الحرة:كان ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الذي قاد بلاده إلى النصر في الحرب العالمية الثانية، يرى أن التحديات التي تواجه المنتصرين في الحرب لا تقل صعوبة عن التحديات التي تواجه المهزومين. في تلك الحرب العالمية كان واضحاً من انتصر ومن انهزم، وفقاً لمعايير عسكرية واستراتيجية تقليدية وواضحة، تتعلق بشكل أساسي بالغزو البري والانزالات العسكرية، واحتلال أراضي الخصم ودفعه الى الاستسلام.
ليس هذا نوع الحروب الذي نشهده في القرن الواحد والعشرين، وخصوصاً في الحرب بين إسرائيل وإيران، والتي تضع أوزارها الآن بعد تدخل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لوقف إطلاق النار بين الطرفين.
ولأن طبيعة الحرب هذه مختلفة عن الحروب التقليدية التي تحدث عنها تشرشل، فإن التسوية أيضاً في هذا السياق تبدو مختلفة، لكن التحديات التي تواجه الطرفين ليست سهلة. مع أن تشرشل لديه مقولة أخرى تبدو صالحة لكل زمان ومكان، وهي أن “أفضل مؤشر على عدالة أي اتفاق هو أنه لا يلبي رغبات أي طرف بالكامل”. وربما هذا يؤكد أن التسوية التي رعاها الرئيس ترامب، تبدو عادلة بهذا المعيار، مع عدم رضا الطرفين التام عنها.
لكن السؤال الأبرز الآن: من ربح هذه الحرب؟ كلا الطرفين ينسب إلى نفسه النصر، وكلاهما يرى إلى الهزيمة والنصر من منظار مختلف.
لم يكن لدى إيران تجارب في الحروب التقليدية، سوى تجربة يتيمة في الحرب مع العراق التي استمرت ثماني سنوات (1980-1988)، واستنزفت الجيشين الإيراني والعراقي على السواء. بعد هذه الحرب، قررت إيران تعزيز حضورها العسكري الخارجي عبر تأسيس “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري، وعبر تسليح وتمويل ميليشيات تابعة لها في كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان وقطاع غزة، بالإضافة إلى نشاطات لفيلق القدس في تمويل وتدريب جماعات شيعية في الجارة أفغانستان.
المواجهة مع إسرائيل اليوم هي الأولى من نوعها منذ العام 1988، ولكنها أيضاً مختلفة، لأن لإيران حدودا مباشرة مع العراق، فيما تبعد الحدود الإيرانية عن طهران مئات الكيلومترات. وهذا ما جعل هذه الحرب فريدة في طبيعتها، لجهة اقتصارها على الهجمات الجوية، عبر غارات تشنها الطائرات الإسرائيلية، والرد بالصواريخ الباليستية من قبل إيران.
وفي حين يبدو التفوق الإسرائيلي واضحا على المستوى الاستخباراتي، وفي الأجواء الإيرانية، من دون أي فعالية للدفاعات الجوية الإيرانية، ولا لسلاح الجو الإيراني، تمكنت ايران من خرق الأجواء الإسرائيلية بعد ان فشلت منظومة الدفاع الجوي، أي القبة الحديدية الإسرائيلية، في التصدي للعديد من الصواريخ الباليستية التي ظلت إيران تطلقها حتى آخر لحظات سريان وقف اطلاق النار، واستطاعت إيران الحاق أضرار جسيمة في الأبنية والشوارع الإسرائيلية، مع سقوط عدد غير قليل من القتلى والجرحى.
لكن هل يكفي وصول الصواريخ الإيرانية الى إسرائيل للقول بأن الحرب ربحتها إيران؟ وهل يكفي هذا الأمر للقول إن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها من الحرب؟
كانت الحرب الطويلة والمكلفة مع العراق في بداية حياة الجمهورية الإسلامية الايرانية العامل الرئيس في تعديل مقاربة إيران لمسألة الأمن القومي منذ ذلك الحين، بحسب الباحث شاهران تشوبين في كتابه “طموحات إيران النووية”.
العبرة الأكثر أهمية، التي استخلصها الإيرانيون من تلك الحرب، بحسب تشوبين، هي أن “الاعتماد على القوات العسكرية التقليدية من أجل الردع أقل فاعلية من الاعتماد على الأسلحة النووية”.
من هنا يرى تشوبين أن إيران أعادت النظر في عقيدتها العسكرية التقليدية، وركّزت من جهة على أذرعها الخارجية وتطوير منظومتها الصاروخية، ومن جهة ثانية على تطوير مشروعها النووي.
ويبدو أن إسرائيل فهمت جيداً هذه العقيدة، وقامت بالفعل بضربها، وإلحاق أضرار بالغة بها، عبر “بتر” أذرع إيران في غزة ولبنان، وضعف الترابط بين هذه الأذرع مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وأكملت إسرائيل بقيادة بنيامين نتانياهو، لتضرب المشروع النووي الإيراني.
ويبدو أن إسرائيل نجحت، بمساعدة الولايات المتحدة، في ضرب البنية التحتية النووية وتدميرها بشكل كبير. وهذا الأمر يعزز فكرة أن إسرائيل حققت معظم أهدافها من الحروب التي تخوضها منذ هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023. لكن مع ذلك تبقى هناك أسئلة نقدية لدى الخبراء حول ماهية النصر، وما إذا كانت النتيجة التي حققتها إسرائيل يمكن تصنيفها كنصر تام بكل ما للكلمة من معنى.
المشكلة هنا، من وجهة نظر كلير لوبيز، نائبة رئيس قسم البحث والتحليل في مركز سياسات الأمن في واشنطن، هي أن وقف إطلاق النار هذا تم الإعلان عنه في منتصف العملية.
“نحن لا نعرف حتى الآن النتائج الكاملة للضربات التي شُنت على منشآت الأسلحة النووية التي ذكرتها، وغيرها، بما في ذلك مواقع الصواريخ الباليستية ومواقع الإطلاق والمواقع السرية التي قد لا نعرف عنها شيئاً علناً في الوقت الحالي”.
وتتابع لوبيز في مقابلة مع “الحرة”: “أنا لست متأكدة تماماً من مصير وقف إطلاق النار هذا أو متى سيكون من الضروري استئناف العمليات، لأنه من المؤكد تماماً أن النظام الإيراني سيحاول إعادة بناء برنامج أسلحته النووية وإعادة تشغيله”.
لوبيز مع ذلك تعتبر ما فعلته إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة استثنائياً: “كانت هذه العمليات التي قامت بها إسرائيل والولايات المتحدة عمليات جوية. نعم، كانت هناك عمليات برية من حيث المعلومات الاستخباراتية التي جمعها الموساد مسبقاً، قبل أشهر، وربما قبل سنوات. لكن العمليات نفسها استهدفت برنامج الأسلحة النووية والقيادة العليا لهذا البرنامج واستهدفت أيضاً الحرس الثوري الإيراني”.
“كل ذلك كان جوياً،” تتابع لوبيز، “كل ذلك تم تنفيذه بواسطة القوات الجوية الإسرائيلية والأميركية”.
الأمر الآخر الذي حققته إسرائيل، بحسب لوبيز، هو القضاء التام على كامل الدفاعات الجوية الإيرانية: “سمعتُ تقريراً يفيد بأن 70 موقعاً ومعدات للدفاع الجوي تم تدميرها قبل أن تبدأ العمليات الرئيسية ضد المواقع النووية. هذا ذكاء مذهل. إنها عملية استهداف جوي مذهلة، واستهداف دقيق للغاية. وهذا يختلف كثيرًا عن الحروب التقليدية السابقة”.
يوافق الخبير في الاستراتيجيات الكبرى والأمن الدولي جوشوا روفنر، على أهمية القوة الجوية التي تعتبر “مفيدة كأداة قائمة بذاتها عندما تكون أهداف الحرب محدودة”. وميزتها بحسب روفنر أنها “جذابة بشكل خاص عندما تريد دولة تدمير أهداف معينة دون المخاطرة بغزو بري”.
لكن الباحث الأميركي يرى أن “القوة الجوية بحد ذاتها عادة لا تحسم الحرب”. هذا لأن الخصوم لديهم طرق لاستيعاب ألم القصف، كما حدث مع إيران.
لكن السوابق المتعلقة بدور وفعالية القوة الجوية الإسرائيلية في حسم الحروب وتحقيق الأهداف، كثيرة بحسب روفنر، خصوصاً الضربات الجوية الإسرائيلية ضد المفاعل النووي العراقي عام 1981، وضد المفاعل النووي السوري الناشئ عام 2007، وفي كلا تلك الحالتين “استخدمت إسرائيل القوة الجوية لإيقاف المنافسين الإقليميين فعليًا من امتلاك السلاح النووي”، بحسب دوفنر٬ وقد “فعلت ذلك مرة أخرى ضد إيران”.
في السياق نفسه، وتأكيداً على طبيعة العقيدة العسكرية الإسرائيلية، ونظر الباحثين العرب إليها، يرى كل من جوني منصور وفادي نحاس في كتابهما “المؤسسة العسكرية في إسرائيل”، أن تطور هذه المؤسسة “لم يكن وفق مراحل طبيعية، إنما وفق رؤية عسكرية تهدف إلى جعل إسرائيل دولة متفوقة عسكرياً على باقي دول الشرق الأوسط”. وأن إسرائيل تعمل دائماً على أن يكون لجيشها قدرة “على إصابة أهداف استراتيجية حيوية في دول العدو البعيدة من أجل ردعها ومنعها من ضرب تجمعات سكانية داخل إسرائيل”.
في هذه النقطة يمكن فهم بأي دوافع تذهب إسرائيل الى الحرب، ولماذا تهاجم بلداً مثل إيران يبعد عنها أكثر من ألف كيلومتر. لكن كيف يمكن قياس نجاح او فشل إسرائيل، في تحقيق أهدافها، وتمكّنها من تثبيت الردع؟
الخبير العسكري والاستراتيجي الإسرائيلي إيران أورتال، يحاول اجتراح إجابة على هذا السؤال الاشكالي: “النصر كان دائما يدور في إسرائيل حول إزالة التهديد المباشر، والأمل بعيش شهور أو سنوات او حتى عقود في عدم عودة هذا التهديد”.
إسرائيل تخوض حرباً على أكثر من جبهة في لبنان وغزة، وتضرب في الآن عينه في اليمن وسوريا، وعملياتها العسكرية، يصفها أورتال، وهو جنرال متقاعد في الجيش الإسرائيلي، بأنها كانت “ناجحة تماماً”، لكن استمرار الحرب لوقت طويل، أكثر من عشرين شهراً حتى الآن يتناقض مع العقيدة الدفاعية الإسرائيلية، “المعتمدة على انتصارات عسكرية محددة مبنية على عمليات نوعية وسريعة، والهدف منها تقصير زمن الحرب، لأن الأمم الصغيرة لا تستطيع تحمل الحروب الطويلة”.
بالنسبة إلى أورتال، في مقابلة سابقة مع “الحرة” أُجريت قبل وقف اطلاق النار وقبل تدخل الولايات المتحدة في الحرب، “فإن إسرائيل يمكن أن تحقق انتصاراتها على المستوى التكتيكي وحتى العملياتي”. كما يمكنها “إلحاق الهزيمة بالجهد العسكري الإيراني في الوقت الحالي، لكنها لا تستطيع هزيمة إيران بالكامل”، وسيكون هناك دائماً طريقة لتعود إيران وتنتقم بحسب تقديراته، عبر أذرعها، او عبر اقفال مضيق هرمز.
لم يحدث هذا الأمر تماماً، لأن التدخل الأميركي كان حاسماً، كما يشرح جوشوا روفنر لـ”الحرة”، وإشراك إسرائيل للولايات المتحدة في حملتها الجوية، “هو إنجاز لإسرائيل بسبب الموارد الفريدة التي تمتلكها واشنطن تحت تصرفها”.
لكن روفنر يلاحظ ان إسرائيل انتقلت من هدف يتمثل في ضرب المشروع النووي ومنع إيران من إيذاء إسرائيل عبر أذرعها، إلى رغبة بإسقاط النظام. ومن هنا فإن أهداف إسرائيل المعلنة تبدلت خلال العملية، لكنها في الواقع استطاعت إنجاز الهدف الأول منها، وهو منع النظام الإيراني من امتلاك سلاح نووي، وضرب بنيته التحتية النووية… إلى حين؟
لورانس كورب – كبير باحثين في مركز التقدم الأميركي، لديه سردية قد تحمل جواباً على السؤال الصعب: هل ربحت إسرائيل الحرب؟ أم منعتها إيران من الربح؟
يعتقد كورب، إن ما يحدث هو أن “الجميع يريد أن يدعي أنه حقق أهدافه لأن لا أحد يريد حرباً أكبر، لا الولايات المتحدة ولا إيران ولا إسرائيل. لذا فإن كل طرف يركز على ما فعله”.
يعطي كورب أمثلة على ذلك: “يمكن لإيران أن تدّعي: نعم، لقد هاجمنا الأميركيون، لكننا بعد ذلك هاجمنا قاعدتهم الكبيرة في المنطقة، دون أن تذكر حقيقة أنهم أخبرونا أنهم في طريقهم إلى هناك، لذا قمنا بإخراج جميع قواتنا من المنطقة”.
في المقابل، يتابع كورب، “يمكن للولايات المتحدة أن تدعي أنها حققت أهدافها لأنها فجرت بعض القدرات النووية الإيرانية لمنعها من الحصول على أسلحة، ولم يصب أحد أثناء ذلك. ويمكن لإسرائيل أن تدعي أنها أضعفت إيران هنا، وأن إيران لم تهاجمها. لذا يمكن للجميع الادعاء بأنهم حققوا أهدافهم”.
لكن الأمر المهم بالنسبة إلى كروب هو عدم خروج هذه الحرب عن السيطرة وأن تؤدي إلى استخدام أسلحة نووية: “إسرائيل تمتلكها وهذه مفارقة لأن الجميع يحاولون إقناع إيران بأنها لا يمكنها امتلاكها، وأن عليها الالتزام بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. لكن الحقيقة هي أن اسرائيل تمتلكها، وإذا يئست اسرائيل، فهل كان من الممكن أن تستخدمها؟”.
النتيجة النهائية، كما يراها كروب، ذهبت لصالح إسرائيل: “أعتقد أن إسرائيل خرجت منتصرة لأنها نجحت في إضعاف إيران بمساعدة الولايات المتحدة، لذا فقد حققت إسرائيل مكاسب حقيقية”. لكن يبدو أن الرابح الأبرز هو الرئيس الأميركي: “ترامب، الذي كانت لديه الكثير من التجارب المتقلّبة في السياسة الخارجية، تمكّن من إضعاف القدرات النووية الإيرانية دون خسارة أي أميركي”.
634 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع