"العباءة النسائية العراقية ارث وتأريخ، يراد استبدالها بالعباءة الدينية"

سرور ميرزا محمود.

"العباءة النسائية العراقية ارث وتأريخ، يراد استبدالها بالعباءة الدينية"

ارتبطت الأزياء التقليدية بالهوية الثقافية للجماعات البشرية في مختلف أنحاء العالم. كانت هذه الأزياء أكثر من مجرد زي يزين الجسد، بل كانت مرآة تعكس قيم المجتمع وهويته، وتحكي قصصاً عن تاريخه وتجربة أفراده. وضمن هذا السياق، نجد أن العديد من الثقافات قد احتفظت بأزيائها التقليدية رغم التحديات التي فرضها الزمن والعولمة، مما يجعلها رمزاً للأصالة والانتماء.

العباءة النسائية العراقية ليست مجرد قطعة ملابس بل تعبير عن قيم ومبادئ والاصالة والحشمة، اذ تعتبر من الملابس التقليدية ولكنها ليست جزاً من اللباس التقليدي، تحمل في طياتها تاريخاً عريقاً وثقافة غنية تنعكس في تفاصيل تصميمها، وهي متجذرة في المجتمع، بل هي رمز من رموز الماضي الجميل، ظهرت العباءة في بعض الحضارات كلباس واسع ذي أكمام طويلة وفضفاضة وتطريزات، ارتدتها بعض الطبقات الاجتماعية، وانتشر هذا النوع من اللباس في بلاد ما بين النهرين، تم العثور على اقدم الأدلة من خلال جدارية اشورية تظهر الام والبنت وهن يرتدن العباءة فوق رؤوسهن وهذا الامر كان موجودا منذ العهد السومري، وعلى مر العقود أخذت العباءة أشكالاً عديدة وألوانا مختلفة وتطريزات متنوعة، وتميزت كل منطقة بزي عباءة معينة تعبر عن تراث البلاد وتقاليده في طريقة ارتداء النساء، قبل ظهور الإسلام، كان ينظر إلى النساء اللواتي كن يرتدين العباءات على أنهن نساء من عائلات نبيلة لسن بحاجة للعمل، ومن هذا الامر كانت العباية هي وسيلة التمييز بين فتيات العائلات الثرية وبين الفتيات الفقيرة من الطبقات الشعبية، ومع ظهور الإسلام في البداية ارتبط ارتداء العباءة بالمرأة من الطبقات الاجتماعية العليا كرمز للوجاهة والاحترام. مع انتشار الإسلام، أصبحت العباءة مرتبطة بالتدين والأخلاق، وأصبحت أكثر شيوعًا كزي نسائي عام، مع محافظتها على هدفها الأساسي وهو الحشمة.

العباءة العراقية باعتبارها تمثل شخصية المرأة وترسم كيانها، فقد كانت حديث الشارع في أوائل القرن العشرين، فاغلب العراقيات يعتقدن ان العباءة هي الأنسب للمرأة العراقية فهي الوقار والأناقة والرقي، وفي ذات الوقت كان الاعتقاد ايضاُ ان الشارع العراقي من دون عباءة سوداء سيصبح رتيبا و بلا جمالية، وحتى رجال العراق كانوا يرون في العباءة السوداء، رمزا لجمالية المرأة وهيبتها واناقتها ووقارها، و كانت عباءات النساء الميسورات من الحرير الفاخر والبعض منها مع سلاسل ذهبية سواء كانت هذه السلاسل بسيطة أو مزينة، وهذا يعتمد على الذوق الشخصي والأسلوب المفضل لهن، في حين ان المرأة الريفية والفقيرة، مازالت الى الان محافظة على نكهة وإصالة العباءة الوبرية.

غنى الشعراء والمطربون العديد من الأغاني والاشعار والتي تعبر عن جمال المرأة وهي ترتدي العباءة النسائية، وخاصة العباءة السوداء، و امتدحها الطرب العراقي فقال: (يا يما انطيني الدربيل تا انطر حبي و أشوفه .. لابس عباة شغل الدير .. تبرج ما بين اِچتوفه)، وان اول من غناها المطربة الجميلة التي تسيدت الغناء في مقاهي وملاهي بغداد في العشرينات والثلاثينات بدرية أنور وهي ترتديها " يم العباية حلوة عباتج ... يا سمرة هواية زين بصفاتج" كما اجاد في أدائها المطرب يوسف عمر، ومن الأغاني الجميلة التي لا زالت تطرب العراقيين اغنية ذبي العباية.. ذبي العباية سوي عليّ احسان ... وذبي العبايه التي غناها ولحنها مسعود العمارتلي.

ابدع الفنانون التشكيليون العراقيون الكبار، وهم يجسدون جمال وعذوبة المرأة وهي ترتدي العباءة بلوحاتهم التي رسموها بأناملهم السحرية .

تحمل العباءة في الأمثال والحكايات الشعبية في العراق دلالات متعددة نظراً لطبيعة نسيجه الاجتماعي ، فهي قد ترمز إلى الهوية والستر، وقد تكون رمزًا للسخرية أو حتى للخداع، وفي هذا المجال يذكر جلال الحنفي أربعة أمثال شديدة الدلالة على المكانة التي احتلها هذا الثوب الخارجي في سلوكيات الأفراد وعلى ألسنتهم. المثل الأول ورد على لسان كنة تعاني بغض حماتها الشديد تجاهها فتقول إنها «حسدتني على فجّة عباتي». ويبدو أنها تملك فجّة عباءة، أي إحدى القطعتين اللتين تُخاط منهما العباءة، أي نصف عباءة، ولا يُحسدُ من يملك مثلها. والمثل يُضرب لفرط الحسد بحيث ينصبّ على أتفه الأشياء. بيد أن هذا التفسير يلاقي توضيحاً في مؤلف عراقي آخر لكتاب «جمهرة الأمثال البغدادية» السيد عبد الرحمن التكريتي الذي يؤكد أنه مثل نسائي، لكنه يفسره على وجه آخر. فالفجّة هي شق العباءة التي تتألف عادة من شقين أو فتحتين: عليا وسفلى. ويبدو أن المقصود بالفجّة في المثل العباءة كاملة لا نصفها. وذكرت الفجّة لتصغيرها وللتدليل على استهلاكها وعدم فائدتها للاستعمال. ويلفت إلى أن العباءة المهترئة ليست مما يستوجب الحسد، ولكن مبعثه كره الحماة التقليدي وحقدها الدفين على كنتها. وورد المثل نفسه، لدى أنيس فريحة في «معجم الأمثال اللبنانية الحديثة» وبالدلالة عينها بصيغة «جلجوقة عباتي» بدلاً من «فجة عباتي»، والمثل الثاني يستمد معناه من طبيعة الأعراف والتقاليد الاجتماعية المعتمدة لدى تزويج الفتاة وهو «شوف عباته واخطب بناته»، ويضرب في أن للشرف أعرافاً وسمات معينة. وورد المثل في «الأمثال السامرائية» وذكر أنه يضرب للرجل الذي ليست له مكانة بين الناس. والمثل نفسه ورد بلفظ «طلّع في عباتها واخطب بناتها». والمقصود هنا أن عباءة كل من الأب والأم أمارة من الأمارات الدالة على أوضاعهما الاجتماعية وظروفهما المعيشية.

وقد أورد التكريتي في «جمهرة الأمثال البغدادية» مثلا آخر هو «الحرامي يخاف على عباته، والزاني على مراته». والملاحظ أن أهل بغداد لا يقولون «مراته» الا في هذا المثل، وذكرت بهذه الصيغة للسجع، فهم يقولون عادة «مرته».

وثمّة تعبير جارٍ على الألسن هو «تحت العبا»... وله قصة طريفة. إذ كانت بعض الحاجات تباع بطريقة المزاد العلني. ومتى رغب أحد الحاضرين الاتفاق مع الدلاّل، دسّ يده بيده من تحت العباءة حتى لا يراهما أحد، وتفاهم معه بحساب الأصابع. لذا كنّوا عن البيع سراً بـ «جوّا العبا» والمثل يضرب لكل ما يجري بالخفاء.

بالرغم من انحسار استخدام العباءة النسائية في بغداد منذ منتصف السبعينات، الا انها حافظت على ظهورها في بعض من المحافظات والقرى والارياف، في التسعينات شهدت العباءة تحولاً ملحوظاً باتباع أحدث صيحات الموضة العالمية، أصبحت العباءات أكثر أناقةً وإتقاناً. وبدأت النساء بتجربة قصات وألوان وزخارف مختلفة، إيذاناً ببداية عهد جديد في عالم العباءة، ولكن مع تطور الموضة وتغيرات المجتمع، أصبحت العباية تحتضن الروح الحديثة مع تنوع التصميمات والألوان تحولت العباية من كجزء من الزي التقليدي إلى قطعة فنية تجمع ما بين التراث والحداثة واليوم، نجد العباية بمختلف أشكالها وتصميماتها تعكس الذوق العصري وتجمع بين التقاليد القديمة وروح العصر الحديث، وعلى الرغم من تأثيرات التحديث والعولمة، فإن العباءة التقليدية لا تزال جزءاً من الهوية العراقية، التي تعتز بها المرأة العراقية، معبرةً عن فخرها بجذورها العريقة.

بعد قرار قانون الاحوال الشخصية وزواج القاصرات الذي أطاح بحقوق المرأة والطفل، فوجئ العراقيون بقرار مجلس محافظة بغداد يقضي باعتماد "العباءة الزينبية"، التي لا تمت باي صله لبغداد واهل بغداد كزي رسمي في المحافظة ، معللين بأن ذلك يأتي لتعزيز الاحترام والوقار والحشمة، خاصة في القاعات الامتحانية، كما كشفت رئيس لجنة البيئة في مجلس محافظة بغداد، هدى جليل العبودة، صاحبة المقترح عن عزمها "السعي بتقديم طلب لرئيس الوزراء ومجلس الوزراء وأعضاء مجلس النواب لتعميم القرار في كل العراق، لحفظ وصون كرامة المرأة العراقية"، على حد تعبيرها.

ان هذا القرار يصطدم مع واقع العاصمة بغداد المتنوّع دينيًا وثقافياً، حيث يعيش فيها عراقيون من مختلف الطوائف والأديان والأعراق، ان القرار لا يحمل صفة قانونية، حيث لا تتوفر في تكوين المجلس وتعليماته وواجباته أي إشارة بوجود زي رسمي لمحافظة بغداد أو زي رسمي لأي محافظة أخرى، كما لا يوجد في الأساس أي تحديد او منع لبس العباءة في أي مكان من العراق فسواء في القطاع العام أو الخاص، ان ما صدر هو قيد على المرأة وتعبير عن ممارسات سلطوية، فهل من المعقول بأن الحشمة والستر اصبح خطيئة وتخلف لا يصلح الا بالعباءة!! ؟، ان موضوعة اللبس تدخل ضمن الحريات الشخصية، وان فرض زي ديني رسميًا دون نص قانوني صريح يُعدّ انتهاكًا للحرية الفردية، ويمثل تمييزًا على أساس العقيدة والنوع الاجتماعي، هذا تعدي على حريات الناس، فهل اصبح المجلس دار افتاء لتحديد الأزياء النسائية!؟، اليس مجلس بغداد وامانة العاصمة مهمتهما توفير الخدمات لأهالي بغداد من ماء وكهرباء وتنظيف وتجميل شوارعها ومنتزهاتها، اليس من واجباتهما ايضاً الاهتمام بالوضع البيئي وما تعانيه بغداد من تراكم للنفايات والمخلفات التي ترمى في نهر دجلة، ناهيك عن العشوائيات التي تحيط ببغداد من خارجها وداخلها، والحد من الفساد، لا تتحولوا الى مجلس افتاء لفرض الأزياء!!، فالمرأة العراقية واعية ومثقفة وصاحبة اخلاق لا تحتاج الى من يملي عليها واجب الطاعة او الامتثال، ان كرامة المرأة "لا تُقاس بالعباءة"، بل تُصان بالعدالة والاحترام، ومن الله التوفيق.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

897 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع