الاستاذ الدكتور صلاح رشيد الصالحي
جهود سيتي الأول في ترسيخ هيبة مصر في سوريا وفلسطين
حكم سيتي الأول (Seti) مصر (أخذ اسمه من الإله ست، مما يشير إلى أنه كرس لهذا الإله، وهو الوحيد الذي يحمل هذا الاسم من بين جميع ملوك مصر)، وسنوات حكمه غير مؤكده كما هو الحال مع جميع التواريخ في مصر القديمة، لذا فإن التواريخ الفعلية لعهده غير واضحة، ويذكر العديد من المؤرخين تواريخ مختلفة، مثلا من (1294) ق.م إلى (1279) ق.م، أو من (1290) ق.م إلى (1279) ق.م، والتاريخ الاخير أكثر قبولا من قبل العلماء اليوم، وعندما استلم العرش بعد وفاة رعمسيس الأول كان عمره قد تجاوز الأربعين عاما، وبذلك فان سيتي الأول كان يعاصر موواتالي الثاني (Muwatili) (1295-1272) ق.م الملك الحثي الذي كان منشغلا في سنواته الأولى في حروب لتثبيت سلطته السياسية في غرب الاناضول، وداخليا إجراء بعض التغيرات في مملكته منها نقل مركز الدولة من العاصمة حاتوشا إلى مدينة تارخونتاشا (Tarḫuntašša) في جنوب وسط الاناضول، وإذا اخذنا بفكرة الباحث (Singer) حول اختيار موواتالي الثاني ولده اورخي-تيشوب (Urḫi-Teššup) خلفا له بدلا من كورنتا (Kurunta)، فيمكن ان نفترض، بأن اولمي-تيشوب (Ulmi-Teššup) وكورنتا نفس الشخص، وإن كان هذا غير مقبول من قبل بعض العلماء، ومن راي الباحث (Singer) أن كورنتا كان ابن الملكة دانو-خيبا (Danu-Ḫepa)، فقد عثر على بعض طبعات ختم جديد في (Westbau) في موقع نيصان تبة (Nişantepe)، تقدم أدلة قاطعة أن دانو-خيبا كانت زوجة مورسيلي الثاني (Mursili )، وليست زوجة الملك موواتالي الثاني: وعلى الأرجح أن كورونتا هو ابن مورسيلي الثاني فقد كان صغيرا جدا عند وفاة والده ومن الصعب ان يستلم عرش حاتوشا، ويستمر الباحث (Singer) بقوله ان اورخي-تيشوب (Urḫi-Teššup) كان توخانتي (tuḫkanti) (بمعنى ولي العهد) وان موواتالي الثاني كان وصيا على العرش حتى بلوغ الطفل كورنتا السن القانوني لكنه اغتصب العرش من الطفل الصغير وارسل كورنتا إلى أخيه حاتوسيلي الثالث (Hattusili) حتى يكون تحت سيطرته، عموما هناك فوضى في بلاط حاتوشا (Hattusa) وبالتالي كانت المناطق التابعة للحثيين في شمال سوريا والساحل المتوسطي تحرسها قطعات صغيرة أو جيوش يقودها الملوك الصغار التابعين مثل امورو، واوغاريت، وحلب، وايمار، وحتى قادش.
شكل 1: بدو (شاسو) يحاولون الفرار من هجوم سيتي بالركض نحو بلدة كنعان وهم على التل، في الأعلى كسر بدويان أسلحتهما كعلامة على الاستسلام، البدوي ثالث يلوح بذراعيه علامة الخضوع
ترك سيتي الأول منحوتات في بهو الاعمدة بمعبد الكرنك بهيئة منظر بانورامي لمشاهد الحرب وتخليد إنجازاته العسكرية، وتعتبر أول آثار حروب الرعامسة العظيمة، خاصة بعد الاضطرابات الاجتماعية الهائلة التي ولدها الإصلاح الديني لإخناتون، لذلك كانت الأولوية الرئيسية لحور-محب ورعمسيس الأول وسيتي الاول هي إعادة إرساء النظام في المملكة وإعادة تأكيد سيادة مصر على كنعان (فلسطين) وسوريا، والتي تعرضت للخطر بسبب الضغوط الخارجية المتزايدة من الدولة الحثية، وقد واجهها سيتي الاول بقوة وتصميم.
في السنة الأولى من حكمه، قاد جيوشه على طول الساحل الشرقي للمتوسط أو ما يعرف (طريق حورس العسكري)، وهو الطريق الساحلي المؤدي من مدينة تجارو (Tjaru) المصرية (زارو / سيل) (Zarw/Sile) في الركن الشمالي الشرقي من دلتا النيل المصرية وعلى طول الساحل الشمالي لسيناء، واتجه نحو غزة (Gaza)، ويتكون طريق حورس من سلسلة من الحصون العسكرية لكل منها بئر، والتي تم تصويرها بالتفصيل في مشاهد حرب الملك على الجدار الشمالي لبهو الأعمدة في الكرنك، حيث صور أثناء عبور سيناء وهو يحارب قوات من البدو المحليين أطلق عليهم اسم شاسو (Shasu) في كنعان (شكل 1)، كما نال تكريما (هدايا وجزية) من بعض الدويلات المدن التي زارها، بما في ذلك بيت -شان (Beth-Shan)، ومع هذا كان لا بد من تدمير البدو ولكنهم انهزموا بسهولة وأسر عدد منهم.
واصل سيتي الأول حملته بالسير على طول شرق الساحل المتوسطي ولم يجابه قوة كبيرة تقف أمامه، ففرض الولاء على بلاد امورو وهي إحدى الدول الصغيرة التابعة للحثيين وتقع في سهل بعلبك (لبنان الحالية)، ثم اتجه نحو مدينة قادش (Kadesh) وهذا هو الإنجاز العظيم لسياسة سيتي الأول الخارجية، وهو الاستيلاء على مدينة قادش السورية وانتزعها من الإمبراطورية الحثية، والمعروف لم تستعيد مصر قادش منذ عهد إخناتون، وسبق وان فشل توت -عنخ –آمون، وحور-محب في استعادة المدينة من الحثيين، بينما نجح سيتي الاول في هزيمة قوات حثية حاول الدفاع عن المدينة دون جدوى، فدخل المدينة منتصرا مع ابنه رعمسيس الثاني (شكل 2)، وأقاموا لوحة الانتصار في الموقع، ومع ذلك، سرعان ما عادت قادش إلى السيطرة الحثية لأن المصريين لم يحافظوا على الاحتلال العسكري الدائم لقادش، وحتى بلاد امورو (Amurru) التي كانت قريبة من الوطن الحثيين تركت دون قوات لحمايتها، ومن غير المحتمل أن يكون سيتي الأول قد أبرم معاهدة سلام مع الحثيين أو أعاد طواعية قادش، وامورو إليهم، ولكن ربما توصل سيتي الاول إلى تفاهم غير رسمي مع الملك الحثي موواتالي الثاني بشأن الحدود الدقيقة للإمبراطوريتين المصرية والحثية.
شكل 2: الملك سيتي الأول يهاجم مدينة قادش في سوريا
لم تشر المصادر الحثية صراحة حول انتصارات سيتي الأول ولا اسم القائد الحثي أو مواقع القوات الحثية التي قاتلها سيتي الأول في سوريا، وكذلك لا نملك نص المعاهدة ان وجدت بين موواتالي الثاني الملك الحثي وسيتي الأول فرعون مصر والتي تنظم الحدود بين المملكتين، ولكننا نعرف ان انتصارات سيتي الأول حفزت موواتالي الثاني ان تكون الحرب القادمة مع المصريين حاسمة بمعنى الكلمة، ولهذا استغرق الامر منه اجراء تغيرات داخلية في مملكته منها نقل العاصمة من حاتوشا(Hattusa) إلى تارخونتاشا (Tarḫuntašša) في جنوب بلاد الاناضول، ونقل تماثيل الآلهة ورفات اسلافه الملوك الحثيين إلى عاصمته الجديدة، وتعين أخيه حاتوسيلي الثالث (Hattusili) قائدا على الحرس الامبراطوري، كل هذا استغرق منه خمسة سنوات منذ وفاة سيتي الأول وحتى استلام ابنه رعمسيس الثاني الحكم حيث استأنفت الأعمال العدائية بين الطرفين، وقام رعمسيس الثاني بمحاولة فاشلة لاستعادة قادش (Kadesh)، وكادت المعركة ان تقضي على حياة رعمسيس الثاني لولا تدخل قوة من بلاد امورو انقذت الفرعون، وقد واجه ملك امورو بنتي-شينا الأسر والنفي إلى حاتوشا (Hattusa) جراء وقوفه إلى جانب مصر، والرجل كان معذور فعندما وصل سيتي الأول إلى بلاد امورو لم تكن هناك قوة حثية تدافع عن البلاد لهذا اجبر على التوقيع بالتزام بالولاء لسيده الجديد سيتي الأول، يبدو ان تبريرات التي قدمها بنتي- شينا ملك بلاد امورو وجدت اذن صاغية من قبل الملك موواتالي الثاني واخيه حاتوسيلي الثالث، فتقل من حاتوشا إلى مدينة حاكبيس (Hakpis) في الشمال وسط الاناضول (محتمل بالقرب من قورم Çorum) تحت عهدة حاتوسيلي الثالث ملك الشمال، فيما بعد ارتبط الاثنين بصداقة ومصاهرة واعادته ملكا على امورو، وهكذا لم تكن معركة قادس حاسمة كما تمناها كلا الطرفين، ومن الآن فصاعدا أصبحت قادش تحت السيطرة الحثية فعليا على الرغم من احتلال رعمسيس الثاني للمدينة مؤقتا في عام حكمه الثامن.
وهكذا انسحب سيتي الأول من سوريا ولم تكن حروبه هناك ضخمة لو قارناها بمعركة قادش على الرغم من انتصاراته، و تم تصوير الحصون التي شيدها الملك في هذه المناطق في ترتيبها الجغرافي على الجدار الشمالي من بهو الأعمدة بمعبد الكرنك، فبدأ بالمركز الحدودي (ثارو) (مدينة القنطرة المطلة على قناة السويس حاليا) ، وحتى تخوم فلسطين، وقد وصفت وبدقة متناهية عمليات البناء ومكان كل بئر وكل شجرة، وقد وصلتنا يوميات أحد ضباط مركز الحراسة في هذه التحصينات من عهد مرنبتاح (حفيد سيتي الأول) وهي تشهد أن صحاري مصر لم تكن أرضا قفرا كما قد يتصورها البعض.
شكل 3: الملك سيتي الأول يقود أسري الليبيين إلى مصر
لم تتوقف حملات سيتي الأول انما لديه حمله اخرى ضد الليبيين وسجلها على جدران معبد الكرنك في الأقصر (شكل 3)، واخبرنا عن وصول هجرات هند-اوربية إلى غرب النيل (شعوب البحر) وتمكن سيتي الأول من هزيمتهم وسجل اخبار انتصاراته في مقبرته في (طيبة) (الأقصر) التي احتوت على رسم المعارك الحربية وبحجم كبير على جدران المعابد، وأصدر مرسوم – سمي مرسوم سيتي الأول- إلى النبلاء والقضاة وحكام كوش (حكام نباتا الاثيوبيين في شمال السودان) وأمناء الذهب والمشرفين على الحضائر وحملة المراوح وحراس القصر ... الخ ، ويقضي المرسوم على حماية مخصصات الأملاك العائدة لصالح المنشآت الدينية والمعابد، وقد شيد له قبرا في وادي الملوك وعثر فيه على التابوت المرمري البديع الذي احتوى جسد سيتي الأول واعتبرت مومياء الملك المحنطة افضل ما عثر عليه من بين كل الموتى المصريين القدماء.
3843 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع