بالشُكر تدوم النِّعَم..((وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ))

أحمد العبداللّه

بالشُكر تدوم النِّعَم..((وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ))

الشُكر هو؛(الاعتراف بالنعمة للمنعم واستعمالها في طاعته، أما الكفران؛ استعمالها في المعصية). وقليل من يفعل ذلك, لأن الخير أعمّ من الشر، والطاعة أقل من المعصية. وفي صحيح مسلم عن أمِّ المؤمنين السيدة عائشة(رضي الله عنها), أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم)كان يقوم من الليل حتى تفطر قدماه, فقالت له:(أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟, فقال: أفلا أكون عبدًا شكورا ؟).

وقيل إن:(حقيقة الشكر العجز عن الشكر). وروي أن النبي موسى(عليه السلام), قال:(إلهي أنعمت علي النعم السوابغ، وأمرتني بالشكر, وإنما شكري إياك نعمة منك). فقال له الله تعالى:(يا موسى.. تعلمت العلم الذي لا يفوقه شيء من علم، حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهو منّي). وقال النبي داود(عليه السلام):(سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره, شكرًا، كما جعل اعترافه بالعجزعن معرفته, معرفة).

والنعم كي تدوم ويبارك الله فيها لأهلها تستوجب من العبد شكر النعمة لحفظها من الزوال, فإنها إن زالت قلّما ترجع. فعن أمِّ المؤمنين السيدة عائشةَ(رضي الله عنها), قالت: دخل رسول اللَّه(صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)يومًا، فرأَى كِسْرَةً ملقاة، فمشى إِليها فَأَخذها، فمسحها ثم أَكلها، ثم قال:(يا عائشة، أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا قَلَّ مَا تَزُولُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ فَكَادَتْ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِمْ). وكما قال سبحانه وتعالى؛((كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ)).

وعن أنس(رضي الله عنه):أنَّ رسول الله صلّى اللَّهُ عليه وسلَّم كان إذا أَكل طعامًا لَعِقَ أَصابعه الثلاث، قالَ: وَقالَ:(إذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الأذَى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ القَصْعَةَ، فإنَّكُمْ لا تَدْرُونَ في أَيِّ طَعَامِكُمُ البَرَكَةُ). وعلى كل مسلم أن يحذر من البطر والترف وجحود النِعَم, لأن عاقبة ذلك هو الهلاك والزوال والدمار, وكما قال الحقّ تعالى:((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)).

ولما نزلت الآية الكريمة؛((مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)), قال أبو الدحداح الأنصاري(رضي الله عنه): يا رسول الله.. وإن الله ليريد منّا القرض؟!, قال:(نعم، يا أبا الدحداح). قال: أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي؛(وكان يملك بستانا فيه ستمائة نخلة)، وأم الدحداح فيه وعيالها. قال: فجاء أبو الدحداح فناداها؛يا أم الدحداح، قالت: لبيك, فقال: اخرجي, فقد أقرضته ربي عز وجل, قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح.

وهناك اعتقاد شائع لدى كثير من الناس اليوم, مفاده؛ إنه إذا أسبغ الله على عبد برزق وافر, فذلك دلالة على حبّ الله للمرزوق!!, ولكن ذلك ليس صحيحًا بالضرورة, بل ربما يكون العكس تماما, فهو ابتلاء واختبار. وبهذا المعنى يقول التابعي سلمة بن دينار المخزومي؛عالم المدينة وقاضيها وشيخها؛(كل نعمة لم يشكر الله عليها فهي بليّة). وإنه إذا رأيت الله يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه, فإنما هو استدراج فاحذره. وكما قال تعالى:((سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)). وكذلك قوله تعالى؛((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)).

وفي مقال للكاتب السوري(إبراهيم كوكي), يقول فيه؛لما بلغ الترف بأهل العراق أن ما يوضع على المائدة, يُرمى ما يتبقي منه في القمامة، حتى اندثر عندهم مصطلح(اﻷكل البايت). فابتلاهم الله بالحصار, فصاروا يأكلون الخبز الأسود, ومات لهم مليوني طفل بسبب سوء التغذية. ويضيف الكاتب؛ولما أن صرت أرى في دمشق وضواحيها الخبز في الحاويات بكثرة, ورأيت امرأة فقيرة سقط منها رغيف خبز فتركته على اﻷرض ومضت, ورأيت آخر يبعد ما سقط منه على الأرض بطرف قدمه. بل إنني رأيت رأى العين رجلا يمسح حذاءه بقطع من الخبز الأبيض ويلمّعه به!!. فأيقنت بعدها أننا مقبلون على أيام سوداء سنشتهي بها تلك الخبزات التي كانت تُلقى في الحاويات, وهذا الذي كان. وكما قال تعالى:((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)).

ويروي الكاتب(كوكي)عن والده؛العالم الجليل, إنه كان يأكل طعام الأمس البائت قبل طعام اليوم الطازج. وكان يبلّل الخبز اليابس بالماء ويأكله وﻻ يرميه. وكان أول من يشبع وآخر من يقوم عن المائدة، فقد كان يلملم الفتات من أرز وفتات الخبز وغيرها, وﻻ يسمح برميها أو مسحها عند تنظيف المائدة. وإذا وجد في المطبخ صحنا فيه بقايا طعام لأحد اﻷطفال لم يكمله، فلا يجد حرجا في أكله. ويغضب أشد الغضب إن رمي شيء من الطعام, ولو بدأ يفسد وتغيّرت رائحته أو طعمه.

ويحبُّ الله سبحانه وتعالى أن تظهر النعمة على عباده, ولكن بلا مغالاة أو مراءاة أو تبذير؛((كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ)). كما ينبغي استعمالها في مرضاة الله, لأنه سيُسأل يوم القيامة؛(عن ماله من أين اكتسبه؟, وفيمَ أنفقه؟). وكما يلزم عدم المباهاة في ذلك, أو التوسّع فيه. وكما يحصل في زمننا هذا من قيام الكثير من الناس بتصوير الموائد الباذخة, ونشرها على(وسائل التواصل الاجتماعي), فقد يراها حسود حقود فترتد إلى نقمة, وقد يراها من لا يجد قوت يومه فتؤذيه.

وعلى أصحاب الأموال أن يتذكّروا إن في أموالهم حق للسائل والمحروم. وممّا سمعته من قصص الماضين, إنه كان هناك تاجر اعتاد على تزكية أمواله في وقت محدد من كل عام, وكان الفقراء وذوو الحاجات يمرّون عليه في دكانه لكي يقضي حوائجهم في الوقت المعلوم. وفي إحدى السنين خسرت تجارته ولم يكن لديه ما يخرجه لمن سيقصدونه, فاستقرض مالا لكي يوزعه على الفقراء الذين اعتادوا على المرور عليه, إذ استثقل ردّهم خائبين. وعندما جاء العام التالي فاضت تجارته أضعافًا مضاعفة. وسبحان الله القائل في كتابه الكريم؛((مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)).

وقصة أخرى قرأتها معاكسة لما تقدّم, عن رجل غادر العراق عام 1991 بسبب ظروف الحصار, وكان لديه عند المغادرة مبلغ يزيد على النصف مليون دينار مودعة في أحد المصارف, وهو مبلغ كبير ويعادل(150)ألف دولار تقريبا, وقتذاك. وعندما استقرَّ في الخارج بذل عدة محاولات لسحب المبلغ وتهريبه, ولكنها لم تتكلّل بالنجاح. وعند عودته للعراق في 2003, قام بسحب المبلغ, فإذا به لا يساوي سوى ألف دولار تقريبا مع الفوائد!!. ويُفهم من سياق القصة إن الموما إليه كان لا يُخرِج زكاة ماله. فالزكاة هي الركن الثالث في الإسلام, وهي تطهّر الأموال وتحفظها وتنمّيها وتبارك فيها.

وقد حدّثني صديق من أهل الموصل, عن التاجر والوجيه الموصلي المعروف(مصطفى الصابونجي؛1880-1954)؛ إنه أوصى أهله قبل أن يتوفاه الله, بأن تخرج كف يده من الكفن وهي مفتوحة, لكي تكون موعظة للناس؛ بأنك يا ابن آدم؛ستخرج من الدنيا وأنت خالي الوفاض سوى من عملك الصالح, وتذكيرًا بقوله تعالى؛((يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ)).

وخير ما أختم به مقالي, قوله تعالى؛((رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)). وكذلك حديث النبيّ الكريم محمّد(صلى الله عليه وسلم)؛(اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ). وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

963 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع