لوبي إسرائيل في واشنطن لا يهمه فقط أن تقدم الولايات المتحدة الدعم الفعلي لإسرائيل، وإنما يهمه بالدرجة نفسها ألا تتخذ أميركا أية مواقف علنية تختلف عن مواقف إسرائيل. آية ذلك ما جرى في المؤتمر العام للحزب الديمقراطي، الذي انعقد الأسبوع الماضي في مدينة شارلوت بولاية نورث كارولينا.
فرغم أن التعاون الأمني والعسكري والاستخباراتي قد وصل في عهد أوباما إلى مستويات "غير مسبوقة"، على حد تعبير وزير الدفاع الإسرائيلى نفسه، إلا أن الدنيا قامت ولم تقعد لأن برنامج الحزب لهذا العام سقطت منه عبارة كانت موجودة في برنامج 2008، تنص على اعتبار القدس عاصمة إسرائيل. ولم يشفع لأوباما أن الفقرة المتعلقة بدعم إسرائيل في برنامج هذا العام، أقوى من مثيلتها في برنامج 2008.
وقد ازداد الجدل حين أعيد فتح باب التصويت لاستدراك الأمر وإعادة إدراج فقرة القدس، عندما تبين أن المعارضين لإعادة الفقرة كانوا أعلى صوتا من الموافقين.
ورغم أن ضغوط أوباما شخصيا أعادت الفقرة لمكانها، بينما سارع عدد من أعضاء الكونغرس لانتقاد غياب تلك الفقرة أو تغييبها، إلا أن المهم في القصة كلها هو أنها كشفت عن أن نسبة معتبرة من مندوبي الولايات الذين حضروا المؤتمر العام، وهم مواطنون عاديون، رفضوا اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، الأمر الذي يعني وجود فجوة بين السياسيين الأميركيين المذعورين من لوبي إسرائيل، وجمهورهم الباحث عن العدل في سياسة بلاده الخارجية.
والانحناء لرغبات لوبي إسرائيل، لم يقتصر على حملة أوباما وحزبه. فرومني، وجد في القصة هدية على طبق من فضة، يمكنه استخدامها لتقليص فرص أوباما.
فأطلق الرجل تصريحا انتقد فيه الحزب الديمقراطي "كله"، لأنه "تبنى رفض أوباما المخجل للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل". ويهدف رومني للتماهي مع موقف لوبي إسرائيل، أملا في الحصول على أكبر نسبة من أصوات اليهود الأميركيين، خصوصا في الولايات التي قد تحسم فيها نتيجة الانتخابات بفارق ضئيل، مثل أوهايو وبنسلفانيا وفلوريدا.
لكن ما جرى داخل الحزب الديمقراطي، لا يقتصر في أهميته على اعتراض نسبة معتبرة على إعادة فقرة القدس، فالكثير لم يعلن بعد بشأن ما حدث عند حذف الفقرة. فرغم الإعلان عن أن تلك كانت "غلطة غير مقصودة"، إلا أن تحليل تصريحات المسؤولين في الحزب والتي تبدو متناقضة ظاهريا، يشير إلى أن الحذف كان عمديا، بل وربما بعلم قيادات يهودية نافذة ومناصرة بقوة لإسرائيل.
فتصريحات عضو الكونغرس السابق روبرت وكسلر، والذي كان عضوا في لجنة صياغة البرنامج، ذات دلالة بالغة.
فهو لم ينف أن البيت الأبيض بعث برسالة للحزب طلب فيها، عند الحديث عن إسرائيل في البرنامج العام، أن يتم التركيز بالدرجة الأولى على التعاون العسكري والأمني والاستخباراتي، الذي ارتفع لمستويات غير مسبوقة في عهد أوباما. وطلب البيت الأبيض طبيعي في تقديري، إذ إنه ما تحقق في عهد أوباما فعلا، فتسعى حملته لاستخدامه انتخابيا لصالحه.. والواضح أن البيت الأبيض حصل على ما أراد.
غير أن روبرت وكسلر- اليهودي النافذ في دوائر الحزب والقريب من أوباما وصاحب المواقف المتشددة في دعم إسرائيل - صرح أيضا بأنه لم تتم مناقشة فقرة القدس أصلا عند صياغة البرنامج، ولكنه في عبارة ذات دلالة قال إن "هذه ليست قضية اليوم، فلا توجد مفاوضات سلام الآن. وقضية اليوم هي أمن إسرائيل وكيف نوقف برنامج إيران النووي".
والحقيقة أن خطاب وكسلر، يذكرك بخطاب المحافظين الجدد الذين كان هدفهم تغييب قضية فلسطين، عبر خلق أجندة مختلفة تحتل فيها أولويات إسرائيل المقدمة. غير أن تصريحا آخر نسب للمتحدثة الرسمية باسم المؤتمر، جاء فيه أن النية من وراء حذف فقرة القدس كانت أن يخرج البرنامج "متسقا مع سياسة البيت الأبيض الفعلية". وأضافت أن "كل رئيس أمريكي، ديمقراطي أو جمهوري، لم تكن سياسته أبدا الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل".
والحقيقة أن تلك التصريحات المتناقضة، تشي بأن السيناريو الأقرب للحقيقة هو أن فريقا داخل المؤتمر العام سعى بالفعل لحذف فقرة اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، على أساس أن القدس من قضايا الوضع النهائي التي تحسمها المفاوضات، لكن ذلك الحذف لاقى استحسانا لدى بعض أنصار إسرائيل، ليس لأنهم متفقون مع هؤلاء في الرأي، وإنما لأنهم وجدوا في هذا الحذف تحقيقا لهدف آخر، وهو تغييب قضية فلسطين والتركيز فقط عن أولويات إسرائيل؛ كالأمن وبرنامج إيران النووي.
لكن يبدو أن ذلك الاستحسان لاقى تذمرا من الأكثر تشددا في لوبي إسرائيل، والذين لا يطيقون أن تُتخذ في أمريكا مواقف رسمية قد تفسر على أنها تختلف مع الموقف الإسرائيلي.
بعبارة أخرى، فإن عدم ارتياح لوبي إسرائيل لأوباما منذ البداية، ليس مصدره أنه فعل ما يضر بإسرائيل، وإنما لأنه جرؤ على أن يتخذ مواقف تختلف عن المواقف الإسرائيلية، كالموقف الحالي لإدارته الرافض لتقيام إسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية لإيران، واتخاذه في بداية حكمه موقفا ضد المستوطنات، والضغط على إسرائيل بشأن التسوية الفلسطينية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو؛ هل يعامل لوبي إسرائيل أوباما كما عامل جيمي كارتر؟ فرغم أن كارتر كان مهندس معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي خدمت إسرائيل بالدرجة الأولى، إلا أنني سمعت بنفسي من الرئيس كارتر أن لوبي إسرائيل كان أحد أسباب فشله في الفوز بولاية ثانية في انتخابات 1980. فلوبي إسرائيل لم يغفر أبدا لكارتر أنه ضغط على إسرائيل، ولا أنه اختلف علنا معها.
إلا أن السؤال الأكثر أهمية بكثير؛ ماذا سيكون رد فعل الديمقراطيين؟ هل سيظلون مذعورين أم سيعملون على سد الفجوة بينهم وبين مواطنيهم الساخطين على الدعم الأعمى الذي تقدمه بلادهم لإسرائيل؟
943 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع