جيهان أبوزيد
«لقرون طويلة حكيت عني يا شهرزاد, غطى صوتك على صوتي»لكنى الآن وبدون ندم أشيعك إلى مثواك وأعلم أني لن أسبح في الفرح, لكني سأعيش بهجة غسل تراثك.
وفى حضرة الحكاية علينا أن نبدأ القصة من البداية، وقد حدث أن ظلت شهرزاد عالقة في ذاكرة العباد في مصر، وربما من دول المنطقة، ففي كل تراث هناك «شهرزاد» تبرر المقولات عن المرأة والغواية وعن الأنثى الثرثارة التي دافعت عن حياتها بابتداع الحكاية, لكن نساء اليوم اللائي قررن الخروج من رداء شهرزاد كن واقفات كنخل ممشوق يحملن لافتات تندد بتكبيل الحريات وبقمع المعارضة, كن يهتفن ضد غلاء الأسعار وضد مجلس تشريعي لا يفكر إلا بالنساء. وفي مصر كما في دول الثورات ارتفعت البطالة وتكدست السجون وجنت الأسعار وضاعت هيبة العملة المحلية, ثم اختفت السياحة في خضم غياب الأمن، وفي ظل الغموض الذي يلف شؤون البلاد, وسط ذلك يأتينا الصباح كل يوم مذكرا كل مصري بخطر خفض حصته من مياه النيل, وبإصرار إثيوبيا الباحثة عن زيادة مواردها وعن موقع في الصحف الدولية, يصل الصباح من دون خجل يبلغنا بالجديد من الحرائق والحوادث, والعقارات التي تنهار على رأس ساكنيها.
على أن تلك المشكلات والمحن تتوارى أمام «شهرزاد» الساكنة جسد كل النساء, تغيب الأزمات إذا ما حضرت شهرزاد إلى مخيلة مجلس الشورى, وتتراجع الحرائق وأزمة الوقود ومشكلات النقابات والحريات, وتظهر هي فقط بشعرها الغجري المبعثر حولها وصوتها الناعم الماكر ودلالها الفتان, يتأذى الأعضاء بظهور شهرزاد في بهو المجلس, فتنهال المقترحات ويقترح أحدهم في حوار جدي إعادة النظر في كيفية تكفين النساء, ثم امتد بهم النقاش وضاعت الساعات في حسم مسألة ضرورة غلق الملاهي الليلية, ثم وبينما أزمة مياه إثيوبيا تشتعل، يخرج عضو من أعضاء المجلس باقتراح يمنع فن الباليه حفاظا على الأخلاق, وقبل عدة أشهر وتحت قبة مجلس الشورى ألقى اللوم على النساء والفتيات اللاتي تعرضن للتحرش إثر مشاركتهن في المظاهرات، وأفاضت لحد الانفعال إحدى العضوات قائلة «إن من تشارك في المظاهرات تخرج من أجل أن يتم التحرش بها».
في المبنى الأثري لمجلس الشورى المصري غابت نساء مصر من رؤوس أعضاء المجلس الموقر, غابت المعلمة والطبيبة والعاملة والفلاحة، غابت المبدعة والممرضة والتاجرة, غابت أمي التي لم تترك طفلا قبل أن تزرع فيه علما يحميه شر السؤال، وغابت جارتنا التي أنجبت خيرة رجال ونساء مصر، ضاعت المرأة الإنسانة بعملها وتعليمها وجهودها في بناء الوطن وفي تنشئة الأجيال، وظلت فقط صورة «شهرزاد» الغاوية الخاضعة المستعدة للجلوس أسفل قدم شهريار لمئات الأيام والليالي تلهيه عن عنفه لافتداء نفسها من الموت, وبينما هي تمسك بتلابيب الحياة تهدر «شهرزاد» كرامة المرأة الإنسانة داخلها وتحفر في ذاكرة التاريخ صورة المرأة الماكرة الضعيفة الضحية الغاوية. «شهرزاد ألف ليلة وليلة» لا يعرف كاتبها ولم يهتد إلى مؤلفها رغم البحث والتنقيب, لكنها برغم آلاف الأعوام ما زالت حية مسموعة، بينما الطرق العالي على الطبول لم يبلغ ساكني البرلمان ليسمعهم صوت النساء الرافضات لشهرزاد, النساء المنشغلات بشؤون الحياة مثل كل البشر، النساء بتكوينهن الطبيعي الذي تمتزج فيه المزايا بالعيوب.
شهرزاد التي أخذت تحكي وتحكي لتعيش باتت قادرة على الهتاف, ولم يعد بها حاجة للخوف من سيف الجلاد, بل إن الباحثة التونسية الموهوبة «فوزية زواري» التي استعرت منها الجملة الأولى في ذلك المقال تقول في دراستها «حتى ننتهي من شهرزاد» والمنشورة عام 1996 «لقد أقسمت أن أسوي حسابي مع الصمت, ألقيت في أعماق البحار بالأثقال الثمينة التي جعلتني سجينة لبريقها, أدرت ظهري لقرون من القهر، ولأزمنة ذكورية فقط» ثم تضيف أن هذا «صوت شهرزاد الجديدة», وأظنني أختلف معها مرة واحدة وأقول «لا.. إنه الصوت الجديد للمرأة العربية الحرة، صوتها الصادر من الزمن الراهن الذي يصنعه خلق الله جميعا من النساء والرجال».
1325 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع