د. أنور أبوبكر كريم الجاف
إقليم كردستان - العراق
العيد الذي فرّقنا
في زمنٍ تُعد فيه الثواني بالأقمار الصناعية، وتُرصد فيه المجرات بمراصد من فوق سبع سماوات وتقرّب ناسا آلاف السنين الضوئية في لمح البصر لا تزال أمة الإسلام تختلف على ميلاد هلال في واحدة من أكثر المفارقات إيلامًا وسخرية، وليس الخلاف إذًا على الهلال ذاته بل على منْ يُعلن رؤيته وعلى أية منبر تُعلَن ومن الذي يُقدّم البلاغ وأيّ سلطان يُبارك النداء. الهلال لا يُرى بعين البصر فحسب بل بعين البصيرة وهؤلاء القوم قد أصيبت بصائرهم فصار الهلال أداةً في يد الساسة ووسيلة لعرض الولاء والانقياد، لا لمواقيت السماء بل لمشيئة الأرض، حيث يُقدَّم الدين قربانًا على مذابح الخضوع والخنوع .
ويا للأسى! ما أشدّ وجع الروح حين تذوب في تفاصيل الخلاف! أسكنُ في السليمانية ولا يفصلني عن كركوك سوى ساعة ولا تبعد سنندج إلا ساعتين وبين هذه المدن المتقاربة في الجغرافيا والأرض المتداخلة في التاريخ واللغة والدين والمصير، ينبثق فجأة جدارٌ من "التقويم الرسمي"! جدارٌ خرسانيٌّ من قرارات عابثة يجعلني في عيد وجاري في صيام أو العكس. أبكي حين أرفع الهاتف لأتردد، أأبارك قريبي في كركوك بحلول العيد، أأهنيء حبيبي في النجف، أم أنتظر؟ أأكتب لأخي في كربلاء أو زميلي في موصل وأنبار "عيدكم مبارك"، أم أُمسك قلمي حتى يتكلم بيان مرجعية أو مفتي ما ؟! أأرسل وردةً إلى صديقٍ في دمشق، أم أعتذر عن التوقيت؟! أأُكبّر أم أؤجل التكبير حتى تمرّ نشرة الأخبار؟! .
إنَّها لمهزلة كبرى ما بعها مهزلة حين يُصبح العيد إعلانًا رسميًا لا شعيرةً ربّانية، ما عاد العيد عاطفة جماعية، بل مناسبة حكومية! يحدده المرسوم لا المحراب يُؤذن به من على منبر السياسة لا من فوق منارة المسجد. كيف نُسلم عقولنا وقلوبنا لهذا التشرذم؟ كيف نفطر في الرياض ونصوم في بغداد؟ كيف نزغرد في مكة ونبكي في القاهرة؟! من الذي فرّق جمعنا، وسرق فرحتنا وجعل من يوم العيد بيانًا متضاربًا بين العواصم؟!.
أعلنت السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين، واليمن، ولبنان، وفلسطين، والسودان، وتركيا أن الأحد 30 مارس 2025 هو أول أيام عيد الفطر المبارك، وقالوا إنّ الهلال قد شوهد بينما أعلنت مصر، وسوريا، والأردن والعراق (بوقفَيه السني والشيعي) وسلطنة عمان وتونس والجزائر وليبيا وإندونيسيا وماليزيا والهند وباكستان أنَّ الاثنين 31 مارس هو أول أيام العيد، لأنّ الهلال لم يُرَ بحسب لجانهم ، وهكذا كلٌّ على مذهبه السياسي لا المذهبي ، وكلٌّ على توقيته السيادي لا السماوي.! إنّها فُوضى الهلال في ظل حكومات لا تنظر إلى السماء إلاّ لتأخذ منها شرعية أرضية.
ليتهم اختلفوا اجتهادًا واختاروا بعلمٍ وبرهان ولكنهم اختلفوا لأنهم لم يجتمعوا على أصل، لا مرجعية جامعة، ولا قلبٌ واحدٌ لهذه الأمة، كأنما خُلقنا لنتنازع حتى على الفرح! ليتهم تركوا الدين لأهله، والفلَك لأهله، والقضاء لأهله، لكنَّهم جمعوا كل شيء في قبضة الطغيان، فصار الهلال سياسيًا والتكبير مؤجلاً والعيد أسير التقويم المطبوع على ورق الملوك.
فوالله لو لم يُحرَّمْ عليّ الخروج عن جماعة المسلمين لما أخذتُ برأي أيٍّ من هذه الدول، لا لأنّهم لا يرون الهلال بل لأنهم لا يرونه بعين الشريعة بل بعين السياسة ، ويتبعون في قراراتهم مرجعية العرش لا محراب الأمة. فأمة ذات قبلة واحدة ونبي واحد لا تجتمع على تكبيرة كيف ستجتمع على مصير؟! أمةٌ يختلف فيها اليوم الواحد إلى يومين أو ثلاثة كيف تُبنى وحدتها؟! لقد شوّهوا دينَ الله بزينة القرارات، وجعلوا شعائر الأمة حقول اختبار للطاعة والانقياد، فذُبح الدينُ مرتين: مرة حين جُيّر، وأخرى حين سُكت على ذلك التجيير.
فإني وأمثالي والله لا نكبر في هذا اليوم طاعةً لأمر سلطان، ولا نرجئ عيدنا التزامًا بقرار متسلّط، بل نكبر لأنه شعيرةٌ جاءت من الله، ولأن الفرح بها حق لكل مسلم، لا فضل فيه لحاكم ولا منّة فيه لوكيل وزارة. والعيد لا يُوزَّع ببلاغ وزاري بل يولد في القلب إذا اجتمع عليه الناس ، في العيد لا نبحث عن التاريخ بل عن الحقيقة ولا عن التوقيت بل عن الجماعة، ولا عن البيان بل عن البهجة.
وكم كنتُ أحبُّ أنْ تتفق هذه الأمة على عيدين فقط: عيد الفطر وعيد الأضحى كما اتفقت على صيام رمضان وعلى عدد ركعات الفجر ، لكن طالما أنّها لا تتفق على الثوابت فإن شعوبها ستُضطهد أكثر وسيقوى ضعفها كلما ضعف اتفاقها ما دام العيد لا يوحّدنا فلن توحّدنا المؤتمرات ولا القمم ولا بيانات التضامن الإسلامي .
فمتى توحّدت الأعياد توحّدت الأمة الإسلامية وشعوبها، ومتى ظلّ كلٌّ يُصلي لتقويمه الخاص فستبقى هذه الأمة كما هي: أمة ممزّقة مفككة يصرخ فيها المؤذن فلا يسمعه جاره ويُعلن فيها العيد فلا يبتسم له أخوه.
وإني لو لم أخرج عن المألوف وأحمل همّ هذه الأمة في قلبي ويحاسبني الله على نيّتي ما كنتُ آخذ بموعد عيدٍ حدّده من يسمّون أنفسهم رؤساء أو قادة أو عظماء، فالعظمة في أن توحّد لا أن تُفرّق وفي أن تُفرح شعبك لا أن تُخضعه حتى في صلاته وتكبيره. فسواء بأيّ يوم عُيّدنا فإني أُهنّئ إخوتي وأخواتي في كوردستان العراق كم أهنيئ أهلنا في عراقنا الحبيب وفي سوريا، وإيران وتركيا ووجميع بلاد العرب والعجم وكل مسلم على وجه هذه الأرض، عيدًا مباركًا سعيدًا،
ودمتم وأهلكم باليُمن والخير والبركة فوق مارمتم .
1248 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع