المؤرخ إبراهيم فاضل الناصري
(حالات مجتمع تكريت عبر محطات التحولات) حالة التكريتي تترى بين تكريت الصغرى وتكريت الكبرى
على مدى التاريخ الإنساني المديد، قامت آلاف المدن والقرى، فمنها التي ما فتئت ان هجرت واندثرت ثم امست خبر او أثر وأطلق عليها المدن المندثرة، ومنها التي لم تنطفئ فيها شعلة الحياة، فاستمرت باقية، ويطلق عليها المدن المستمرة، و(تكريت) المدينة الازلية، هي من تلك المدن التي بقيت فيها جذوة مشعل الحياة متقدة، فكانت من المدن المستمرة الخالدة.
لقد انبثقت تكريت كمستوطن حضري، ونمت وأضحت مدينة، ثم تدرجت بالتمدن حتى وصلت به الى ذروته في السعة والحجم خلال عددا من الاعصر والعهود، وقد كان عصر التوسع الأول هو العصر الاشوري، حيث اهتم فيها الملوك الاشوريون خلال العهد الوسيط لدولتهم، فخرجت خلاله متمددة عن نطاق قلعتها او حصنها. وقد كان عصر التوسع الأخير هو العصر العباسي وتحديدا بعد ان أضحت عاصمة الدولة سامراء المجاورة لها، اذ تمددت واتسعت حتى أضحت واسعة الارجاء فسيحة الساحة، وهذا النمو فالتمدد والاتساع له ضريبة، وضريبته كانت الانفتاح وعدم الانغلاق أي ان المدينة تفتح أذرعها واحضانها لكل من يرتأى التوطن والعيش فيها.
اما عن ضمور مدينة تكريت ووصولها الى ذروة التقلص، فقد كان في عصور الفتور وحقب الثبور وهي كثر، ولكن كان أشدها ضيقا: العصر الاخميني والعصر البويهي وحقبتا المغول والتتار والعصر العثماني وفترة الاحتلال البريطاني.
ان اتساع مدينة تكريت وتضيّقها، وتمددها واحجامها، الذي صار يتكرر على طول تاريخها انما كانت في وقعه كحال البحر في حالتي المد والجزر، فمثلا انها عندما كانت في العصر العباسي واسعة الارجاء وفسيحة الساحة، شاءت المقادير ان تحل فيها البلايا وسيء المصير فعمل فيها الغزو التتري القتل والتدمير حتى كاد ان يحل فيها الفناء لولا إرادة الله الذي قدر لها البقاء، بيد انه قد حولها ذات نطاق محدود وحجم مجتمعي صغير، وقد استمر محافظا على نطاق احجامه وتضيقه المذكور حتى الربع الأول من القرن العشرين المنصرم، اذ ان الاتساع الذي حصل مع العام 1931م قد كان اول خروج لمدينة تكريت من طوقها البلدي المحدود بعد قيامها من جديد، حيث خرج الناس عن نطاق مدينتهم المحدد، متجاوزين السور ليختطوا مساكنا لهم في خارجه، فباتت بتعاقب العقود وتواردها تنشأ وتنبثق محلات سكنية مستحدثة في خارج السور شمالا وجنوبا، واما الحال غربا فلعل امره لم يكد يحصل حتى العام 1969 حينما شرعت البلدية بتوزيع قطع الأراضي في غربي الشارع العام الذي صار يتمدد في محل السور الغربي المزال. وبسبب هذا التوسع السكني الحاصل عادت تكريت واسعة الارجاء فسيحة الساحة من جديد.
ان السعة والتمدد الحاصلين لتكريت في التاريخ المعاصر، انما ضريبته بحقها هي الانفتاح (الجذب والاحتضان للسكان) من الانحاء والارجاء القريبة والبعيدة.
بيد ان الانفجار الكبير في السعة والجذب في المجتمع السكاني لتكريت انما كان قد حصل وحدث في عام 1976م حينما اقرت تكريت مركزا لمحافظة عراقية، مما استوجب فتح باب الجذب فيها على مصراعيه فكان من جراء ذلك ان توطنت فيها عوائل وجماعات كثيرة. ولعل من الظواهر الناشئة من جراء تلك التحولات في السعة السكانية في تكريت، هو تعقد نسيج مجتمعها المدني القائم، وتحوله من نسيج بسيط الى معقد.
وهكذا ولدت حالة (تكريت الكبرى) في العام 1976ميلادي، من رحم حالة (تكريت الصغرى). الراحلة، فتكريت الصغرى انما كانت قائمة حتى عهد تحولها لمركز محافظة في العام 1976م، برغم انها قبل ذلك كانت قد شبت وبأكثر من مرة عن اطارها او طوقها السكاني وتجاوزت نطاق حجم تشكيلها المجتمعي. اذ المجتمع المدني لتكريت وحتى عهد التحول المدني المنوه عنه انفا انما كن يعتمد النظام الحمائلي الثلاثي القطب، والمتشكل من تواطن وتجاور وتعايش ثلاثة انتماءات اجتماعية كبيرة (حمائل)، كان كل منها يتكون من مجموعة اسر تلتف حول عنوان عشائري كبير يشكل لها المحور. وهذا النظام كان قد ابتدع واقر عرفيا وشعبيا في أيام حكم الوالي سليمان باشا الكبير وكإجراء تنظيمي للمجتمع المدني التكريتي، المتبني لأطر جديدة في تلك الأيام واستمر نفاذ امر هذا النظام فاعلا حتى العهد المنوه عنه أي حتى عام 1976م، حيث اوجبت السعة الانفجارية في نسيج مجتمع مدينة تكريت، التي أضحت مركز محافظة لان ينتفي العمل بذلك النظام او الإجراء العرفي والسياق المجتمعي والتقليد الاجتماعي الموروث الذي اقر في منتصف القرن الثامن عشر وان يستبدل بإجراء ونظام قادر على ان يستوعب ويلم كل السعة وكل التمدد الحاصلين في النسيج الجديد لمدينة تكريت في عصرها الجديد. فكانت الألقاب العشائرية المعتمدة في تكريت وهي في المرحلة التي كانت بها تمثل حالة (تكريت الصغرى) أي ما قبل 1976م انما تتحدد في ثلاثة عناوين حمائلية كبيرة جامعة وهي: التكريتي والناصري والحديثي، والتي كان كل منها يحتضن القابا اسرية ومهنية وارومية مختلفة مؤتلفة تدور حول فلك محوره الرئيس الذي هو العشيرة المركزية للحمولة. بينما الألقاب العشائرية التي صارت تعتمد في مدينة تكريت في مرحلتها الراهنة اللاحقة والتي صارت تتجسد بها كمرحلة (تكريت الكبرى) انما قد تجاوزت الانطقة الحمائلية السالفة الذكر، من التي كانت معبرة عن ألوان النسيج المجتمعي القديم لمدينة تكريت في الماضي القريب. فباتت في حالة جديدة تعد معبرة عن كم كبير من الألقاب المنبثقة حديثا عن القاب عائلية وعن انتماءات عشائرية، متعددة ومختلفة ومؤتلفة، ناسجة من سعة تلونها وتشابكه سجادة مجتمعية جديدة معقدة في تشكل الوانها ونسجها، وان هذا التطور الحاصل في الحال، انما هو سنة الحياة التي لا ولن تستقر على شكل محدد للأبد.
بضوء ذلك نستطيع القول: ان قوس قزح التشكيل لمجتمع لـ(تكريت الصغرى) قد كان بسيطا ومتكونا من ألوان ثلاثة لا غير. بينما اليوم، وفي عهد (تكريت الكبرى)، قد صار قوس قزح التشكيل لمجتمع تكريت الجديد، ملبدا بالألوان التي خرجت عن إطار الطيف الشمسي المحدود.
مما يستوجب تحمل (ضريبة السعة) أي حصول التحول في الألقاب، فيصبح اللقب الذي يحمله (ابن تكريت) غير منحصرا او محددا في التكارتة الاولين، وانما يشمل الذين قد حلوا بعدهم فيها، وصاروا (منها وبيها). لان هؤلاء اللاحقين، انما قد عاشوا وتزوجوا وأعقبوا وماتوا بين ظهرانيها، فهم قد بنوا او اشتروا دورا في احيائها جاعليها موطنا لهم، وزوجوا ابنائهم فيها وماتوا ودفنوا فيها. وشأنهم في حالهم الناشيء هذا هو شأن الذين كانوا قبلهم في نظرة الاقدم منهم إليهم. فالبو ناصر وطي والعزة والموالي المتوطنين لتكريت في عهد السلطان سليمان القانوني، هم جدد عليها بنظر التغالبة والاياديين وباقي(العويسات) الذين هم من التكارتة القدماء، بينما ان النجاري والزبيدي والنعيمي والشيشاوي والشيحاوي والشمري والعمري والجعفري والحمداني والبدراني والدليمي والحيالي والجبوري والالوسي والصميدعي والرفاعي والجوعاني والعجيلي والمعماري والمرسومي والايوبي والزوبعي فضلا على النازلين قبلهم كالعبيدي والعنزي والقيسي وو...الخ من الالقاب المتجايلة، هم جدد على تكريت بنظر البو ناصر والموالي وطيء والعزة الاقدم منهم بالتوطن. وهكذا دواليك هو حال التحولات، في رحلة النمو والتمدد للمجتمعات.
299 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع