينفعل ويقترح عليه اعلم اللغة القبطية، المصري يجيب لا أحد يعرفها، يتطوع الأمريكي ويقول نحن سنفتح دورة تعليم القبطية، ونحن مستعدون لتزويد بالمطبعة مجاناً لإحياء اللغة القبطية ......!
في أوربا، ابسط وسيلة لإحراز تقدم هو إظهار كرهك أو عدم احترامك للدين أو لقوميتك (للعرب والمسلمين)، فهذا مفتاح النجاح، وأسخف المغنيات العربيات بمجرد أنه تلبس ملابس خليعة وتغني يدفعونها للأمام لتحقق نجاح مزور. وأستاذ منحط، ألف كتاباً متهافتاً للغاية، أعتبر فيه وجود الرسول (ص) كذبة، ولا وجود له، فأشتهر الرجل وتحسنت أحواله ... وغيره كثير.
الطريق إلى اللجوء السياسي يمر عبر اختراع أكاذيب وبعض الحقائق المخجلة منها إدعاء الشذوذ الجنسي، وبعضهم يوافق على إقامة علاقات شاذة من أجل قبول لجوءه ... هذا عدا من يغير دينه ويرتد للمسيحية من أجل قبول طلب لجوءه.. وهناك معلومات وفيرة بهذا الخصوص، من مصادر إعلامية أوربية.
الجديد في الحملة، أنها تمر في ذروة مراحلها على الإطلاق، ولكن الهجمة ستنحسر، بسبب تغيرات على مسرح السياسة والعلاقات الدولية، ومن يراقب بدقة يلاحظ أن الهجوم في ذروته كبير ومتعدد الجبهات، ويتميز بتجنيد هذه القوى لعناصر محلية (تحت شتى العناوين)، ارتضت لنفسها أن تخدم المصالح الأجنبية المعادية، وأن تكون للأسف معاول هدم لمكونات هويتها.
للجميع نقول، أن هذه الحملة العاتية ستسفر عن تساقط بعض المنهارين اصلاً من بائعي الضمير، فعندما يشتد الوطيس وتزلزل الأرض تتساقط الأجزاء الضعيفة من القلعة، والأمة يوم كانت ضعيفة فعلاً قبل أكثر من مئة عام، استطاعت بوسائل غريزية أن تدافع عن نفسها، ورغم أن الأمة خسرت الكثير، ولكنها نجحت في الحفاظ على مكوناتها الأساسية، الجهاز المناعي للأمة بخير، وستسقط المساعي المعادية، والمتعاونون سيبقون بسواد الوجه.
1753 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع