بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة - المرأة الحديدة /الجزء الاول
الدكتور عبد الستار الحسناوي، طبيب بعقده السادس يسكن ويعمل بالديوانية ويعتبر من اهم رجالات العلم والادب والاخلاق والمكانة الاجتماعية الرفيعة. يحترمه الكبير قبل الصغير ولديه افضالٌ كثيرة على القاصي والداني. الدكتور يسكن بمنزل متوسط الحجم بحي الرياض مع زوجته آية وابنه سمير ذو السبعة اربعة. تخرج الدكتور من جامعة القادسية ثم بدأ العمل بالمستشفى العام منذ اكثر من 20 سنوات. لديه ايضاً عيادة خارجية تبعد مسافة 250 متراً عن منزله. يقود سيارة صغيرة الحجم من نوع تويوتا. الجميع ينظر الى الدكتور ابوسمير بعين الغيرة والحسد لانه يحيى حياة مثالية لا تشوبها شائبة. اما في بيتهِ فعلاقته مع زوجته لها وجهان. وجه خارجي ووجه ثانيٍ داخلي. يرى الناس ان د.عبد الستار هو الزوج المثالي المخلص المحب المضحي والاب الرحيم الذي لا يوفر جهداً او مالاً الا وينفقه لمصلحة عائلته الصغيرة. لكن الواقع مغاير لذلك تماماً. كان هذا الدكتور شديد البخل والقساوة مع عائلته لابعد الحدود حتى كسب حقد ابنه عليه بكل جدارة وجعله ينفر منه ويخجل من كونه ابوه. كلما امتدحه شخصٌ غريبٌ يدير وجهه ويلعن اباه من كثر شره وظلمه وفظاظته اللا محدودة. كانت زوجته آية تحاول جاهدة ان تكون حلقة الوصل ما بين زوجها وابنها كي تزرع الحب بقلب الاب نحو ولده فيراعى مشاعره، لكن دون جدوى. اما الطرق التي كان يلجأ اليها مع زوجته فكانت مثيرةً للاشمئزاز. فقد التجأ للعنف الجسدي والنفسي معها منذ اليوم الاول لزواجه منها لان والده علمه ان المرأة يجب ان تُعْطى العين الحمراء وان لا يترك لها الباب مشرعاً كي تفعل ما تشاء فذلك سيدفعها لتتمرد عليه وخيانته لان النساء جميعاً زانيات وخائنات.
تعرضت آية للكثير من جلسات التأديب من قبل زوجها. وبواقع الحال لم تكن جلسات التأديب بقدر ما كانت مواقف ضرب وتعنيف مبرح قاسيٍ يترك علامات مروعة على جسدها وكدمات لا يعالجها اي دواء. لكنها ورغم كل ذلك تحلت بالصبر فقط من اجل ابنها. كانت تُصَبّرَ نفسها وتقول انها تستطيع امتصاص غضبه بصمودها ورباطة جأشها حتى يحين موعد صحوته وعدوله عن السلوك العنيف الذي انتهجه منذ ان تزوج بها. اما التعذيب النفسي فحدث ولا حرج، كان زوجها يسميها البغلة الأمّية وينعتها بكل اشكال الاوصاف المذلة المهينة ولا يأذن لها ان تقرأ اي كتاب او جريدة حتى لا تهمل واجباتها المنزلية. لذا كانت تتابع بعض البرامج الوثائقية على التلفاز حينما يكون زوجها غائباً عن الدار.
في احدى الايام استدعى د.عبد الستار احد الاقارب على وجبة العشاء دون علم زوجته. ادخله الى صالة الضيوف واخبره ان العشاء سيكون جاهزاً خلال بضع دقائق. دخل المطبخ فوجد زوجته تعد الطعام لابنها الصغير فسألها،
د.عبد الستار : ما هذا الذي تفعلينه يا حمارة؟
آية : مرحباً بك يا ابوسمير. انا احضر المخلمة لسمير. هل انت جائع؟
د.عبد الستار : لقد جاء معي ضيف، اريدك ان تعدي عشاءاً يليق به فوراً.
آية : لكنني لا املك اي شيء بالبيت يُمَكنني من طهي تلك الوليمة. انا انتظر حتى صباح الغد كي اشتري المواد من السوق لاعد الطعام.
د.عبد الستار : هل تقصدين انك ستحرجيني ايتها البغلة الامية؟ كيف يعقل ان لا تكوني مستعدة لمثل هذه الظروف؟
آية : ليتك اخبرتني مسبقاً كي استعد لدعوة مفاجئة مثل هذه.
د.عبد الستار : تصرفي واعملي اي شيء الآن. سيكون حسابي معك عسيراً فيما بعد.
ارتعدت آية من الخوف وارادت ان تبرر له لكنه خرج من المطبخ يستشيط غضباً. حاولت اللحاق به كي تفسر له لكنه لم يأبه لما قالت وعاد الى ضيفه ليجالسه وينتظر الطعام. بعد مرور نصف ساعة نادت آية على زوجها من خلف الباب كي يدخل الضيف الى صالة الطعام. فدخلا ليشاهدا وليمة كبيرة مؤلفة من اللحوم والمرقات وانواع الرز والسلطات واللبن الرائب. خجل الضيف وقال،
الضيف : انا آسف يا اخي ابو سمير. لقد جئتكم بشكل مفاجئ دون موعد مسبق لكن اختي ام سمير قامت بالواجب وزيادة. ارجو ان تسامحوني على فظاظتي.
د.عبد الستار : اساساً، هذا قليل بحقك يا ابن العم. تفضل واجلس.
جلس الرجلان على المائدة وراح الدكتور يغرف الطعام لضيفه ويضع اللحوم على صحنه ثم يقطعها بيده كي يسهّل عليه تناولها. حالما انتهى الرجلان من الطعام جائت آية بابريق الشاي والـ (استكانت) موضوعة على صينية فضية انيقة سلمتها لزوجها من الباب. سكب الدكتور الشاي لضيفه وبقي معه ساعات طويلة حتى غادر فتبعه الدكتور وودعه حتى الباب ثم عاد الى المطبخ لتسأله،
آية : هل كان كل شيء على ما يرام يا ابو سمير؟
دون ان يجيبها ودون اي سابق انذار رفع يده للاعلى وصفعها صفعة قوية كادت تفصل رأسها عن جسدها ثم تبع تلك الصفعة بلكمات متتالية وراح يبصق عليها ويوبخها ببذيء الكلام. حاولت ان تهدئ من روعه كي تسأل عن سبب غضبه صرخت باكية،
آية : اتوسل اليك يا ابو سمير، ماذا جرى؟ لماذا انت غير راضيٍ عني؟ اين كان تقصيري؟ هل كان الطعام مالحاً؟
د.عبد الستار : لقد جعلتينا ننتظرك ساعة كاملة ايتها البغلة اللعينة. كدت احترق من شدة الخجل امام قريبي وكادت الارض تنشق وتغمرني. الم اقل لك ان تعدي الطعام خلال دقائق؟ لكنك لم تكترثي لاوامري وكأني غير موجود وغير مهم بهذا البيت. رحت تطبخين ببطئ شديد كي تُعلِمي الضيف انه غير مرحبٌ به بهذا البيت.
سدد لكمة قوية لفمها فانكسر سنها الامامي. قالت والدم يسيل من فمها،
آية : لكن الطعام لم يستغرق سوى نصف ساعة والسبب في ذلك اني اضطررت الذهاب لجارتي وتسلفت منها كل مواد الطعام التي تنقصني.
د.عبد الستار : أتريدين ان تقولي ان الذنب ذنبي لانني لم أعلِم جلالتك بمجيء ضيفي؟ اليس اعداد الطعام هو من مسؤولياتك؟ إن لم يكن كذلك، فلماذا انت هنا؟ حتى في السرير صرت اتقيأ من رائحتك العفنة ولم اشتهي مضاجعتك منذ ولادة سمير. هل كان صعبٌ عليك ان تعدي الطعام لشخص واحد؟ ماذا كنت ستفعلين لو كان عدد الضيوف 5 او 6؟
صفعها صفعة ثانية فتورم خدها الايسر. اجابته محاولة تبرير التاخير قالت،
آية : عندما تخبرني مسبقاً، اتمكن من احضار افضل المواد كي اكون عند حسن ظنك يا ابو سمير.
د.عبد الستار : اخرسي ايتها الحمقاء الساذجة. انه ليس ذنبك انت، بل هو ذنبي انا لانني وافقت ان اتزوج من امرأة امية بليدة متخلفة عقلياً.
شمر عن ساعده وراح يسدد لها المزيد من اللكمات وكأنها كيساً للملاكمة. لم تبقى بقعة واحد من جسمها الا وانصبغت باللون الازرق، راح الدم يتدفق من انفها وفمها ووجنتيها. خرج بعدها من المنزل واختفى بسيارته بينما بقيت آية جاثمة على الارض تبكي وتندب حظها الذي رماها بهذه الحفرة الغويطة. صارت تستذكر كلمات الاغنية،
صعبان على اللى قاسيته فى الحب من طول الهجران
مااعرفش ايه اللى جنيته من بعد مارضيت بالحرمان
بقيت على هذا الحال ولم تهدأ او تخف آلامها لساعات طويلة حتى طلع عليها الصبح وهي جالسة على الارض. جائها ابنها سمير وسأل،
سمير : ماذا بك يا امي؟
ولما رأى امه تبكي ووجهها مغطىً بآثار الضرب والتعنيف والدم يسيل من كل مكان جلس على الارض بجانبها وراح يقبلها ويقول لها،
سمير : هل ضربك ثانيةً يا امي؟ كم اكره ذلك الرجل اللعين. ساقتله يوماً واخلصك من شره.
آية : لا يا سمير لا يا حبيبي. لا يجوز ان تقول هذا الكلام عن والدك. سيبقى هو ابوك وانت ابنه. اما ما يدور بيننا فهذا شأني انا. يا حبيبي لا تقلق انا بخير.
وبينما هما يتحدثان دخلت عليهما جارتها سمية قالت،
سمية : طرقت الباب حتى تعبت يداي. فلماذا لا تردون؟
آية : سامحيني سمية لقد كنت اتحدث مع سمير ولم اسمع الطرق على الباب.
سمية : ولماذا تتحدثين مع ابنك وانتِ جالسة على الارض؟ ماذا جرى؟
ادارت آية رأسها صوب جارتها فبانت آثار الكدمات والدم الذي يسيل من فمها. انصدمت سمية، شهقت وقالت،
سمية : يا الهي ما هذا؟ هل عاد لضربك ثانية ذلك الوحش الكاسر المتخلف؟ كيف تتحملين يا عزيزتي؟ كم من مرة نصحتك ان تتطلقي منه لكنك لم تسمعيني؟ لماذا لا تتركيه وترتاحي من هذا الكابوس؟
آية : وكيف اتركه يا سمية؟ ماذا عن ابني سمير؟ كيف سنعيش؟
سمية : سيحكم لك القاضي بالحضانة وستسكنين عندي. لكن السكوت عن هذه الحالة هو الظلم بعينه. تطلقي منه وارتاحي لباقي سنين عمرك فانت ما زلت شابة بالعشرينات. ساشهد معك بالمحكمة وسيحكم لك القاضي بالولد تأكدي من ذلك.
آية : حقاً ستفعلين ذلك من اجلي يا سمية؟ هل ستقفين الى جانبي؟
سمية : بالطبع يا حبيبتي. انت لست جارتي وحسب بل انت اختي التي لم تلدها امي. توكلي على الله واطلبي الطلاق بالمحكمة. وفي تلك الفترة بامكانك ان تقيمي عندي ببيتي. فبيتي هو بيتك يا حبيبتي. يجب ان لا تبقي لحظة واحدة هنا مع هذا الوغد اللعين المتجبر المجحف.
آية : بارك الله فيك عزيزتي. حسناً، ما هو الاجراء الآن؟ كيف سنفعل ذلك إذاً؟
سمية : سنذهب الى مركز الشرطة ونقدم شكوى ضده ثم سنزور محامي اسمه حسين لتوكيله عنك.
آية : انا لا اعلم كيف اكافئك يا سمية. إن وقفتك معي لا تقدر بثمن.
خرجت السيدتان من المنزل وسحبتا خلفهما سمير ليتوجها الى قيادة شرطة محافظة الديوانية فتقوم بتقديم شكوى ضد زوجها. الا انهما لم يكونا على علم مسبق ان الضابط فيصل العتبي كان احد اقارب زوجها الدكتور. لذلك نهرهما بشدة وطلب منهما الرجوع الى البيت وطلب الغفران من زوجها. قالت سمية،
سمية : دعنا نذهب الى المحامي حسين ونخبره بمشكلتك.
خرجت السيدتان وتوجهتا مباشرة الى مكتب المحامي حسين فرحب بهما واجلسهما بمكتبه ثم طلب لهما بعض المشروبات الغازية وبعض المثلجات للطفل سمير. بدأت سمية تشرح له مشكلة آية فطلب منها ان تتوقف عن الكلام وان تفسح المجال لآية كي تتحدث عن قضيتها بنفسها. طلب حسين من آية كي ترفع الخمار عن وجهها حتى يتسنى له معاينة آثار الضرب. ولما ازالت الخمار، هاله ما رأى وقال،
حسين : هذه الآثار لو يراها اي قاضي فسوف يحكم لك بالطلاق فوراً. اولاً اريدكما ان ترفعا شكوى لدى مركز الشرطة فوراً كي يوثقوا الدلائل على الجريمة.
سمية : هممنا بفعل ذلك قبل مجيئنا الى عندك لكن الضابط هناك نهرها وطلب منها ان ترجع الى بيتها وتطلب العفو من زوجها وتستسمحه.
حسين : ليس لديه الحق ان يقول ذلك ابداً. لأي مركز ذهبتما؟
سمية : قيادة شرطة محافظة الديوانية.
حسين : وما اسم الضابط؟
سمية : الضابط اسمه فيصل العتبي.
حسين : حسناً ساتولى الامر بنفسي الآن. تعالوا معي.
خرج المحامي مع السيدتان ودخلا قيادة شرطة محافظة الديوانية، طلبا مقابلة مدير المركز فادخلوه على العقيد سالم. شرح المحامي حسين كل ما جرى اليوم من رفض بخصوص تقديم الشكوى. فاعتذر منهم مدير المركز وامر احد مساعديه ان يدوّن شكوى على المدعى عليه ثم وعدهم بمعاقبة الضابط فيصل العتبي. خرجت السيدتان بصحبة المحامي حسين وتوجهوا جميعاً الى منزل سمية فقامت باعداد غرفة خاصة لآية وابنها كي يقيمان عندها. بمساء ذلك اليوم جلست آية وسمية تتحدثان بالمطبخ بينما راح ابنها سمير يتابع الرسوم المتحركة على التلفاز. فجأة سمعا صوت الجرس وهو يرن بالحاح وبشكل متواصل. خافت آية وقالت لصاحبتها،
آية : بالتأكيد هذا عبد الستار. ماذا اعمل؟ ارجوك اخبريني؟
سمية : لا تخافي، ساتصل بالمحامي فوراً واعلمه بما يجري.
رفعت سماعة الهاتف واتصلت بالمحامي لتخبره بذلك. طلب منها عدم فتح الباب ووعد انه سوف يأتي اليهم فوراً. وبعد ربع ساعة اوقف سيارته امام منزل سمية ورن الجرس فنظرت سمية من الشباك وقالت، "وصل المحامي". فتحت الباب فدخل وسأل،
حسين : هل تحدثتما معه ؟
سمية : كلا، لم نفتح له الباب. رأيناه من الشباك وهو يرن الجرس لكننا لم نفتح الباب وقمنا بالاتصال بك فوراً.
حسين : لا تقلقوا، ساتصل بالعقيد سالم كي يصدر مذكرة عدم تعرض.
آية : شكراً لك يا اخي حسين. لقد انقذتني للمرة الثانية.
بعد مرور بضعة اشهر استُدعيَ الدكتور عبد الستار لحضور جلسة المحكمة. تبعتها عدة جلسات وادلة التي قدمها خبراء الطب الشرعي والشهود حتى توصلت المحكمة الى قراراً بتمكين الزوجة من الخلع لكنها امرت بالحضانة للدكتور لان الزوجة لم تكن تعمل لذلك فهي غير قادرة على اعالة ابنها وان سن الطفل يمكنه من العيش مع اباه. اصيبت آية بخيبة امل كبيرة الا انها حمدت الله لان بيت سمية الذي تقيم فيه قريب جداً من بيت طليقها وبامكانها مشاهدة ابنها سمير في الذهاب والاياب من المدرسة بصحبة سيدة مسنة. احيانا كانت تخرج اليه وتقبله وتحضنه عندما يكون بمفرده. كان الناس كلهم ينظرون اليها بريبة كبيرة. بعضهم كان لا يخفي امتعاضه وينعتها بالزانية لانها اغضبت زوجها ولان ذلك هو ديدان الزوجات العاصيات والخارجات عن الخط المستقيم حسب تفكيرهم. هن يتحولن مباشرة من ربات بيوت معصومات الى عاهرات بعد الطلاق فوراً.
استمرت هذه الحالة شهرين اخرى حتى جاء اليوم الذي بدأ زوج سمية يعترض على وجود آية ببيته اثر الضغوط التي كان يتعرض لها من اصدقائه وزملائه بداخل العمل وخارجه. حاولت زوجته سمية ان تشرح له مشكلة آية لكنه لم يكن ليسمع منها كل التبريرات وقرر ان يطردها من بيته. طلبت منه زوجته ان يتريث قليلاً لانها هي التي ستبلغها بقراره فذهبت وطرقت الباب على آية لكن آية لم تجب فطرقت ثانية فلم تسمع اي رد. فتحت الباب لتجد الغرفة خالية. فتحت خزانة الملابس فوجدتها فارغة مما يدل على انها اخذت ملابسها ورحلت. رجعت سمية مغتاضة من زوجها وقالت له بغضب كبير وبصوت مرتفع،
سمية : هل أعجبك ذلك؟ يبدو انها سمعتك وانت تتذمر منها فرحلت الى الابد.
خلف : دع تلك الزانية تذهب الى الجحيم. هذا بيتي وانا مسؤول عنه فلماذا احمل هموم انسانة خانت زوجها وعائلتها وتحولت الى عاهر ليتحدث عنها كل الناس.
سمية : كم انت قاسي القلب يا خلف. الا تعلم انها يتيمة الابوين وليس لها اي قريب من عائلتها. اين صلاتك وصومك؟ ماذا يدور بخلدك وانت تقراً (اما اليتيم فلا تقهر).
خلف : اتركي عنك هذا الكلام. لقد رحلت من دون رجعة، لقد ارتحنا من همها.
تركت سمية زوجها يتحدث وصارت تهيئ نفسها كي تخرج وتشتري مواد الطعام. حملت سلتها وخرجت باتجاه السوق. وعندما وصلت هناك رأت من بعيد صاحبتها آية جالسة على الارض وبجانبها رزمة من قماش وضعت فيها ملابسها.
سمية : حبيبتي آية، ماذا تعملين هنا؟ لماذا خرجت من بيتي بهذه العجلة؟
آية : انا اعلم انني كنت عبئاً ثقيلاً عليكما. كان سيقع ذلك عاجلاً ام آجلاً. لذلك قررت ان اخرج بكرامتي دون ان اطرد كما تطرد الكلاب الضالة.
سمية : حبيبتي آية، كنا سننتظر حتى تجدين مكاناً بديلاً قبل ان تخرجي من عندنا لكن زوجي كما تعلمين...
آية : لا يا سمية، هكذا افضل. دعيني اسلك طريقي بنفسي.
سمية : طيب ولكن اين ستذهبين؟
آية : لا اعلم ساجد حلاً، لا تقلقي.
سمية : اسمعي مني يا آية، لماذا لا تذهبين الى بغداد؟ عندي هناك سيدة اعرفها من بعيد اسمها رافدة تسكن مع زوجها وليس لديهم اولاد وكلاهما متقاعدين. انا متأكدة انها ستستضيفك عندها لانها انسانة ودودة جداً.
آية : لا يا سمية. سوف تمل مني بعد فترة قصيرة وسيقع لي ما وقع مع زوجك بمرور الزمن.
سمية : ابداً يا آية ابداً. هذه السيدة انسانة مختلفة تماماً وسوف ترحب بك وستفرح كثيراً لذهابك عندها. اسمعي مني ولا تكوني عنيدة.
آية : طيب، الا يجدر بنا ان نتحدث معها بالهاتف اولاً ثم نعرف رأيها على الاقل؟
سمية : انا متأكدة من رأيها مسبقاً، ولكن مع ذلك تعالي معي حتى نتحدث اليها من خلال هاتف صاحبتي ام سليمان.
غادرت السيدتان السوق وقصدتا بيت ام سليمان فوقفت آية بعيداً بينما ذهبت سمية وطرقت الباب ففتحت لها وصارتا تتحدثان حتى اشارت سمية لصاحبتها بيدها كي تقترب منها. قالت،
سمية : لقد وافقت ام سليمان كي نستعمل هاتفها. دعينا ندخل ونشرب بعض الماء البارد بينما اتصل بخالتي رافدة.
جلست آية بالصالة فجائتها ام سليمان بكأس من الماء البارد، رحبت بها وجلست تتحدث معها. بعد قليل عادت سمية وقالت،
سمية : لقد رحبت بك السيدة رافدة وقالت دعيها تأتي الى عندي ببغداد فوراً فبيتي مفتوح لها وقتما تشاء.
آية : بارك الله فيك وفيها.
خرجت السيدتان من بيت ام سليمان وسارتا نحو محطة الديوانية لسيارات النقل الخارجي. قبلت آية صديقتها سمية وركبت السيارة المتجهة الى بغداد واعطت السائق اجرته من المال الزهيد الذي اخذته من صاحبتها. وصلت بغداد بالمساء فركبت الحافلة التي اخبرتها عنها سمية ثم سألت بالحارة فادلوها على بيت رافدة. طرقت الباب لتفتح لها رافدة وصارت ترحب بها ترحيباً حاراً لم تعهده باحد من قبل. ادخلتها الصالة واجلستها على اريكة وثيرة، احضرت لها الماء البارد وجلست امامها. نظرت اليها آية لتجد امامها سيدة خمسينية قليلة البدانة ذات وجه بشوش كثير الابتسامة. صارت تحدثها عن كل المواضيع وتسألها عن سبب تركها للديوانية فراحت آية تقص عليها القصص المروعة التي كانت تمر بها وانتهت بطردها من بيت سمية لان زوجها لم يكن راضياً على بقائها عندهم. اكدت لها رافدة انها مرحبٌ بها هنا ويجب ان تعتبر نفسها ببيتها. اخذتها للطابق العلوي وادخلتها الى غرفة خالية قالت انها ستكون غرفتها الخاصة من الآن وصاعداً. طلبت منها ان تنام كي ترتاح من وهن السفر وسوف تعرفها لاحقاً بزوجها عبدالله. نامت آية وهي بغاية الارتياح لان الله قدر ان يكون لها بيت آمن ببغداد كي تلجأ اليه بعد الجحيم الذي عاشته مع زوجها عبد الستار. لكن الذي كان يؤلمها اكثر هو فراق ابنها سمير الذي لم يكمل عامه الثامن بعد. الا انها تعلم يقيناً ان فراقه سيكون مؤقتاً حتى تجد لنفسها سبيلاً كي تشتغل وتعيل نفسها فتقوم وقتها بطلب حضانة ابنها من جديد. باليوم التالي نزلت الى الطابق السفلي لتجد السيدة رافدة جالسةً مع رجل مسن نحيف البنية ابيض الشعر يرتدي بيجامة مخططة قالت،
رافدة : تعالي يابنتي. دعيني اعرفك على زوجي عبدالله.
آية : تشرفت بك سيدي.
عبدالله : اهلاً وسهلاً بك ببيتك يا ابنتي آية. ما هو اسم ابنك حفظه الله؟
آية : اسمه سمير يا عمي.
عبدالله : إذاً ساناديك ام سمير من الآن فصاعداً.
آية : كما تشاء يا عمي واعلم انني ممتنة جداً لانكما استضفتماني ببيتكم هذا. وانا متأكدة من ان الله سوف يكافئكما بما فعلتماه من احسان نحوي.
عبدالله : يا ابنتي نحن كبار في السن، ولم يرزقنا الله بالاولاد. لذلك، سنعتبرك ابنتنا ونريدك ان تنظري الى بيتنا هذا على انه بيتك انت وان لا تعتبري ذلك احساناً منا ابداً. لقد نورت منزلنا وستحل البركة فيه. وإن شعرت باننا نضايقك فقومي بطردنا منه.
آية : حاشى لله. سوف لن يحصل ذلك ابداً وشكراً لك يا عمي على كل شيء.
بدأت الامور تتحسن لآية وبدأت الدنيا تبتسم لها من جديد. صارت تعلم ان لديها مأوى ثابت يأويها واناس طيبون يحبونها ويرحبون بها بينهم. لكنها تعلم علم اليقين ان الحصول على عمل سيمكنها من المساهمة بمصاريف البيت الذي آواها. فاخبرت رافدة بنيتها البحث عن عمل. بعد مرور بضعة ايام اخذتها رافدة وذهبا لزيارة احدى صديقاتها التي تسكن بالجوار تدعى ام طارق الخياطة. عرفتها عليها وجلسن يتحدثن بامور كثيرة وبالاخص كارثة آية والمعاملة الفظة المشينة التي تعرضت لها من قبل زوجها السابق. بعدها طلبت آية من السيدة ام طارق كي تعلمها مهنة الخياطة فوافقت الاخرى وطلبت منها البدأ بالغد.
باليوم التالي وصلت آية الى بيت ام طارق فراحت تعلمها فن الخياطة بالابرة والخيط. ولما ابدت الكثير من المهارة بعملها بدأت تعلمها طريقة استعمال آلة الخياطة اليدوية ثم انتقلت الى الآلة الكهربائية. بقيت ام طارق تعطيها المهام البسيطة ببادئ الامر حتى لمست منها تقدماً كبيراً واصراراً على التعلم فامّنتها بمهام اكبر حيث صارت تخيط بدلات النوم والفساتين البسيطة للزبائن. وقتها خصصت لها مرتباً بسيطاً.
بعد مرور سنة جائت رافدة لزيارة صاحبتها ام طارق وجلسن في الصالة ليتناولن الشاي سوية فسألت رافدة،
رافدة : كيف تجدين آية يا ام طارق؟ هل انت راضية عنها؟
ام طارق : الحق يقال يا اختي رافدة. انا اعتبر آية هبة من عند الله. فقد تعلمت فن الخياطة بوقت قياسي وصارت تشيل عني الكثير من الاعباء. تخيلي انها راحت تفتح مجلات الازياء (البردة) وتأخذ الانماط منها ثم تحولها الى فساتين حديثة تجن عليها الزبونات لتلبسنها بالاعراس والحفلات. لم افكر بحياتي ان استخدم تلك الانماط ابداً. يبدو انها شابة ذكية موهوبة.
رافدة : تخيلي ان طليقها السافل كان ينعتها بالبغلة الأمّية. ايعقل ذلك؟
ام طارق : لكنها متعلمة وقد اجتازت الاعدادية اليس كذلك؟
رافدة : نعم لكنك تعلمين الرجال عندما يتنمرون على النساء فانهم يتمادون بظلمهم.
ام طارق : اتمنى من الله ان تتوفق هذه المسكينة وترى ابنها باقرب وقت ممكن فقد لاحظتها وهي غارقة بدموعها عندما كانت تجلس وحدها تعتقد انني لا اراها.
رافدة : اتمنى من الله ان ينصفها ويقصف بعمر ذلك الظالم المتجبر زوجها السابق.
وبهذه الاثناء دخلت عليهم آية وقالت،
آية : لقد سمعت ما قلتموه عني. فلماذا تبالغن بهذا الشكل؟
ام طارق : بل انت تستحقين ذلك واكثر يا حبيبتي. لقد اصبحتِ خياطة بامتياز.
استمرت آية تشتغل لدى ام طارق الخياطة حتى جائت مرة اليها وقالت،
آية : عمتي ام طارق، لقد وجدت اعلاناً باحدى الجرائد عن دورة تعدها سيدة اسمها مدام كرستينا بمنطقة الكرادة داخل. فما رأيك بتلك الدورة؟
ام طارق : اتقصدين دورة لك انت يا آية؟
آية : اجل يا عمتي. سنتمكن بعدها من تفصيل الملابس الاكثر قيمة وحداثة ونتمكن بعدها من تحصيل اثمان اعلى فيزداد دخلنا.
ام طارق : بالحقيقة يا ابنتي انت تعلمتِ هذه المهنة بسرعة عالية وتفوقت علي كثيراً فكيف لي ان ارفض مثل هذا الطلب؟ ولكن اخبريني، كم ثمن هذه الدورة ومدتها؟
آية : الدورة مدتها ستة اشهر. والثمن سيكون من مدخراتي التي كنتِ تعطيني اياها.
ام طارق : وماذا عن الملابس التي نخيطها هنا؟
آية : ساقوم بالعمل عليها بالمساء بعدما اعود من الدورة.
ام طارق : إذاً وفقك الله يا آية، سوف لن اقف بطريق مستقبلك ابداً.
باليوم التالي اتصلت آية هاتفياً بالمدام كرستينا وطلبت مقابلتها فاستدعتها لورشتها بالكرادة. استمعت آية لشرح وافر عن الدورة وبدأت تتلقى دروس التفصيل باسلوب احترافي معمق. كان تلقيها للمعلومات وشغفها في اتقان اساليب حديثة دفعت استاذتها الى الاعجاب بمهاراتها والاعتراف بمجهودها واصرارها على التعلم والنجاح والابداع بالعمل حتى وصلت لدرجة صارت تعترض على بعض سياق التفصيل لاستاذتها وتقوم باقتراحاتها الخاصة التي كانت تشكل ابداعاً كبيراً مما دفع الاستاذة تشجيعها والثني على اندفاعها وقابليتها في الابتكار والتجديد. مرّت ستة اشهر على الدروس المكثفة المضنية والمثابرة التي ابدتها آية في تلقي العلم بالرغم من العمل المستمر مع ام طارق الخياطة والرحلات الطويلة المملة التي كانت تخوضها بالحافلة، اكملت آية الدورة وتسلمت شهادتها لتعود الى بيت ام طارق وتزف لها خبر النجاح. رحبت بها ام طارق واحتفلت بنجاحها وصاروا ينشرون خبر ذلك النجاح على باقي الزبائن لتحثهن على المجيء وطلب الفساتين من تصميم آية المميز النابع من ابداعاتها الرائعة فصارت تسلمهن الفساتين وكأنها قطع فنية تصلح للعرض بكبرى صالات الازياء العالمية. في يوم من الايام زارتهم زبونة تدعى مدام مها وقالت انها معجبة ببراعتها في التصميم وانها تملك مصنعاً لمنتجات الالبان يدعى (البان مها) وقالت انها تريد منها تصميم وخياطة 250 بدلة عمل لعاملاتها وعمالها بالمصنع. رفضت آية ذلك العرض وقالت انها لا تملك القدرة على انتاج هذا الكم الكبير من البدلات فاقترحت عليها ان تبني ورشة خياطة كبيرة تقوم آية بادارتها وتوظف معها فريقاً كبيراً من الخياطات. وعدتها آية انها ستدرس الاقتراح وترد عليها لاحقاً. بعد يومين اتصلت آية بالسيدة مها واخبرتها بالموافقة على المشروع فحرروا عقداً بينهما على ان تكون حصة آية 50% بينما تمول السيدة مها كل مصاريف المعمل وتحصل على 50%. كذلك اشترطت آية ان تكون ام طارق هي المشرفة على الخياطات والعاملات. كانت تلك الصفقة بداية لقصة نجاح كبيرة جعلت من آية ايقونة مشهورة بعالم الازياء وتصاميم الملابس ببغداد. وبعد مرور اسبوعين على تلك الصفقة تمت المصادقة على نموذج من بدلة العمل للجنسين بمصنع مها فقامت آية بتصميمه وامرت بالبدئ بالانتاج. وبعد ان انتهوا من خياطة بدلات العمل. صار المعمل ينتج الملابس والفساتين الجاهزة ويطرحها باسواق بغداد.
باحدى الايام دق جرس الباب بينما كانت آية نائمة بسريرها محملة بزكام شديد. دخلت عليها السيدة رافدة وقالت،
رافدة : كيف تشعرين اليوم يا ابنتي؟
آية : لازلت لا اقوى على الوقوف يا خالتي. الرشح والصداع لا يكفّان عني ابداً. اكاد اموت من شدة الآلام التي ببدني.
رافدة : إذاً لدي بشرى سارة قد ترفه عنك وتزيل آلامك. حضرت قبل قليل صحفية من مجلة الف باء تريد ان تجري معك لقاءاً صحفياً وتنشره بالمجلة. هي الآن جالسة بالصالة عندنا.
آية : ولماذا معي؟ انا لست انسانة سياسية.
رافدة : لقد اصبحتِ مشهورة جداً من جراء تصاميمك الرائعة يا حبيبتي. ورشتك ومصنعك واعمالك اليوم اصبحت على كل لسان. الا تمكنت من التحدث معها قليلاً؟
آية : ارجو منك ان تقدمي لها اعتذاري فانا لا اقوى على الكلام من شدة المرض.
رافدة : حسناً ساطلب منها الرجوع بعد اسبوع.
آية : اكون وقتها قد تعافيت وتخلصت من هذا الزكام اللعين فانا لا اقوى على التنفس.
بعد اسبوع عادت الصحفية وطلبت مقابلة آية فوافقت هذه المرة بالرغم من ان مرضها مازال يلفض انفاسه الاخيرة. دامت المقابلة ساعة كاملة التقطت خلالها الكثير من الصور للنماذج التي تصممها آية والتي تنتجها بالمصنع. خرجت الصحفية بعد اللقاء ووعدت ان تخبرها بالهاتف عندما تنشر المقالة. بعد اسبوعين نُشِرَتْ المقالة وراح الكثير من القراء يتمتعون بقصة تلك المرأة المكافحة التي جائت من الديوانية لتصنع اسماً لنفسها بعالم الازياء والموضة. صار صحفيوا الجرائد العراقية والعربية والاجنبية يسببون لها الصداع الدائم كل يوم يرغبون بالحاح اجراء حوارات صحفية معها كي يظهرون مواهبها ولمساتها السحرية للازياء. كانت آية لا تدخر مناسبة إلا وتذكر فيها فضل استاذتها المدام كرستينا التي علمتها فن الفصالة وتصميم الازياء وشكرها اللا محدود للسيدة ام طارق الخياطة التي زرعت بقلبها مهنة الخياطة. لكنها كانت لا تجيب اي اسئلة عن ماضيها في الديوانية لانها تعلم ان ذلك الموضوع سيسبب لها آلاماً بليغة وسيفتح جروحاً كانت قد التأمت منذ زمن بعيد. يبقى الماً واحد فقط لا يمكن ان يلتأم الا وهو حزنها وشوقها على ابنها سمير الذي لا تعرف عنه شيئاً منذ ان غادرت الديوانية وكلما حاولت الاتصال بمنزل طليقها كان الهاتف يغلق بوجهها بكل فظاظة.
في الديوانية، دخل د.عبد الستار عيادته في الصباح الباكر فاستقبلته ممرضته ازهار واخذت منه المعطف ثم البسته صدريته البيضاء. جلس على مكتبه ينتظر قهوته المعتادة. دخلت عليه ازهار بفنجان القهوة فسألها،
د.عبد الستار : هل هناك الكثير من المراجعين اليوم؟
ازهار : اجل هناك اربعة نساء ورجل واحد بالوقت الحالي.
د.عبد الستار : حسناً ادخليهم حسب التسلسل.
ادخلت المريضة الاولى ثم تبعتها بالثلاثة الباقيات حتى جاء دور المريض الاخير فدخل وحيى الدكتور. رفع رأسه ورد على التحية لكنه تعرف عليه وعلم انه الضابط فيصل العتبي قال،
د.عبد الستار : ما هذا يا فيصل؟ كيف تنتظر كل هذه المدة بصالة الانتظار؟ لو كنت اعلم انك جالس هنا مع المراجعين الباقين لجعلتك تدخل قبلهم. انت ابن عمي وعزيزي وصديقي بنفس الوقت. لكن هذه الحمارة ازهار لم تتعرف عليك.
فيصل : لا عليك يا عبد، لقد جئتك اليوم لاني اعاني من مشكلة كبيرة تؤرقني وهي اني عندما انام تدخل الحموضة الى حلقي فتزعجني كثيراً. اجد صعوبة بالنوم فماذا تنصحني؟
د.عبد الستار : لا عليك عزيزي، مرضك يسمى (اسِد ريفلاكس) وهو عبارة عن ارتداد الاحماض من المعدة الى الفم عبر المريء.
فيصل : وما هو السبب في ذلك يا ترى؟
د.عبد الستار : هناك صمام ذو اتجاه واحد يسمح لمرور الطعام من الفم ثم المريء الى المعدة لكنه لا يسمح برجوع الاحماض الى الفم. احياناً يَعطَلْ هذا الصمام لدى بعض الناس فيقوم بتسريب الاحماض الموجودة من داخل المعدة عبر المريء لترجع للحلق.
فيصل : وهل هذا امر خطير؟
د.عبد الستار : لا ابداً. لا تقلق، الكثير من الناس يعانون منه وعلاجه بسيط جداً. ما عليك سوى اخذ حبة واحدة من الدواء الذي ساكتبه لك.
فيصل : ما اسمه؟
د.عبد الستار : اسمه بانتوبرازول. انه متوفر بجميع الصيدليات.
فيصل : ومتى اتوقف من تعاطيه؟
د.عبد الستار : لا تتوقف ابداً. ستستمر باخذه الى باقي عمرك.
فيصل : وهل فيه اعراض جانبية؟
د.عبد الستار : لا تقلق، ليس فيه اعراضاً جانبية نهائياً فمهمته الوحيدة معادلة الاحماض بداخل المعدة كي يريحك من ارتدادها.
فيصل : شكراً لك يا دكتور. بالمناسبة هل قرأت جريدة الجمهورية اليوم؟
د.عبد الستار : لا ليس بعد. لماذا؟ هل هناك خبر يستحق القراءة؟
فيصل : انها زوجتك... عفواً... اقصد طليقتك الزانية آية. لقد اصبحت مشهورة وقد اجروا معها مقابلة.
د.عبد الستار : هل فتحت ملهىً ليلي جديد للعاهرات؟
فيصل : يقولون انها اصبحت خياطة مشهورة ببغداد.
د.عبد الستار : وما الغريب في ذلك؟ لدينا مئات الخياطات هنا بالديوانية.
فيصل : لا اعلم. انا فقط قرأت عنوان الخبر وشاهدت صورتها.
د.عبد الستار : دعها تخيط الملابس الداخلية للعاهرات والراقصات بالملاهي الليلية التي تعمل بها، انا لا يهمني ذلك الخبر.
خرج الضابط فيصل من عيادة الدكتور فقام الدكتور برن الجرس على ممرضته لتدخل وتقول،
ازهار : هل تريدني ان ادخل المريض التالي؟
د.عبد الستار : اجل ادخليه يا ازهار، بعدها انزلي الى الدكان الذي بجانبنا واشتري جريدة الجمهورية.
ازهار : جريدة اليوم؟
د.عبد الستار : لا جريدة الغد يا ازهار. كلكن غبيات ايتها النساء. هيا اغربي عن وجهي.
خجلت ازهار من سؤالها وادخلت عليه المريض الموالي ثم خرجت واشترت له الجريدة. وبينما هي تنتظر خروج المريض من عيادة الدكتور راحت تتصفح الجريدة انتظرت حتى خرج المريض الاخير من العيادة فدخلت حاملة معها الجريدة قالت،
ازهار : هناك مقابلة بين الاخضر الابراهيمي ورئيس جامعة الدول العربية مع مندوب الامم المتحدة. اهذا ما اردت ان تقرأ عنه يا دكتور؟
د.عبد الستار : اعطني الجريدة وكفاك ثرثرة يا غبية.
فتح الجريدة وراح يبحث عن المقابلة المزعومة حتى وجدها في الصفحات الداخلية. راح يقرأ الخبر بازدراء ويتألم من ثناء الصحفية على مهارة وابداعات آية في صناعة ملابس تتاقلم مع البيئة الاجتماعية لكل مجموعة من فصائل الشعب سواءاً كانوا بالمدن او الارياف او حتى الاهوار. وفي نهاية اللقاء راحت الصحفية تمتدح الملابس التي عرضت عليها فقامت بتصويرها وختمت مقالتها بان اطلقت عليها لقب ملكة الازياء. ضحك الدكتور بازدراء وقال في سريرته، "يا لهم من اغبياء، تركوا الناس جميعاً وذهبوا الى اغبى انسانة بالدنيا كي يلقبوها ملكة الازياء. يجب عليهم ان يعطوها لقب ملكة الغباء او ملكة العهر فقد كانت تخفق بابسط المهام. لقد امتدحوا البغلة اللعينة ". بذلك اليوم، رجع الدكتور الى منزله ودخل الى غرفة الجلوس فرأى ابنه سمير جالساً امام التلفاز سأله،
د.عبد الستار : كيف حالك يا سمير؟
سمير : بخير.
د.عبد الستار : والمدرسة؟
سمير : بخير.
د.عبد الستار : اليس لديك شيء تتحدث به معي؟
سمير : اريد نقوداً.
د.عبد الستار : ولماذا هذه نقود؟
سمير : اريد ان اشتري عجلة هوائية اسوة بجميع اصدقائي.
د.عبد الستار : وهل هذا سيجعل من ادائك افضل بالمدرسة ؟ اريدك ان تصبح طبيباً مثلي.
سمير : انا لا اريد ان اصبح طبيباً مثلك. لم اعد ارغب بالدراجة. اتركني لوحدي.
د.عبد الستار : كيف تتجرأ ان تحدثني بهذا الاسلوب يا كلب.
رفع يده للاعلى وصفعه صفعة قوية فركض سمير الى غرفته وهو يبكي.
د.عبد الستار : لقد اخطأت خطأً كبيراً يا ابن الزانية. سوف احرمك من المصروف وسوف امنعك من الخروج من البيت ما عدى اوقات المدرسة. يجب علي ان اربيك من جديد واجعلك تترك الجذور القذرة التي زرعتها بداخلك امك الساقطة.
بفجر احد الايام ببغداد جائت السيدة رافدة وايقظت آية قائلة،
رافدة : اسرعي يا آية انها السيدة مها تريد ان تتحدث معك على الهاتف بشكل عاجل.
آية : ماذا بها؟ انها لم تبلغ الساعة الخامسة بعد يا خالتي.
استلمت السماعة من رافدة وقالت،
آية : ما الامر يا مها؟
مها : انها كارثة يا آية كارثة. لقد شب حريق في المصنع.
آية : هل تمكنتم من اطفائه؟
مها : كلا، الحريق كبير جداً وقد احترقت جميع مكائن الخياطة ولم يسلم منها شيئاً.
آية : يا الهي. ماذا نعمل؟
مها : ليس امامنا شيئاً نعمله. لقد تدمر المصنع بما فيه واحترقت كل الاقمشة التي اشتريناها حديثاً.
آية : يا لها من مصيبة. ساتي الى عندك فوراً.
اغلقت الهاتف مع شريكتها مها واخبرت رافدة بالخبر المفجع فحزنت كثيراً وقالت انها ستأتي معها. ركبت السيدتان سيارة آية وتوجهتا الى منطقة جميلة. وقبل ان يصلا الى موقع المصنع شاهدتا اعمدة الدخان الاسود تتصاعد من المصنع بشكل مخيف. اوقفت السيارة ونزلتا منها فراوا مها والكثير من الناس يراقبون رجال الاطفاء وهم يحاولون اطفاء الحريق لكن حجمه كان هائلاً والسنة اللهيب تتصاعد عالياً. بقي الرجال يتصارعون مع النيران لاربع ساعات طويلة حتى خمدت ولم يبقى سوى هياكل سوداء متفحمة. قالت آية،
آية : نحمد الله ان احداً لم يصب باذى. الضرر كان بالبناء والمعدات فقط.
مها : وماذا عن اعمالنا؟ وماذا عن استثمارنا؟
آية : لا اعلم يا مها. كل شيء ذهب مع الريح..
مها : انا حزينة جداً وقد سئمت من كل ذلك. انا ساغادر العراق. لقد تعبت يا آية.
آية : ولكن كيف يمكنك ان تتخلي عن وطنك بهذه السرعة؟ لقد وقع حادث وكان قضاء وقدراً ليس الا، فكيف تصابين بالاحباط بهذه السرعة ومن اول تجربة؟
مها : انا لم اعد اتحمل يا آية، فمصنع الالبان خسر كذلك ولم يعد ينتج وبقي اعتمادي كله على مصنع الخياطة. والآن احترق مصنع الخياطة. اريد ان اهاجر الى كندا. لدي اخت هناك وقد دعتني الى عندها في مقاطعة كوبيك.
علمت آية ان رغبة مها في الهجرة نابع من شعورها بالاحباط والحزن على المصنع. وان اصرارها كان كبيراً وسوف لن تحيد عن قرارها مهما حاولت اقناعها. فرحلت مها الى كندا وبقيت آية تجلس ببيتها وحيدة يقطّعها الحزن على المصنع الذي راح منها كذلك فراق ابنها الذي يحرق كبدها باستمرار. في يوم من الأيام جائتها رافدة وقالت لها،
رافدة : اسمعي يا آية لدي اقتراح قد يفتح ابواب الامل فيك ثانية.
آية : تحدثي يا خالتي. ماذا يدور ببالك؟
رافدة : لماذا لا تقدمي مشروع بناء مصنع جديد للبنك كي تقترضي منهم ثمنه؟ وبذلك سوف يكون المصنع كله لك وبدون شريك.
آية : ومن الذي سيقرضني المال بعد ان عرفوا بالحريق؟
رافدة : الحريق كان قضاءاً وقدراً وليس لك فيه يد. لا تنسي ان لكِ الآن سمعة كبيرة ببغداد والبنك قد يقرضك المال المطلوب.
آية : انا حزينة على مغادرة شريكتي مها بهذا الشكل المفاجئ. فقد كنت احبها كثيراً وكنا سعداء بوجودها معنا.
رافدة : كلنا نحب مها لكنها اختارت طريقها وقررت الذهاب عند اختها في كندا. الآن عليكِ ان تفكري ببناء مصنع جديد يضاهي المصنع الذي احترق. وبنفس المكان الذي كان يقف فيه المصنع القديم.
آية : لا يا خالتي. إذا وافق البنك على القرض فالمصنع سيقف شامخاً بالديوانية هذه المرة. بمدينتي ومسقط رأسي وساكون قريبة لابني سمير. وبنفس الوقت ساتمكن من ان اعين النساء اللواتي بحاجة للدعم والمساعدة ممن لم تسمح لهن الظروف او جبروت الرجال بكسب قوتهن من عرق جبينهن.
رافدة : كما تشائين يا حبيبتي أيوش.
قابلت آية مدير بنك الرافدين فرع بغداد الجدية وعرضت عليه مشروعها فاخبرها انه سيتدارس الامر مع ادارة المصرف ثم يخبرها عن قرارهم بعد يومين. وعندما عاد اليها بعد يومين اخبرها ان البنك موافق مبدئياً على المشروع ويرى ان اقراضها المبلغ ممكن على شرط ان تقوم بتأمين المصنع لدى شركة التامين تحسباً لاي كارثة مماثلة. وافقت آية وقررت الذهاب الى مسقط رأسها. باليوم التالي. ركبت آية سيارتها وسافرت الى الديوانية حيث زارت المحامي حسين هناك فرحب بها ببيته ودعاها كي تتناول الطعام معهم. بعد الانتهاء من الطعام فتحت الموضوع وقالت له،
آية : يا اخي حسين جئت اليوم ليس لغرض زيارتك وحسب بل لغرض آخر كذلك. اريد فتح مصنع ازياء بالديوانية. لدي المبلغ الكافي لذلك ولا ينقصني سوى دعمك ومجهودك معي كي ننفذ ذلك المشروع. المشروع سيكون كبيراً وسيشغّل لما يقرب من 100 عاملة وسوف استورد احدث مكائن الخياطة واجهزة التحكم الالكترونية. ستكون جميع الملابس من تصميمي. في المرحلة الاولى سيباع المنتوج بداخل العراق ثم نصدره للخارج بعد ذلك بشكل جزئي. فما رأيك؟
حسين : انا اعتقد ان هذا المشروع سيكون ناجحاً جداً وسيحرك الاقتصاد بالمدينة وسيفتح مجالات العمل للكثير من النساء وسيوفر الرزق للعائلات المحتاجة. انا اشجعك على ذلك ومستعد لان اقدم لك كل امكانياتي كي ينجح مشروعك هذا.
آية : انا اقيم حالياً بفندق ليالي الشرق. لكنني ساحتاج لشراء منزل قريب من المشروع عندما نجد الارض الملائمة لبناء المبنى.
حسين : وانا لدي احد الاقارب من سماسرة العقارات بتلك المنطقة اسمه ابو ليلى.
آية : هل تعرفه جيداً؟ اقصد هل يمكن الوثوق به؟ اخبرني عنه.
حسين : ابو ليلى هذا انسان طيب جداً. كان في السابق مجرما وقد اطلق على رجل النار فسبب له الشلل الكلي. حكم عليه بالسجن لمدة 15 سنة. ثم اعفي اعنه بعد ان قضّى نصف المدة وذلك لحسن السيرة والسلوك. الآن هو انسان صالح وطيب ولا يقرب للحرام ابداً.
آية : ماذا لو غدر بنا واستطاع طليقي عبد الستار ان يستميله ويعمل لصالحه.
حسين : كلا، ابو ليلى لا يعمل ذلك ابداً فقد تاب عن الحرام ولن يقرب اليه ابداً.
آية : حسناً دعنا نرى.
حسين : ساقوم بالاستفسار منه عن قطعة ارض نستطيع انشاء المصنع عليها. ولما تكتمل كل تلك المعلومات سنقوم بتدوين المشروع بملف واحد وسنقدمه لبلدية الديوانية كي نحصل على التراخيص اللازمة حتى نبدأ بمرحة التنفيذ.
آية : لا اعلم ماذا كنت ساعمل من دونك. شكراً لك اخي حسين. دعني اعود الى الفندق وسانتظر منك مكالمة هاتفية بما يخص الارض.
خرجت آية من بيت حسين وهي بغاية الرضى لانها تمكنت من الاستفادة من خبرته بالمنطقة ومعلوماته القانونية بالاجرائات اللازمة لتنفيذ حلمها الذي صار قاب قوسين او ادنى من التحقيق. دخلت الفندق واتصلت بالخالة رافدة ببغداد واخبرتها بما تمكنت من تحقيقه ونتائج لقائها مع المحامي حسين والارض وبناية المعمل فتمنت لها التوفيق. باليوم التالي وبتمام الساعة الحادية عشر صباحاً تسلمت اتصال من المحامي حسين وسمعته يقول،
حسين : اخت آية، اتصلتُ بابو ليلى السمسار واخبرته عن رغبتنا بشراء ارض بالمنطقة التي اخبرتيني عنها فقال ان لديه ارضاً مساحتها 1800 متر مربع بامكانها ان تفي بالغرض. فاخبرته بانني سارجع له بقرارك.
آية : دعنا نذهب لمعاينة الارض يا حسين.
حسين : ساقابلك باستعلامات الفندق وسننطلق من هناك سوية.
آية : حسنا ساكون بانتظارك.
بعد نصف ساعة دخل حسين مدخل الفندق ومعه رجل بدين اصلع الرأس وقدّمه لآية فرحبت به ثم انطلقوا بسيارة آية وفق ارشادات الدلال حتى وصلوا الى مكان مفتوح فاوقفت آية السيارة وصارت تنظر الى الارض الفارغة وتبتسم وكأنها فازت على جائزة اللوتو. نظرت الى حسين وقالت،
آية : سنبني مدخلاً رئيسياً هنا يطل على ممر، ونضع بالممر ساعة تتمكن منها العاملات في طبع الوقت على بطاقاتهم وقت الدخول ووقت الخروج. بعدها يدخلن على ارضية المصنع هناك والذي ستُصَفّ فيه مكائن الخياطة بخمسة خطوط متوازية وسنضع على اقصى اليمين طاولة القص الكبيرة ومن فوقها المقص الكهربائي. اما هناك فسنضع سلماً الى الطابق العلوي حيث سنعمله مخزناً نخزن به المواد الاولية من اقمشة وخيوط وقطع غيار لآلاة الخياطة. الارض جداً مناسبة يا حسين. دعنا نتوكل على الله.
حسين : أذاً ساخذ من ابو ليلى صورة من حجة الارض كي اقدمها مع ورقة من مصرف الرافدين بالموافقة على القرض ونقوم بتدوين ادبيات تشرح المشروع وحجمه وعدد العاملين فيه ونقدمه للبلدية كمشروع متكامل.
آية : وهل تعتقد انهم سيوافقون عليه؟
حسين : لمَ لا. ليس هناك اي جوانب سلبية للمصنع. انه كما نقول بالديوانية (ݘكليتة وملفوفة)
آية : على بركة الله.
رجع الثلاثة الى فندق آية ثم افترقوا من هناك. بعد ان تناولت آية وجبة الغداء، قررت ان تزور جارتها القديمة سمية فركبت سيارتها وذهبت للحي الذي تسكن فيه. مرت من امام منزلها القديم فصارت ترتجف من الخوف وتذكرت تلك الايام العصيبة التي كانت تعاني منها بالضرب والتحقير الجائر من قبل زوجها. اوقفت السيارة امام منزل سمية وضغطت على جرس الباب فخرجت لها سيدة محجبة سمراء بشرتها داكنة. نظرت اليها ولم تتعرف على تقاطيع وجهها فسألت،
آية : هل بامكانك ان تنادي لسمية؟ هي تسكن هنا مع زوجها خلف.
المحجبة : ليس هناك احد بهذا الاسم. ربما انت جئت للبيت الخطأ. انا اسكن هنا مع زوجي واولادي.
آية : منذ متى وانتم تسكنون بهذا البيت؟
المحجبة : منذ سنة تقريباً.
آية : هل تعرفين العائلة التي كانت تسكن قبلكم بهذا البيت؟
المحجبة : اشترينا البيت من امرأة اعتقد ان اسمها كان سمية لكنني غير متاكدة. هذه السيدة لم تكن متزوجة. انها كانت ارملة.
آية : يبدو ان زوجها قد توفى. الا تعرفين اين هي؟
المحجبة : لا، انا آسفة.
آية : شكراً لك يا اختي وسامحيني على ازعاجك.
ركبت سيارتها وعادت الى الفندق. نامت بغرفتها لمدة ساعة كاملة ثم اتصلت هاتفياً بالسمسار وقالت،
آية : السلام عليكم ابو ليلى. كيف حالك؟
ابو ليلى : انا بخير سيدتي ولكن لم استلم اي رد من الاخ حسين المحامي.
آية : انا لم اتصل بك لهذا الغرض. اردت فقط ان اسألك عن منزل بيع قبل حوالي سنة.
ابو ليلى : هل البيت هنا بالديوانية؟
آية : اجل بالقرب من شارع الوحدة.
ابو ليلى : انا لا اتعامل مع المنازل هناك ولكن لدي صديق اسمه ابو منتظر هو الذي يعمل بتلك المنطقة.
آية : انا ابحث عن السيدة التي كانت تسكن بمنزل بيع بذلك الشارع. السيدة اسمها سمية وزوجها اسمه خلف.
ابو ليلى : سأسأل صديقي ابو منتظر وارد لك الجواب.
آية : شكراً لك يا ابو ليلى.
باليوم التالي اتصل السمسار هاتفيها مع آية وقال لها،
ابو ليلى : لقد هاتفت السمسار ابو منتظر وسألته عن البيت الذي ذكرتيه فاخبرني ان السيدة سمية اضطرت لبيع المنزل بعد وفاة زوجها لان زوجها السيد خلف كان لديه ديون كثيرة. ولا احد يعرف اين سمية الآن لانها لم تترك عنوانها لدى احد.
آية : شكراً لك اخي ابو ليلى. هل سمعت من الاخ حسين المحامي؟
ابو ليلى : لا لم اسمع منه شيئاً. لقد زودته بنسخة من حجة الارض لكنه لم يتصل بي ثانية.
آية : ساتصل به هاتفياً وساعلم منه تطورات الاجرائات كي نقوم باتماما صفقة شراء الارض. وداعاً.
اتصلت بالمحامي حسين فاخبرها انه سيأتي الى الفندق وسيشرح لها بعض الامور. وبعد نصف ساعة دخل الفندق ليجدها بالمدخل تنتظر قدومه. جلسا بمقهى الفندق فسألته،
آية : بشرني يا حسين. هل سارت الامور على مايرام؟
حسين : بالحقيقة لا يا اخت آية. هناك تعقيدات كثيرة شائكة لا اعرف سببها. لم تحصل الموافقة على مشروعك من قبل البلدية.
آية : لماذا يا حسين لماذا؟
حسين : يقولون ان المصنع سيكون مشبوهاً.
آية : كيف سيكون مشبوهاً؟ هل ساتعاون به مع جهات اجنبية لغرض التجسس مثلاً؟
حسين : كلا انهم يقولون انك...
آية : انني ماذا؟ تكلم؟
حسين : سامحيني على هذا القول ولكن هم يقولون انك تريدين ان تحوليه الى بيت للدعارة.
آية : مـــــــــــــــــاذا؟ من قال ذلك؟ كيف توصلوا الى هذا الاستنتاج السخيف؟ مع من تحدثت يا حسين؟
حسين : تحدثت مع المحافظ شخصياً وهذا هو رده بالحرف الواحد. قال ايضاً انه سوف لن يسمح لك بفتح اي مشروع بالديوانية مهما كان نوعه.
آية : ساذهب بنفسي واتحدث مع المحافظ. فهذا ليس من شأنه وليس لديه الحق بفعل ذلك.
حسين : كما تشائين. اتريدين ان اذهب معك غداً.
آية : بل ساذهب الآن ووحدي، سوف لن انتظر للغد.
حسين : كما تشائين.
خرجت آية تغلي من شدة الغضب وكأنها بركان قد تفجر للتو وصارت حممه تسيل على السفح.
دخلت البلدية وتوجهت الى موظف الاستعلامات وقالت،
آية : اريد مقابلة المحافظ الآن.
الموظف : هل لديك موعد مسبق معه؟
آية : كلا. لكني اريد التحدث معه في امر بغاية الاهمية. امر لا يقبل التأجيل.
الموظف : ساسأله واخبرك برده.
دخل الموظف الى مكتب المحافظ قليلاً ثم عاد وقال لها.
الموظف : السيد المحافظ لديه مراجع الآن. ستتمكنين من الدخول والتحدث اليه عندما يخرج المراجع.
آية : طيب.
تمشت قليلاً خارج البلدية فوجدت امرأة مسنة تبيع المشروبات الغازية بباب البلدية. اشترت منها زجاجة وعادت لتشربها بداخل قاعة الانتظار. وبعد نصف ساعة انفتح باب مكتب المحافظ وخرج منه رجل عرفته جيداً. انه طليقها د.عبد الستار. مر من امامها ونظر الى وجهها وابتسم بتسامته الصفراء الخبيثة ثم سار في طريقه وخرج من المحافظة. قالت لنفسها، "اها، الآن عرفت سبب الممانعة، عبد الستار الحقير وراء تلك المؤامرة لانه صار يحاربني من جديد. ساخبر المحافظ انني كشفت لعبته مع عبد الستار النذل".
الموظف : بامكانك الدخول الآن.
دخلت آية فوجدت رجلاً اسمر اللون اصلع الرأس قصير القامة يرتدي بدلة بنية من الواضح انها لا تناسبه وانه كان قد تعود على ارتداء الدشداشة قبلها.
المحافظ : ماذا تريدين؟ لماذا اتيت بدون موعد؟
آية : اردت ان اعرف سبب رفضكم لمشروع بناء معمل الالبسة النسائية؟
المحافظ : الديوانية مدينة محافظة وسوف لن اسمح بانشاء بيت دعارة فيها حتى لو كلفني ذلك منصبي وحياتي.
آية : وكيف عرفت ان المشروع سيكون بيتاً للدعارة؟
المحافظ : انت معروفة لدينا. وسمعتك السيئة ما شاء الله يعرفها القاصي والداني. اخرجي من الديوانية فنحن لا نريد العار الذي ستجلبيه الينا.
آية : من الواضح انك كنت تتحدث مع طليقي عبد الستار.
المحافظ : اي عبد الستار هذا؟
آية : الدكتور عبد الستار الحسناوي. لقد لمحته يخرج من مكتبك قبل قليل.
ارتبك المحافظ وصار يمسح على صلعته السوداء. جلس خلف مكتبه وقال،
المحافظ : المقابلة انتهت. هيا اخرجي من هنا وارجعي من حيث اتيت. لا نريد مشاريعك.
علمت آية انها ارتطمت بجدار كونكريتي سميك من الصعب اختراقه مما يعني انها لا تستطيع الاستمرار والمحاولة من جديد. لكنها قررت ان تذهب الى بيت طليقها وتتشاجر معه وتضع نقاطها على حروفه. ركبت سيارتها وذهبت الى منزله الذي كان يوماً منزلها. دقت على الباب فلم يفتح لها احد. عادت وضغطت على الجرس ثانية دون جدوى. قالت لنفسها، "انا اعرف مكان عيادته. ساذهب الى هناك الآن. وساضعه بخانته التي يستحقها". ركبت سيارتها وتوجهت الى عيادة طليقها عبد الستار. دخلت باب العيادة فرأت ممرضته جالسة على مكتبها فابتسمت وقالت لها،
آية : مرحباً ازهار، كيف حالك؟
رفعت ازهار رأسها وتفحصت آية فتغيرت تعابير وجهها قالت،
ازهار : اسمي مدام ازهار الآن، انا زوجة الدكتور وممرضته بنفس الوقت. نعم ماذا تريدين يا آية؟
آية : مبروك يا ازهار. انا سعيدة لاجلك لانك صرت تلتقطين الفضلات الذي يلفضها الناس.
ازهار : زوجك هو الذي رماك بصفيحة القمامة يا آية. لماذا اتيت الى هنا؟
آية : جئت اتحدث مع عبد.
ازهار : عبد لا يريد ان يتحدث مع اناس على شاكلتك. هيا اغربي عن وجهي.
سمعها الدكتور فنادى من وراء الباب، "دعيها تدخل يا ازهار". اشارت بيدها لآية كي تدخل وعوجت بفمها. فتحت آية الباب فوجدت طليقها يجلس خلف مكتبه. ابتسم ابتسامته الخبيثة وقال،
د.عبد الستار : ما هذا الشرف العظيم الذي دفعك لزيارتنا؟ هل اشتقت الي؟
آية : ولماذا اشتاق لانسان سبق وان تخلصت منه. يقول المثل، "المرء لا يلعق بصاقه بعد ان يلفضه على الارض". انا فقط جئت اسألك، لماذا تسببت برفض المحافظ على انشاء المصنع؟
د.عبد الستار : ببساطة اردت ان ابقي الديوانية نقية وخالية من القاذورات. هاهاها.
آية : انت شرير جداً يا عبد. لا اعلم كيف وافق والدي على تزويجي بك؟
د.عبد الستار : لقد انبهر بالمال. فانا كنت صفقة رابحة بالنسبة له.
آية : خسئت يا حيوان.
د.عبد الستار : انتبهي على كلامك. انت بعيادتي وصرتِ تشتميني. بامكاني ان استدعي الشرطة الآن كي تأخذك من هنا وتودعك السجن لتَلَفّظك الكلمات النابية.
آية : يا الهي، كم انت خسيس. اسمع يا كلب، اريد ان ارى ابني.
د.عبد الستار : سوف لن تريه طالما انا حي يا ساقطة.
آية : سنرى ماذا سيقول القضاء عندما ارفع عليك دعوة.
د.عبد الستار : لو كان بامكانك رفع الدعاوي لفعلتيها بالماضي. هيا اخرجي ايتها الزانية.
شعرت انها ستنفجر من حدة الغضب. ادارت وجهها وهمت بالخروج. ولكن قبل ان تفتح باب مكتبه ناداها ثانية وقال،
د.عبد الستار : انتظري لحظة.
وقفت واستدارت نحوه وقالت،
آية : ماذا؟
د.عبد الستار : لقد تألمت لسماع خبر نشوب الحريق الذي بمصنعك ببغداد. ارجو ان لا يكون قد تسبب في ايذائك كثيراً.
قالها وهو يبتسم بخباثته المعهودة.
آية : هل كنت انت وراء ذلك الحريق ايها النذل؟
بدأ يقهقه عالياً واشار باصبعه كي تخرج من مكتبه. بصقت عليه فغطى الرذاذ وجهه ثم خرجت دون ان تغلق الباب ورائها لتجد الممرضة جالسة خلف مكتبها ممسكة بمرأة صغيرة وقد ملأت وجهها اصباغاً ملونة فاصبحت كالمهرجين. لم تنبس بكلمة واحدة بل توجهت مباشرة صوب الباب الخارجي للعيادة لتسمع ازهار تقول، "درب الصد ما رد".
ركبت سيارتها ولم تلتفت ورائها. راحت ترتعش من شدة الغضب، رفعت يدها الى السماء وقالت، "يا رب يامن لا تضيع عندك الحقوق، يا من تكره الظلم والظالمين، يا من تنصر المستضعفين، ارني بهذا الفاجر يوماً استطيع فيه ان ابرد غليلي". عادت مباشرة نحو الطريق الخارجي رقم 8 راجعة الى بغداد. دخلت بيت الخالة رافدة فوجدتها جالسة وحيدة في الصالة. فورما رأتها ابتسمت ورحبت بها لتجلس معها وراحت تحدثها عما حصل بمسقط رأسها وظلم طليقها وكيف كان السبب في حرق المصنع ببغداد. قالت لها،
رافدة : ما هذا الوحش المتفرعن! كيف تتبّعك الى بغداد وراح يحاربك بعد كل هذه السنين! انه حقاً الشيطان الرجيم بعينه. لا عليك حبيبتي. ارتاحِي اليوم وسنبدأ بالتفكير بالحلول غداً.
لم تتمكن آية من النوم بتلك الليلة لان القلق والغضب كانوا مسيطرين على تفكيرها. صارت كلمات طليقها تتكرر برأسها وكانها مطارق تضرب على النواقيس. بقيت كلمة واحدة برأسها تتكرر ولا تتوارى، "زانية، زانية، زانية،". باليوم التالي استيقظت آية مبكراً وذهبت الى رافدة وهي تبتسم قالت،
آية : لقد وجدت الحل يا خالتي. سنبني المشروع ببغداد هذه المرة، بعيداً عن ذلك الوغد السافل.
رافدة : فكرة صائبة يا ابنتي. انا اساساً لم اكن ارغب بذهابك الى الديوانية كي تصبحى قريبة من طليقك فيتمكن من ازعاجك. اعملي مشروعك هنا ببغداد فهذا افضل لك.
بعد ان تناولت افطارها ركبت آية سيارتها وذهبت الى بنك الرافين ببغداد الجديدة. دخلت على مدير البنك فرحب بها وطلب منها الجلوس ثم سألها،
المدير : من الجيد انك جئت الينا لانني كنت ساستدعيك لنتحدث.
آية : تستدعيني؟ لماذا؟
المدير : عندما أحلت مشروعك الى الفرع المركزي قبل يومين. ردوا علي وقالوا ان جميع طلبات القروض مرفوضة بالوقت الحالي. لذلك يؤسفني ان اخبرك ان البنك سوف لن يتمكن من تمويل مشروعك.
آية : يا الهي لماذا؟ سبق وان قلت لي ان البنك سيقرضني المبلغ. فلماذا غيرت رأيك؟
المدير : انا قلت لك ان البنك موافق (مبدئياً) ويرى ان اقراضك المبلغ ممكن. لكنني لم اقل ان الموافقة النهائية قد تمت.
آية : وماذا تغير الآن إذاً؟
المدير : الذي تغير ان هناك قرار عام وشامل لجميع المشاريع وليس مشروعك انت فحسب.
آية : او ربما تسلمت اوامرك من د.عبد الستار الحسناوي طليقي بالديوانية. هل تعتقدني غبية؟
المدير : من هو د.عبد الستار الحسناوي. أتتهمينني بالذعون للضغوط يا امرأة؟
آية : اجل. هذا ما حصل مع بلدية الديوانية. ضغط طليقي على محافظ البلدية فسحبت البلدية الترخيص مني. وانت تفعل نفس الشيء هنا ببغداد.
بكل غضب اخرج ملفاً من تحت كومة الملفات التي امامه على مكتبه وعرضها عليها.
المدير : اسمعي مني سيدتي. انظري الى القرار بنفسك. انه صادر بتاريخ اليوم. انه من الادارة المركزية ببغداد. وليس له اي ربط بالديوانية او طليقك. انه امر بتوقيف التموين لجميع المشاريع.
امسكت الملف وراحت تقرأه ثم نظرت اليه باستحياء وقالت،
آية : انا آسفة يا اخي. ارجوك سامحني. لقد مررت باوقات عصيبة قاسية كان طليقي ورائها جميعاً. انا اعتذر منك.
خرجت آية وهي بغاية الحزن تكاد تنفجر من جراء كل الضغوط التي واجهتها اينما ولت وجهها. رجعت الى منزل السيدة رافدة فرحبت بها واستدعتها لتناول الغداء الا انها قالت انها تعاني من الصداع وانها تريد ان تستلقي قليلاً. دخلت غرفتها وانبطحت بملابسها على السرير وراحت تبكي دافنة وجهها بالمخدة ثم استسلمت لنوم عميق دام 3 ساعات. بعدها دخلت عليها رافدة وقالت،
رافدة : آن الاوان ان تستيقظي يا أيوش. لقد نمت اكثر من ثلاث ساعات. ماذا جرى بالبنك؟ اخبريني.
آية : يا رافدة انا اتحطم. كل شيء صار يحاربني كل الابواب تغلق امامي حتى الحظ قد هجرني. لم اعد احتمل يا خالتي.
رافدة : استهدي بالرحمان وحدثيني بما جرى بينك وبين مدير البنك الفرعي.
راحت تقص عليها كيف ذهبت لمكتب المدير وعن الحديث الذي دار بينهما والقرار الرسمي الذي اخرجه من الملف وعرضه عليها حتى انتهت بانها كانت تحلم احلاماً لا تتحقق وان اي مشروع سيكون مصيره الفشل.
رافدة : هل تؤمنين بالله يا آية؟
آية : بالطبع يا خالتي. وكيف لا أؤمن؟
رافدة : الم تسمعي قوله تعالى، من يتقي الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
آية : ونعم بالله ولكن يا خالتي ان...
قاطعتها رافدة وقالت،
رافدة : ضعي ثقتك بالله، الواحد الاحد، والله سوف لن يخيب ظنك ابداً.
آية : ونعم بالله.
رافدة : والآن اتركي السرير وانزلي معي كي نتناول بعض الطعام سوية فانت لم تأكلي شيئاً منذ هذا الصباح.
نزلت آية ورافدة الى الطابق السفلي وجلست مع عبدالله بينما ذهبت رافدة الى المطبخ واحضرت بعض الصحون وبها مرقة السبانخ. وضعت الصينية امام آية فتناولت منها القليل ثم توقفت وقالت، "الحمد لله". قالت لها رافدة،
رافدة : اليوم وصلت ابنة جارتنا فاتن من ايطاليا. هي مغتربة وتسكن ايطاليا مع زوجها حيدر منذ اكثر من 8 سنوات. اعتقد انها تريد ان تراك. ما رأيك ان نذهب لزيارتهم غداً ونبارك لهم بعودة ابنتها فاتن؟ سيكون تغييراً لك من اجواء الحزن والكآبة الذي تمرين بها حبيبتي.
آية : كما تشائين يا خالتي.
1510 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع