بقلم الأستاذ الدكتورصلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2024
أستخدام الرايات في الاحتفالات والحروب في العراق القديم
تحتل الأعلام مكانة بارزة في أيقونات بلاد الرافدين قديما، وكانت تستخدم في الاحتفالات الدينية والدنيوية وقت السلم، وتكون في طليعة الجيش وقت الحرب، وهذه الرايات الاحتفالية أو الشعارات تم حملها في الحملات العسكرية لتزويد المقاتلين بالقوة والشجاعة والانضباط فهي تعمل كنقطة تجمع وتنظيم وقيادة القوات وقت الهجوم على الاعداء، وأقدم دليل على وجود الرايات في ثقافة بلاد الرافدين يأتي من أواخر الالفية الرابعة وبداية الالفية الثالثة ق.م، وهي فترة جمدة نصر، وبداية عصر فجر السلالات، والفترة الأكدية، والعهد السومري الحديث أو فترة سلالة أور الثالثة، وخلال هذه الفترات، نجد الرايات مصورة بشكل أساسي على الأختام الأسطوانية، وكذلك على اللوحات التذكارية، وأواني العبادة، والتطعيمات المصنوعة من الصدف أو الطين، والأمثلة الوحيدة المعروفة للرايات التي صورت فعليا تظهر في مشهد معركة خلال الألفيتين الرابعة والثالثة ق.م هي تلك الموجودة على لوحة النصر لـ(نرام- سين) (Naram-Sîn) الملك الأكدي، حيث نقش في المسلة انتصاره على قبائل اللولوبي (Lullubi) في جبال زاكروس (Zagros) (شكل 1)، فتظهر على يسار اللوحة الجيش الأكدي يسير في صفوف منتظمة أسفل هذين الرايتين، مما يشير إلى مدى التنظيم والانضباط الذي يتمتع به الجيش الأكدي، وبالعكس جيش اللولبي على اليمين في حالة من الفوضى، وكانت الرايتان الموجودتان على لوحة النصر لنرام-سين تمثل الآلهة التي منحت الحماية الإلهية للجيش الأكدي على الرغم من أن هوية الآلهة في الرايتين لا تزال غير مؤكدة تماما.
شكل 1: لوحة النصر للملك الأكدي نرام -سين حوالي (2254-2218) ق.م، ارتفاع اللوحة (200) سم، (من مقتنيات متحف اللوفر، باريس)
كانت الراية في بلاد الرافدين المبكرة تتخذ شكل عمود طويل يحمل شعارا يعلوه، وقد يكون مزينا أو غير مزين مثل الشرابات، وأقدم الرايات تعود إلى فترة أوروك (Uruk) (3500-3200) ق.م ، وأواخر جمدة نصر (Jemdet Nasr) (3100-2900) ق م ولم يكن بها شعار بل كانت مزينة على العمود، وكانت الرايات مرتبطة بآلهة معينة، وغالبا ما كان الشعار الذي يعلو الراية هو رمز الإله الذي ارتبطت به الراية، فعلى سبيل المثال، كانت الراية التي يعلوها شكل الهلال (الشكل 3) مرتبطة بإله القمر نانا/سين (Nanna/Sîn)، وفي بعض الحالات، يمكن أن تكون الرايات الفردية ممثلة ليس فقط لإله معين، ولكن أيضا للقوة والسلطة الإلهية، فارتبطت رايات الأسد (lion) التي تعلوها شعار الأسد وتمثل الإلهة إينانا/عشتار(Inana/Ištar)، إلهة الحرب والجنس، وتعطي هذه الراية الرهبة والقوة المرعبة التي يشعر بها المرء في وجود أسد وإله، وعلى ابة حال لدينا رسم لختم اسطواني يعود إلى العهد الأكدي (شكل 2) نرى فيه أربعة أشكال بشرية عارية متشابهة (متدرجة في الارتفاع) الاحتمال الكبير آلهة ذوي شعر ولحية طويلة أو ربما كهنة عراة في معابد الآلهة(عادة يدخل الكهنة معابد بلاد الرافدين عراة، وفي الهند ضمن مسيرة احتفالية دينية لطائفة الهندوس تدخل طبقة البراهما نهر الكانج (Ganges) في مدينة فراناسي (Varanasi) وهم عراة)، وفي الختم الأكدي كل واحد من الآلهة (الكهنة) يمسك بعمود الراية ووضع رمز الإله بجانبه وكما يبدو ان أكبر الأشكال هي راية هيجالو وأصغرهم راية الإله سين وحسب القدسية في العهد الأكدي.
شكل 2: رسم ختم أسطواني من العهد الأكدي (2334-2193) ق.م، تظهر أمثلة على الرايات على العمود، من (مقتنيات متحف متروبوليتان ، نيويورك)
وكما يلاحظ في الختم الاسطواني أشكال الرموز بجانب الرايات وهي من اليسار إلى اليمين:
1- شكل الافعى نيراح (Nirah): الإله نيراح Nirah)) من آلهة بلاد الرافدين، وكان يعمل رسول أو ربما وزيرا (شيبرو šipru) للإلهة عشتار (Ištar)، واعتبر إله مدينة الدير (Der) تقع شرق بلاد الرافدين محاذية لمملكة عيلام (Elam)، وكان يُصور على هيئة ثعبان، وقد تم توثيق عبادته هناك منذ أقدم العصور ولفترة طويلة الأمد، وكان يُعبد في العصر البابلي الكاشي، وله وجود في معبد إيكور (E-kur)، وهو معبد الإله إنليل (Enlil) في نيبور (Nippur) ويُنظر إليه على أنه الإله الحامي للمعبد، وكان هناك إله آخر يدعى إرهان (Irhan)، وهو إله مدينة أور (Ur) وربما كان في الأصل إله يمثل نهر الفرات (Euphrates)، وبقي يعبد حتى فترة سلالة اور الثالثة، ولكن تم ادماج عبادة الإله إرهان لاحقا مع عبادة نيراح (Nirah)، عموما صور نيراح (Nirah)على هيئة ثعبان على احجار الكودورو kudurru)) (حجر حدودي)، وكثيرا ما نجده على حافة حجر حدودي، (يحيط) بالوثيقة الحجرية (حدود الأرض، أو سند الملكية).
2- الهلال سين (Sin): يظهر الهلال كزخرفة في الفن الرافديني من عصور ما قبل التاريخ وحتى العصر البابلي الحديث، ومن المعروف من النقوش أنه كان رمز إله القمر سين (نانا-سوين) (Nanna-Suen) على الأقل منذ العصر البابلي القديم، وكان اسمه الأكدى أوسكارو(uskaru)، وفي جميع الفترات اعتبر (رب الحكمة) و(إله الرحمة) ومن الأشكال الشائعة لراية سين وضع رمز الهلال على عمود (شكل 3)، أو كزخرفة مستقلة أو تحمله آلهة أو حيوانات أو شخصيات هجينة.
3- الشمس شمش (šmš): إله الشمس البابلي ظهر اسم هذا الإله لأول مرة ضمن الأسماء الشخصية الأكدية من فترة ما قبل العصر السرجوني، فعلى سبيل المثال (أمي شمش) (Ummi-Šamaš) تشير إلى أن الشمس كانت في الأصل إلهة أنثى، كما كانت بالنسبة للكنعانيين والحثيين والعرب لاحقا، وربما تأثير إله الشمس السومري (أوتو) (dUTU) هو الذي حول شمش إلى الإله مذكر، وصور على الأختام الاسطوانية، وعلى العكس عند السومريين لم يحقق مكانة بارزة جدا في البانثيون، وكان شمش الأكدي (إله العدالة) الذي يدمر الأشرار ويكافئ العادلين، و (رب السماء والأرض)، وهو أيضا محارب، وخاصة في النصوص الآشورية الحديثة، ويُطلق عليه (سيد السماء والأرض وجميع البشر)، وكان مركز عبادته الرئيسي هو سيبار (Sippar) (موقع تل ابو حبة شمال بابل)، وهي مدينة رئيسية خلال الألفيتين الثانية والأولى ق.م، يمكن قياس مدى شعبية شمش من خلال العديد من الأسماء الشخصية والأختام الأسطوانية والعدد الكبير من الترانيم والصلوات تكريماً له.
4- إناء به جداول هيجالو(hegallu): المعروف باسم )إناء الجريان( أو )إناء الخصوبة( عبارة عن إناء مستدير الجسم، قصير العنق، ذو حافة تخرج منه الجداول وفي بعض الأحيان تظهر الأسماك وهي تسبح على طول الجداول، أو تحل محل الجداول ولكنها توحي بوجودها، ويمكن حمل الإناء بواسطة آلهة، والإناء ذو الجداول يعتبر عنصر شائع في الفن منذ العصور التاريخية المبكرة وإلى العصر الأخميني الفارسي، ويبدو أن الاسم الأكدي للإناء كان هيجالو (hegallu) بمعنى (الوفرة)، وفي العصرين الأكدي وسلالة اور الثالثة، كان إله الماء إنكي (بالسومري Enki) (بالأكدي إياEa ) يحمل الإناء أحيانا، وفي الفترات اللاحقة، كان يحمل الاناء آلهة مختلفة مثل (الإله إيا، ومخلوقات أبزو(Abzu) ومن بينهم لَخَمُ laḫmu).
5- السمكة سيمكُ (SIM KU6): كانت الأسماك تقدم كقرابين في بلاد الرافدين منذ الأزمنة المبكرة، وكانت المياه العذبة لنهري دجلة والفرات وكما كان يُعتقد أنهما ينبعان من أبزو (abzu) (المياه العذبة في العمق) والتي تزخر بالأسماك، ومعظمها من سمك الشبوط (aršuppu)، وكان من الطبيعي أن ترتبط الأسماك بإله الماء إنكي (Enki)، فقد كان إلها حكيما، وكانت الأسماك ترمز أيضا إلى الحكمة، وصورت الأسماك على الأختام الأسطوانية، وخاصة تلك التي تعود إلى العصر البابلي القديم، وغالبا ما يتم وضع صورة السمكة بالقرب من الأشكال والعناصر التي تنذر بالسوء للبشرية مثل الآلهة والشياطين الذين يهاجمون البشر، وربما كان المقصود من السمك في مثل هذه الحالات أن يعطي توازنا معينا، كعلامة على الإحسان، وتُظهِر الأختام الأسطوانية الآشورية الحديثة قرابين الأسماك على الطاولات، وربما مذابح الآلهة، فقد قدم الملك الآشوري سنحاريب Sennacherib)) حكم (704-681) ق.م قربانا للإله إيا (Ea) (بالسومري إنكي) عبارة عن قارب ونموذج لسمكة وكلاهما من الذهب وتم رميهم في البحر بعد نجاح حملته العسكرية في جنوب العراق من جهة وايقاف غضب الرياح الأمواج العالية التي تهدد سفنه في الخليج العربي.
شكل 3: رسم لختم أسطواني من العهد الأكدي الإله (نانا/سين) يحمل لواء بهيئة هلال رمز الإله (من مقتنيات المتحف البريطاني، لندن)
هناك امثلة اخرى نجد فيها رمز الإله مرفوع على عمود في الأختام الاسطوانية وكما في (الشكل 3) الذي يعود إلى العهد الأكدي يظهر لباس الآلهة الأربعة موحدة وذات اهداب امكن التعرف: من اليسار الإله أوتو/شمش تخرج الأشعة من كتفيه، ويحمل صولجان، ويضع يده اليسرى على إله آخر، بينما يمسك الإله سين بعمود ينتهي بهلال وبيدة الاخرى مطرقة ويضع قدمه على منطقة جبلية، ويقف خلفه وزيره نُسْكُ (Nusku) (إله العدالة والنار والضوء)، وصور النصف الأعلى من جسده عاري ويحمل بيدة عصا طويلة تنتهي بحلقتين صغيرتين، والعمود ذو الهلال هنا بمثابة سمة تعريف للإله سين (إله القمر).
716 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع