المؤرخ إبراهيم فاضل الناصري
التغريبة التكريتية الى سوريا والجزيرة العليا في الأزمنة المقضيّة
يحكي لنا التاريخ كيف انه على مر الازمنة والحقب قد كانت الجماعات العراقية تشد رحالها مهاجرة إلى امكنة خارج مواطنها، إما قسريا، هروباً من نوائب الحروب ونوازل الظروف والاحوال، أو اختياريا، بحثاً عن مستقبل أفضل وفضاء أرحب، أو طلبا للعلم او أنماء للتجارة. وفي كل تلك الحالات والاحوال وغيرها تبدو الرحلة او الهجرة عندها مطمحا او غرضا إنسانيا مشروعا.
وبوفق هذا الامر قد كان وتحقق انسياح التكارتة كجماعة من الجماعات العراقية نحو بلدان عديدة وعن موطنهم بعيدة. ولقد جاء هذا الانسياح التكريتي بشكل هجرات اسرية وفردية، وبأوقات متفاوتة ومتعاقبة، ولكنها كانت ذات طبيعة نوعية. ولعل من الشواهد التاريخية على هذا الكلام الذي اقوله هو ما قاله العلامة المؤرخ ابن العبري في كتابه تاريخ الزمان، حيث أورد بخصوص ذلك ما نصه:( واستبهظ أهالي تكريت يومئذ ما وضعه عليهم الولاة الظلام من الضرائب فانتزحوا عن وطنهم وتشتتوا في البلاد ... وشادوا في كل مكان واغنوه).
والحق يقال انه قد كانت البلاد الشامية والجزيرية بالذات من بين اهم الامكنة التي احتضنتهم، وبشكل كبير، بحيث كونوا فيها جالية ذات تأثير وتأثر، اذ يقول المؤرخ الدكتور يوسف الطوني نقلا عن المستشرق جون فييه الدومنيكي: (ان من المدن والبلدان التي استقر التكارتة فيها هي مدن حران وكفر توثا ودمشق والرقة وراس العين ونصيبين وارزن وديار بكر وملطية).
والحقيقة ان بداية هجرات التكارتة نحو الشام والجزيرة الفراتية انما تعود الى حقب ما قبل الإسلام ثم توالت على مر العهود والفترات اللاحقة ولقد اتخذت اتجاهات مختلفة بعضها كانت دينية وبعضها تجارية وبعضها الثالث انسانية. وإذا ما كان هنالك ثمة وجود مبكر لهؤلاء التكارتة في الشام يمتد لحقبة ما قبل الإسلام فانه بات يشكل ظاهرة واضحة تثير الانتباه ابان العهد الذي صارت فيه دمشق عاصمة دولة المسلمين ثم تعاظم امرها بعد منتصف القرن السابع الميلادي. ولم تكن رحلة التكارتة الى الشام مقتصرة على المسلمين بل كان للنصارى التكريتيين حضورا في سلسلة التغريبات التكريتية والحق يقال ان النصارى من التكارتة كانوا قد سبقوا مسلمي تكريت الى الشام اذ ان حضورهم يمتد الى حقب ما قبل الإسلام ولقد كان ذلك جراء كون ارض الشام مركز الاشعاع الديني الذي باتت ترتبط به تكريت في وقتها وبشكل عام يمكن ان نجتهد فنعزو ذروة ذلك الحضور التكريتي الى الشام انما كان وليد عدة عوامل لعل العامل الاول منها هو المترشح من تولي الحكم في الشام من قبل رجال ينتسبون لتكريت والمقصود بهم بنو ايوب الذين اقاموا في الشام دولتهم الايوبية منذ عام 567هجري وما تهيأ جراء ذلك من مناخات دعم لوجودهم وتبوئهم للمناصب وتصدرهم للأسواق اما العامل الثاني الذي ساعد على انتجاع التكارتة للشام هو الغزو المغولي وما جره من مصائب ونوائب وتقتيل وتدمير الامر الذي جعل علماء وتجار تكريت الرحلة الى بلاد امنة في مقدمتها سوريا اما العامل الثالث الذي ساعد على هجرة التكارتة الى الشام فهو الاهمية التي باتت تتمتع بها دمشق في عهود اشراق وازدهار اقتصادي وعلمي بحيث أصبحت من اعظم المراكز الحضارية في العالم الإسلامي في العهدين الايوبي والمملوكي مما جعلها تكون مركز جذب واستقطاب مهم للعرب والمسلمين. ولقد كان الساند لتلك العوامل توفر جملة من الأسباب والظواهر منها التردي الكبير للأوضاع في حياض العراق عامة وفي منطقة تكريت خاصة في الوقت الذي كانت فيه ديار الشام ومدنها تنعم بالاستقرار والنشاط الاقتصادي والفكري المستقطب للتجار والعلماء والاعيان من كل مكان إضافة الى التوافق الديني لبعض التكارتة والتوافق المذهبي للبعض الاخر مع مجتمع الشام.
وهكذا وعلى الرغم من هجرة العديد من الاسر والشخصيات التكريتية الى حواضر انحاء الشام او الجزيرة الفراتية العليا وجعلها مستقرها الابدي، الا ان الانتساب لبلدتهم الام وموطنهم الأساس تكريت قد ظل يتردد عندهم سواء في القابهم او انتسابهم فلم يتحولوا بنسبتهم الى المواطن الجديدة كما ولم يربطوا لقبهم بلقب اخر غير لقب مدينتهم الام (تكريت) ولقد استمر تقليدهم الانتسابي هذا لأجيال طويلة، مما يشير الى الاعتزاز والتعلق بالموطن الام.
ولقد حفلت أيام التكارتة في بلاد الشام والجزيرة الفراتية بالكثير من الأخبار والادوار التي وثقتها دفاتر تاريخ الإسلام وحفظتها الذاكرة القومية باهتمام وتثمين بعد أن نبغ فيهم العلماء والأعلام والتجار والنبلاء فتركوا تراثا ثقافيا معتبرا ومشعا في مجالات الطب والأدب والفقه والحديث والحكمة ثم نالوا من سلاطين ووزراء الشام وملوك وامراء الجزيرة حظوة كبيرة مثلما حازوا بين مجتمعهما منزلة رفيعة حيث ان هذه الجالية لم تكن تضم التجار والعلماء فحسب انما كانت أيضا تضم الامراء والاعيان والصناع والادباء والخطاطين والوراقين والفقهاء الفرسان والمحدثين والقراء ولعل ما هو مدرج في احدى الفقرات التي يتضمنها هذا الكتاب لهو خير موضح لهذا الامر، واما عن مآثر واسهامات هذه أبناء هذه الجالية في الميادين السياسية والعسكرية للشام فان ما جاء من اخبار في بعض المضان التاريخية التي تكلمت عن الشام واعالي الجزيرة خلال حقبة غزو التتار للامة الاسلامية لفيه من الإشارات الدالة على شرف الدور وعظمة المأثرة للجالية التكريتية في الشام وفي الجزيرة.
وفي تغريبتهم هذه لم يكن أبناء الاسر التكريتية المهاجرة الى الديار الشامية عالة على الناس انما جاء حلولهم هناك وهم مقتدرون على تأسيس أماكن سكنى وروافد عيش لهم فضلا على انهم كانوا مؤهلين لتنكب المسؤوليات او تولي المناصب او التزام بعض الحرف والمهارات والاعمال والنشاطات في ميادين العلم او التجارة او الإدارة او حتى الزعامة ولعل من بين الميادين التي جذبتهم ثم برعوا واشتهروا فيها نذكر التجارة والتعليم والزعامة والإدارة.
465 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع