الحضارة المتنحية والحضارة المتفوقة /٤

نزار السامرائي

الحضارة المتنحية والحضارة المتفوقة /٤

لأن هذا الموضوع يتعلق بدور الفتوى الدينية في تأخر المجتمع وتخلّفه، كما يقول "التنويريون" والعلمانيون، التي كنت قد وضعتها بتسلسل رقم 2 من القسم الثالث من هذه المقالة، والتي قلت فيها:
(الفتوى التي تسعى إلى تكريس الواقع الموجود بصرف النظر عن تطابقه مع النص المقدس أو لا، وهي الفتوى تصدر عن بعض رجال الدين، الذي يرون في كل تجديد، تهديداً لمصالحهم أو مصالح نظام الحكم الذي يعملون له، وبالتالي فإن مثل هذه الفتاوى، ستتحول إلى سيف مسلط على رقاب دعاة التجديد، سواء في الفقه أو رجال الفكر وفي بنية المجتمع على المستوى الاقتصادي والعلمي، لأن هؤلاء يعتبرون الدعاة إلى التغيير، هم من المتغربين والمشبعين بالأفكار الوافدة، وفاقدي البوصلة الدينية، وأكثر من يلجأ إلى هذه الفتوى هم الذين يسعون إلى تسييس الدين واتخاذه جسرا للمحافظة على المكاسب التي يحظى بها "وعاظ السلاطين").
لذلك فسوف أركز عليها، وأترك النقاط الثلاث الأخرى توخيا لحصر الموضوع في الفكرة الأساسية.
هناك ثلاثة كيانات سياسية لثلاثِ دولٍ إسلامية نشأت بحدودها السياسية القائمة اليوم، وشهدت حضارات في الشرق القديم قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بعدة قرون، ولكنها لم تتواصل فيما بينها إلا بالحروب إلا ما ندر، ولكنها ما زالت تعيش حالة تخلف علمي واقتصادي مقارنة بأوربا وأمريكا ودول "شرقي آسيا" التي شهدت هي أيضا حضارات قديمة، ولكنها لم تجعل من الماضي نصباً مقدساً وحاجزاً يمنع التخطيط العلمي للحاضر، والتفكير المعمق للوصول إلى مستقبل يعيد الكثير من ألق الماضي إليها، لذلك أرى أن أتناولها بالبحث مع مرور سريع على دول أخرى بدأت تنتفع من مواردها المالية الهائلة المتأتية من نشاط اقتصادي ريعي لا فضل لها بتراكمه، ووظفته في مشاريع عمرانية من دون ركائز أساسية تصلح كقاعدة اقتصادية متنوعة الموارد، تنقل التكنولوجيا لغرض توطينها، وتقضي على البطالة والبطالة المقنعة، أرادت أن تقتفي خطوات الدول التي قطعت أشواطا بعيدة في مجالات التطور التقني المتعدد المحاور، ولكن المراقب سرعان ما يلاحظ أنها لم تستطع أن تقيم بتلك الموارد ركائز تكنولوجية تضعها في مصاف الدول المتمدنة، أما لقلة عدد السكان وبالتالي غلبة العنصر الأجنبي على العنصر الوطني، أو أنها لم تحسم خياراتها على النهج الذي عليها أن تمضي فيه، هل هو الصناعات التحويلية والصناعات الخفيفة، أم تذهب إلى الصناعات الثقيلة التي تختزل المسافة الزمنية التي تفصلها عن اليابان وكوريا أو عن أوربا والولايات المتحدة؟
هنا علينا أن نتوقف عند موقف الدول الكبرى التي تتولى شركاتها المتعددة الجنسية استخراج النفط وهو الثروة التي تعد القاسم المشترك لثروات دول المنطقة، وتتحكم في خطط استثمار مداخيله، فبعد ارتفاع سعر برميل النفط خارج كل السياقات المعهودة، ووصلت مداخيلها إلى ارقام فلكية، نتيجة لحروب إقليمية ودولية عاشتها منطقة الشرق الأوسط، أو تعرض خطوط الملاحة البحرية للخطر جراء النزاعات المسلحة.
يذهب الخبراء الاقتصاديون المحليون إلى أن الشركات المملوكة للكارتل النفطي الغربي، تضع قيودا صارمة على أية استثمارات في مجال إقامة قاعدة تكنولوجية في البلدان العربية والإسلامية، لأنها تريدها أسواق تصريف لمنتجاتها الصناعية التي تواجه منافسة شديدة من اليابان وكوريا الجنوبية والصين، فهل من المعقول أن تسمح لدول أخرى بالدخول إلى سوق المنافسة التجارية المزدحمة بالمنتجين الكبار، والذين باتوا يخشون على تجارتهم من الكساد في منطقة تعتبر من أكثر المناطق ثراء في العالم، وربما لا يعرف كثير من أبنائها قيمة هذه الثروة، ويعمل الكارتل النفطي على إعادة تلك الثروات بأية وسيلة متاحة إلى من يعرف قيمتها، ولهذا لاحظنا أن الدول التي حاولت الخروج من شرنقة القوالب المقيدة لها، تم شن الحروب عليها لكسر إرادتها، بما في ذلك شن حروب الإغراق التجاري كمرحلة أولى، ثم في إشغالها في نزاعات داخلية غير قابلة للحل، وأخيرا وفي مرحلة لاحقة شن الحروب المسلحة عليها كما حصل للعراق في الحرب العراقية الإيرانية، عندما حركوا نظامها الجديد لخلق أكبر فتنة في الشرق الأوسط ما زالت تداعياته تضرب استقرار المنطقة بقوة، أو في قصف المفاعل النووي العراقي عام 1981، أو في شن حربين كبريين عليه عام 1991، وعام 2003 من قبل التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة.
إن عدم حسم الخيارات الداخلية، أدى إلى وقوع فوضى في الرؤية السليمة لتلك الدول على جدول الأولويات، ولذلك جاء تحركها بشكل غير مدروس، أدى إلى وقوع تصادم مع الموروث الديني المتزمت الذي كانت تعيشه وتنابز الآخرين، لتثبت أنها أكثر الدول اقترابا من التفسير السليم للفكر الإسلامي، هذه الدول الشرق أوسطية، يمكن اتخاذها كعينةٍ للدرس، وهي مصر والعراق وإيران، وهي التي عاشت حضارات قديمة متألقة وإن كانت كل واحدة منها قد برزت في بعض الجوانب دون أخرى، غير أنها حلقات متكاملة، وإن كانت غير متصلة مع بعضها، إلا أنها تبقى جزءً مهماً من التراث الإنساني، هذا ليس معناه أن الدول الثلاث وحدها التي عاشت حضارة سابقة للميلاد، فهناك في بلاد الشام واليمن وجزيرة العرب، حضارات في غاية التطور والازدهار، ولكننا أخذنا النماذج الثلاث في البحث، من أجل التعرف على أسباب تأخرها عن ركب التقدم الذي عاشته أوربا واليابان على سبيل المثال لا الحصر.
لقد عاشت الدول الثلاث ماضياً تنظر إليه بإكبار واعتزاز شديدين، كما أن هذا الإرث يحظى بأعجاب العالم وخاصة علماء الآثار والمهتمين بها، وترك حضارات غنية للدول الثلاث جعل من دولها بحدودها الحالية تتنافس فيما بينها، لا سيما بين مصر والعراق حول أي من الحضارتين أقدم من الأخرى، أو أكثر تطوراً وشمولاً لأوجهِ الحياة من الأخرى، وإذا ركنا هذه التساؤلات جانبا، فيجب علينا أن نركز على عدة ملاحظات كي نُصدر حكماً موضوعياً عن أسباب تخلف هذه الدول عن ركب الدول الأوربية، لا سيما في مجالات العلوم والتطور الصناعي والزراعي وإقامة قاعدة تكنولوجية تضاهي ما لدى دول أقل تقدما من اليابان أو كوريا الجنوبية.
ثم إن علينا أن ندرس تأثير الكثير من الأحداث المفصلية التي تضافرت على الأمة في ماضيها، وأوشكت أن تقضي على وحدتها ووحدة نظامها السياسي، فعلى سبيل المثال، بعد تسعة عقود من عمر الدولة الأموية في الشام، التي سجلت أعظم الفتوحات في تاريخ الإسلام ونشرته في السهول والوديان وفوق الجبال، واتساع رقعتها من أقاصي الشرق إلى شواطئ المحيط الأطلسي وجنوبي أوربا، دخلت أقوام كثيرة في الإسلام من غير العرب، وخاصة بلاد فارس وما وراء النهر، عند ذاك بدأت تنمو نبتة طارئة على العقيدة الإسلامية، وفي غاية الخطورة على الدولة العربية الإسلامية، وهي الفكر الشعوبي الذي نما في مجتمع الموالي، والذي يجاهر بكراهية العرب بحجة استئثارهم بالمواقع القيادية في الدولة والسيطرة على أموالها، وبعد أحداث مفصلية سقطت الدولة الأموية ونهضت على أشلائها الدولة العباسية، ولم تستقم لها الأمور زمنا طويلا، إذ نشطت حركات من مختلف التوجهات السياسية والفكرية التي لم يطب لها أن ترى الدولة الإسلامية تعيش حالة استقرار، وتتفرغ للبناء وتطوير الصناعة والزراعة، فكانت حركة القرامطة التي انطلقت من الكوفة في العراق، في العقد الأول من القرن العاشر الميلادي، أي نحو عام 908م، أخطر تهديد واجهته الدولة العباسية، إذ انتشرت في أكثر من مكان حتى تجرأت على احتلال بيت الله الحرام وسرقت الحجر الأسود من موضعه، بعد أن ارتكبت من الفظائع الشيء الكثير، فقتلت الآلاف من حجاج بيت الله، كما حكمت البحرين أيضا، ومع نشوء هذه الحركة الخارجة عن الإسلام باسم الدعوة لآل البيت، وكانت تقول إنها تتبع مذهب إسماعيل بن جعفر الصادق، الذي ينظر إليه أتباعه على أنه الإمام السابع وهو المهدي المنتظر، واستشرت عوامل تفككت الدولة العباسية حتى انهارت في نهاية المطاف باحتلال بغداد سنة 656هـ عندما استباحها هولاكو.
وقبل ذلك تأسست الدولة الفاطمية "العبيدية" عام 912م واتخذت من المذهب الإسماعيلي مذهبا رسميا لها، وحكمت شمالي أفريقيا حتى وصلت إلى مصر، ولعل آخر وأخطر ما عانى منه العالم الإسلامي من انشطارات، قيام الدولة الصفوية عام 1500م، وهي الأشد خطرا على وحدة المسلمين، لأنها أحدثت شرخا ما زال يتسبب بكل عوامل التطاحن داخل العالم الإسلامي.
أما الحروب الصليبية فكانت وجهاً آخر لعوامل إشغال الدولة العربية بالحروب الخارجية، فكانت بدايتها الفعلية في تشرين الثاني 1095م، وذلك إثر خطبةِ ألقاها البابا أوربان الثاني، دعا فيها إلى استعادة بيت المقدس من المسلمين، واستمرت زمنا طويلا، وكانت ذات تأثير كبير على هز استقرار الدولة العربية وفرص تطورها، فهل يمكن أن تلتفت أمة تعرضت إلى كل هذا القدر من الفوضى والاضطراب، إلى تطوير نفسها وبناء مراكز البحث العلمي؟ والذي يفضي عادة إلى التطور متعدد المحاور، فلا فرصة لأي مجتمع من المجتمعات في العالم بالتطور، ما لم يعش حالة استقرار أمني وسياسي مجتمعي طويلة، تساعد على الابتكار والابداع، والتخلص من القيود الناجمة عن وضع قوالب جامدة للحلال والحرام، حتى وصلت إلى أمور صغيرة لا تستحق إشغال عالِم أو رجل دين بها، ولكنها دخلت في سجالات الأخذ والرد، والانصراف إلى الخلافات بين الفقهاء أنفسهم، من دون الخروج منها بنتيجة قاطعة، وعلى الرغم من أن القرآن الكريم نزل بأولِ أمرٍ على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، بكلمة اقرأ ثم حث على البحث من خلال الآية الكريمة التي تقول "اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم"، فهل استطاعت الدول الثلاث التي تتخذ من الإسلام دينيا رسميا لها، وتزيد إيران على ذلك بأنها تسمي نفسها الجمهورية الإسلامية، أن تستلهم من الإسلام الحافز لاكتساب المعرفة بكل صورها؟ أم أنها لم تخرج من الشرنقة التي وضعت نفسها أو وُضعت فيها وفضلت الجمود الفكري على الإبداع؟.

للراغبين الأطلاع على الجزء الثالث:

https://algardenia.com/maqalat/65700-2024-11-22-16-47-18.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

730 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع