صدّام حسين.. من الاحتلال حتى الاعتقال

 أحمد العبدالله

صدّام حسين.. من الاحتلال حتى الاعتقال

كان آخر ظهور علني للرئيس صدام حسين في بغداد, ظهيرة يوم التاسع من نيسان 2003, وهو يعتلي إحدى سيارات موكبه الرئاسي فوق جسر(الأئمة), وسط العشرات من أهالي الأعظمية الذين كانوا يحيطون به, ويهتفون له. وفي وقت لاحق من اليوم نفسه سجّل خطابه الأخير على شريط(فيديو), والذي لم يُذع, وأرسله مع مندوبه الإعلامي المناوب؛منير عبد الكريم, إلى وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف المتواجد في مبنى قناة العراق الفضائية المطلّ على ساحة عنتر. وفي هذا اليوم كانت القوات الغازية قد تغلغلت في معظم مناطق العاصمة, و(برعايتها)وتشجيعها, انطلقت أكبر عملية(فرهود)في التاريخ!!.

وكان صدام حسين شاهداً على أعمال السلب والنهب في اليوم ذاته, وهو يخرج في جولة تفقدية أخيرة لشرق بغداد, حيث عبر القناة باتجاه(فلكة 83), في طريقه إلى الحي المسمّى بإسمه؛(مدينة صدام)!!, قبل أن يعود أدراجه إلى الأعظمية, ويقضي فيها ليلته الأخيرة, حيث جرت معركة حامية الوطيس مع الغزاة المحتلّين. وخلال جولته الأخيرة تلك رأى قطعان الغوغاء, وهي تسرق مخازن وزارة التجارة في منطقة(كسرة وعطش), وهي القطعان نفسها التي كانت ترقص وتهزج له في الشوارع والساحات وبمئات الألوف!!, فأوقف أحدهم وكان يحمل كرسيّاً على رأسه من(أسلاب)المخازن التي تحترق, وصاح به؛ ما هذا الذي تفعلونه؟!. فما كان من صاحب الكرسي إلاّ أن أنزل كرسيّه المسروق ووضعه أرضاً, وبدأ يرقص ويهتف للرئيس!!.
وفي عصر يوم الخميس العاشر من نيسان, كان وداعه الأخير لبغداد, قبل أن يعود إليها أسيرا مقبوضا عليه من قبل الأمريكان, بعد ثمانية أشهر من التخفّي, حيث غادرها باتجاه محافظة الأنبار, وألقى رحله عند مضارب آل خربيط, وخلع بدلته العسكرية لآخر مرّة والتي ظل يرتديها بشكل شبه دائم منذ عام 1980, وهناك تم استهدافه فجر اليوم التالي بضربة جوية أمريكية أخطأته, ولكنها أودت بحياة مرافقه اللواء روكان عبد الغفور مع أكثر من عشرين شخصا من آل خربيط؛ رجالا ونساءا وأطفالا. وفي نهار ذلك اليوم طلب من ولديه؛ عدي وقصي وسكرتيره الفريق عبد حميد محمود الافتراق وأن يذهب كل منهم في اتجاه, ومكث هو مع عدد قليل من حراسه في مدينة هيت وما جاورها متنقلاً لمدة أسبوع, وكانت له محطات توقف في الصحاري والقفار ووصل في حركته إلى منطقة(تلول الباج) التابعة لمحافظة نينوى والتي تقع جنوب قضاء الحضر.
ثم غادر الأنبار باتجاه سامراء عبر طريق الثرثار الذي يربطها بالفلوجة, في طريقه إلى مدينة الدور التي وصلها يوم التاسع عشر من نيسان. ويذكر عبد الباقي عبد الكريم السعدون عضو القيادة القطرية في مقابلة له مع قناة(العراقية) بعد القبض عليه سنة 2015, إنه التقى بصدام حسين مرتين خلال هذه الفترة, الأولى في محافظة ديالى بمنطقة كنعان, والثانية في بيت في تكريت بشارع الأربعين قرب الجامع الكبير(جامع صدام), بدون أن يحدد التاريخ بدقة. ثم استقرَّ في بيت طباخه السابق قيس النامق وبلا تحضيرات مسبقة, ومكث فيه ما تبقى من الشهر الرابع والشهر الذي تلاه, لينتقل بعدها لمزرعة النامق التي تقع شمال الدور بقليل على الجانب الأيسر لنهر دجلة, وفيها تم أسره مساء يوم الثالث عشر من شهر كانون الأول 2003*.
ومن خلال ما تقدم, يتبيّن إنه لا وجود لخطة مسبقة للاختباء, بل يبدو الأمر وكأنه عمل ارتجالي يقوم به اثنان أو ثلاثة من أفراد الحماية الخاصة من العناصر المستجدين وقليلي الخبرة. وكأن هذا الرجل ليس صدام حسين الذي قرأنا عنه وعرفناه بما لديه من حسٍّ أمنيًّ عالٍ والتحسب لأسوأ الاحتمالات. فكيف له أن يحضر هكذا على رؤوس الأشهاد إلى مدينة صغيرة, يُعرف الغريب الوافد إليها من قبل ساكنيها بمجرد أن تطأ أقدامه أرضها, ثم يبقى مقيما في بيت من بيوتها, معروف لأهل المدينة إنه كان لحد أشهر قليلة مضت إنه من أفراد طاقم الخدمة الخاص بالرئيس, وبلا تغيير لمدة أربعين يوما متواصلة؟!, وفي مجتمع صار الكثير من أفراده مخبرين سريّين للمحتلّين لأسباب مادية بالدرجة الأساس.
كان يُفترض أن يتم الاستغناء عن طاقم الحماية السابق, وإحلال عناصر بديلة غير معروفة الوجوه, مهيّئة مسبقا ومؤتمنة ومتمرسة بالظروف الجديدة الصعبة, وتجهيز أماكن اختفاء متعددة في أماكن مختلفة, ويفضّل أن تكون في الأرياف والبساتين والمناطق الجبلية؛(حمرين ومكحول مثلا), وأن لا يمكث طويلا في أيٍّ منها. والخطأ الآخر الذي وقع به صدام حسين, هو عدم مروره بفترة من الزمن لا تقل عن ستة أشهر, يكمن خلالها ولا يتصل بأحد, إلّا بقلة قليلة من الأشخاص الموثوقين, وعدم إرسال خطابات صوتية لإذاعتها, والعكوف على وضع خطط للتحرك على ضوء الظروف المستجدة.
والرواية الأمريكية بأن حارسه الشخصي؛العقيد محمد إبراهيم المسلط, هو الذي دلَّ على مكان اختباء صدام حسين, بعد القبض عليه في بغداد قبيل أسر الرئيس بأقل من عشرين ساعة, تبدو متماسكة, ولكن لا يمكن التسليم بها بشكل مطلق, فعدد المشتبه بهم بالوشاية يشمل أشخاصاً آخرين أيضا. كما إن الرواية الأخرى التي تقول إن(المسلط)قد فعل ذلك تحت الضغط والإكراه, هي رواية غير مقنعة أبداً. فشخص بموقعه وقد مضى عليه أكثر من عشرين عاما في الحماية الخاصة, كان عليه أن يصمد ويتحمل ويصابر من جانب, وفي الوقت نفسه يحاول مخادعة الأمريكان لكسب مزيد من الوقت, من خلال أخذهم لأماكن أخرى لغرض إيهامهم. ولو فعل ذلك ولعب لعبة الوقت لبضعة أيام فحسب, لكان قد أدرك صدام حسين إن حارسه قيد الاعتقال, ولغادر مكانه سريعا.
وأعتقد إن الحارس المذكور وآخرين غيره أيضا, كانت تعوزهم عوامل التماسك والجَلَد ونكران الذات والتضحية, فيصيبهم الهلع والانهيار فور اعتقالهم, بسبب ضعف في إعدادهم النفسي والمعنوي, ووهن صلتهم بالله, وعدم استيعابهم للوضع الجديد بغياب السلطة التي اعتادوا على التصرف في ظلها. كما لايمكننا استبعاد عوامل الجشع والطمع للفوز بالمكافأة لدى بعضهم للنجاة بأنفسهم و(تأمين مستقبلهم)!!. والدليل هو امتناع معظم من أستأمنهم الرئيس على الأموال التي سلّمها لهم قبيل احتلال بغداد عن إعادتها, وادعائهم إن الأمريكان قد استولوا عليها!!.
وخلاصة القول؛ إن علاقة الحاكم والمحكوم في العراق مبنيّة على الخوف والطمع, فالشعب يهتف للحاكم ويُظهر له الطاعة والولاء تملّقا ورياءاً, والحاكم يستهويه هذا الخنوع ويظنه حبّاً وإعجابا, ويعيش في ظل هذا الوهم, وعندما ترتخي قبضته أو تزول, تظهر الحقيقة الغائبة أو المغيّبة, فتنقلب تلك الجماهير المليونية من النقيض إلى النقيض, ويغدو الحاكم مطاردا ورأسه مطلوبا. وبعد حين من انقضاء عهده, يبدأون بالحنين إليه, وتمنّي عودته, وجلد الذات على التفريط به. المشهد يتكرر, ولكن لا الحكام يتّعظون ولا المحكومون أيضا. وتلك مصيبتنا الكبرى!!.
.............................................
* هذه المعلومات مستقاة من متابعاتي الخاصة, وبعضها الآخر من قناة المحامي الأستاذ سليمان الجبوري؛(الحقائق بالوثائق) على(اليو تيوب).

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1492 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع