الجذور التأريخية لفكرة الشيطان

 

                                              

                              طلعت ميشو

             


         الجذور التأريخية لفكرة الشيطان

بحث وتحليل


من الأفضل أن تتبنى حقيقة علمية من أن تعتنق خرافة” …... كارل ساكان”

                                      


منذُ بداية الخليقة عرف الإنسان أن هناك خير وشر، وعرف ذلك من خلال نفسهِ وسلوكه ونوازعه ، ومن خلال الطبيعة التي كانت قاسية عليه لدرجة تصور معها بأن هناك قوى غيبية حوله تتحكم في مصيره وحياته اليومية.

لكنه لم يكن يعرف كيف يرمز للخير والشر كما نفعل اليوم من خلال المفهوم الكلاسيكي للملائكة والشياطين، لهذا إكتفت الحضارات القديمة على تصوير أو فهم الخير والشر عن طريق الآلهة التي صَنعَتها وصَوَرَتها، فكان هناك آلهة للخير وأخرى للشر في كل الحضارات تقريباً، كذلك تم تصوير الشر بالعفاريت والجن والأرواح الشريرة كما في حضارة السومريين والبابليين والآشوريين وغيرهم.

في سومر -على سبيل المثال- كان هناك إله للشر بإسم ( إساج )، تم تصويره على شكل عفريت يُمثل الأمراض والأوبئة وإلهاً من كائنات العالم السفلي (عالم الأموات و اللا عودة )، وقد عبدهُ السومريون إتقاءً لشرهِ. وبجانب إساج كان هناك إلهاً آخراً للشر هو (حدد أو هدد) والذي فيما بعد أصبح إلهاً للآشوريين وتمت عبادتهِ أيضاً تخوفاً وإتقاءً لشرهِ لأنه كان إلهاً مُرعباً للأجواء ويمتطي العواصف ويخور كالثور رافعاً بيديه شوكة البرق الثلاثية. كذلك كان هناك جن وعفاريت كثيرة مثال: نمتار ، ماميتو، أودو،حديم، جالا، دمة، لوليلا، سمانة، بزوزو، ألاد، لاما، شدو، لاماسو، أوتوكو، وغيرهم الكثير. وكانت كلمة (مريض) في اللغة السومرية تُعطي مفهوم الشخص الذي يسكن في داخله عفريت

أما في بابل فقد كان هناك صراع دائم بين قوى الخير والشر منذ بداية ما سموه "قصة الخلق البابلية- إينوما إيليش" والحرب الضروس بين الإله (مردوخ) وإلاهة الشر (تعامات) والتي إنتصر فيها مردوخ في نهاية المطاف

ولم يكن للعفاريت دور بارز في مجمع الآلهة في بلاد الرافدين، ولكن كان يُتَقى شرهم بالتعاويذ والرُقى، وغالباً ما كانوا يُصَوَرون كمارقين، فقد طُرِدَت العفريتة (لاماشتو) من السماء بسبب شرورها!. وربما من أسطورتها تم إقتباس فكرة طرد الشيطان من الجنة لاحقاً في الديانات التوحيدية التي عُرِفَت بكثرة إقتباساتها من حضارة وأساطير مابين النهرين وكنعان ومصر القديمة

يقول الكاتب علي الشوك في كِتابهِ (الأساطير) [ كانت العفاريت تضمر الشر للبشر وتُسبب لهم مُختلف الأمراض، ومن هنا نشأت الفكرة البابلية عن الأمراض والقول بأن مصدَرَها الأرواح الشريرة التي كانت تُصَوَر ككائنات على هيئة ريح أو عاصفة، وكان بوسع أي شخص من عامة الشعب تقديم شكوىإلى المحكمة ضد العفاريت ملتمساً العون من الإله (أوتو) إله الشمس لينصره على العفاريت ]. إقتباس

 وربما من هنا أيضاًجاءت فكرة محاكمة السحرة في القرون الوسطى في أوروبا مِن قِبَل الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية

 كذلك نرى أن عملية ( التخويف والترهيب دينياً ) كانت موجودة في المجتمع البابلي القديم، ونشَرَ الكهنة كذلك معلومة أن الخطيئة  هي السبب الأول لدخول العفاريت والجن إلى داخل جسم الإنسان!!، ومن أشهر الخطايا يومذاك ( إهمال الطقوس الدينية والسرقة والقتل ) وهي نفس الكبائر تقريباً في خطايااليوم بالنسبة للديانات التوحيدية !، كذلك كانت هناك فكرة ترهيبية تقول: إذا أذنب الإنسان تخلى عنه “إلهه الحارس” فيصير جسده مفتوحاً للعفاريت التي ستهاجمه على صورة أمراض خبيثة وكوابيس أو من خلال الجنون والعاهات النفسية والجسدية

وكان عفريت (الحُمى) أقبح العفاريت شكلاً حيث له رأس أسد وأسنان حمار وأطراف نمر أرقط ويحمل في يديه أفاعي سامة هائلة بينما كلب أسود وخنزير يُداعبان ثدييهِ !. وهذا أيضاً يُمكن أن يكون إقتباساً آخراً، لأنه يُذَكِرُنا بعداء نبي الإسلام محمد الدائم والشهير للكلاب والخنازير، كذلك هو عداء اليهودية لهذين الحيوانين

وكان للهند أيضاًحكايا كثيرة جداً وشائكة عن الآلهة بصورة عامة، وكغيرهم فلهم آلهة خير وشر، ومن ضمن آلهة الشر عندهم الإله (شو)، ويطول الكلام عن آلهة الهند بأخيارهم وأشرارهم

وفي الديانة المانوية (ديانة قديمة ظهرت بعد الزرادشتية في العراق وإيران \ القرن الثالث ق.م) ومؤسسها ماني كان يُعتقد بمبدأين (الخير والشر) أو المُعادل لهما في ( النور والظلام)، وسُميَ الشيطان ب (أمير الظلام). كذلك قالت الديانة الفارسية المزدكية في الخير والشر. أما في الديانة البوذية فكان (مارا) يمثل الشر من خلال الشهوة والموت وهما الخصمين التوأمين للنرفانا

 و في مصر القديمة كان الإله (سيت) رمزاً للقوى السالبة في الحياة والكون، كذلك أصبح الإله (حورس) رمزاً للقوى الموجبة، وهذان الإلهان كانا نتيجة لأفكار وقناعات المصريين في أن الكون يحمل قوتين متضادتين ومتعاونتين في ذات الوقت من خلال ثنائية النور والظلام والنظام والفوضى، ورأوا في جميع الظواهر نتاجاً لتداخل هاتين القوتين (التوأمين ) وفعلهما المُشترك


بداية الملامح الرئيسية للشيطان في الديانة الزرادشتية

*************

يقول فراس السواح في واحدة من مقالاتهِ: [ لم تكتمل ملامح الشيطان الكوني في تأريخ الديانات الإنسانية إلا مع الديانة الزرادشتية التي أسسها النبي زرادشت في زمنٍ غير مؤكد من النصف الأول للألف الأول قبل الميلاد ] إنتهى

وهذا ما يقوله غالبية العلماء والباحثين الذين يعتقدون بأن جذور فكرة الشيطان بدأت مع بداية الدين الزرادشتي في إيران. [ حيث يُعتبر زرادشت واحداً من أهم الشخصيات الدينية التي أثرت على مجرى الحياة الروحية عبر تأريخ الحضارة، ولا تكمن أهمية هذا النبي في مدى الإنتشار الجغرافي والزماني للديانة الزرادشتية التي قامت على وحيهِ وتعاليمه بقدر ما تكمن في مدى تأثير أفكاره على الديانات العالمية اللاحقة ومنها الديانات التوحيدية

ورغم وجود الكائنات الما ورائية الشريرة في جميع المُعتقدات الدينية عبر التأريخ، إلا أن زرادشت كان أول من تصور وجود مبدأ كوني للشر، هو عِلَة الفساد والنموذج البدئي لكل الشرور المتبدية في العالم، وجَسَد هذا المبدأ في شخصية ما ورائية هي الشيطان ]. كِتاب الرحمن والشيطان - فراس السواح

وفي مقطع آخر من نفس الكِتاب يقول المؤلف: [ ان فكرة الشيطان كمبدأ شمولي بدأت بشكلها الجنيني في الديانة المصرية القديمة ولكن من دون أن تصل بها إلى غايتها وتضعها في إطار آيدولوجي متسق ومتكامل. لكن الفكرة الكاملة ظهرت فيما بعد في تعاليم زرادشت ودخلت في صميم مُعتقدات يَدين بها اليوم أكثر من نصف سكان العالم. ومن أسباب ظهور فكرة الشيطان هي تحول مفهوم الأخلاق من الشأن الدنيوي إلى الشأن الديني ]. إنتهى

وحول مفهوم الأخلاق هذا يقول فراس السواح في مقال آخر له: [ الأخلاق الإجتماعية أو السلوك الأخلاقي الفردي في الحضارات القديمة لم يكن شأناً دينياً، بل شأن إجتماعي ناجم عن جدلية الحياة الإجتماعية ومتطلبات العيش المُشترك ]. إنتهى

كذلك نرى عبر تقادم الزمن أن الديانة الزرادشتية تحولت لتصبح ديانة قومية محلية لمناطق جغرافية محددة ومحصورة في جغرافية إيران، بينما إنتعشت أديان أخرى كانت قد إقتبست الكثير من أفكارها ودعائمها الأساسية من الديانة الورادشتية، مثال اليهودية والمسيحية والإسلام

تقول كتب الزرادشتيين أن الرب الأعلى قال لزرادشت بأن الروح الخيرة هي (أهورامزدا) الإله العاقل، والروح الشريرة هي (أهريمان) الشيطان. وبهذا أصبحت البشرية في صراعٍ دائم بين الخير والشر، النور والظلمة، وبما أن النور مصدره الشمس، والشمس من نار، لهذا لعبت النار دوراً أساسياً في هذه العقيدة الدينية بإعتبارها مصدر الإشراق والنور والضياء والحياة، فقدسوها وعبدوها وصار لهم كِتاب مُقدس يُسمى"الأفستا" أي: المعرفة. كذلك قالوا بأن الأرض هي ساحة قِتال بين الخير والشر وأن كل بشر يجب أن ينحاز لهذه الجهة أو للأخرى، وبعد الموت يذهب البشر الصالحين إلى الجنة والبشر الأشرار إلى الجحيم البارد المُظلم، لأن الزرادشتية تعتقد بأن النار عنصر إلهي ومُقدس، ولهذا فالجحيم في معتقداتهم بارد ومُظلم ومُخيف وليس حاراً مُلتهباً ومُحرقاً كما تخيلتهُ بقية الأديان


بعد السبي البابلي الثاني ليهود أورشليم بفترة زمنية قصيرة إنتهت إمبراطورية الكلدان في بابل على يد قورش الأخميني سنة ( 539 ق.م )، ومن بابل بالذات أعلن الملك قورش قراره الشهير الذي يتضمن السماح للشعوب المسبية بالعودة إلى أوطانها الأصلية، ولكن .. وحسب رأي وقناعة علماء التأريخ فإن هذه العودة لم تحدث خلال ليلة وضحاها، بل إستغرقت أكثر من 100 سنة، وهذه فترة زمنية كافية جداً لإحتكاك المسبيين اليهود بالفرس ومن ثم الإطلاع على أفكارهم بصورة عامة، خاصةً تلك المتعلقة بالديانة "الزرادشتية"، كما تأثروا من قبلِهِم بكل أفكار وديانات وآلهة وأساطير سومر وبابل مما دعاهم لإقتباس (لطش) أسفار توراتهم الخمسة الأولى زائداً تلمودهم من عمق حضارة العراق القديم

وقد كان كل الشرق الأوسط ومنه إسرائيل من ضمن حدود الإمبراطورية الأخمينية الكبيرة، وبما أن "حضارة الغالب تُهيمن على حضارة المغلوب" كما يقول إبن خلدون، لِذا إلتقط وتبنى اليهود العبرانيين الكثير من أفكار الديانة الزرادشتية ومنها حتماً المفهوم الجديد للشر مُجسداً في شخصية الشيطان الذي حُشِرَ في الديانة اليهودية ومنها إنتقل إلى المسيحية والإسلام

والحقيقة أن الزرادشتية قدمت في حقل الدين الكثير من الأفكار التي كانت جديدة في هذا الميدان والتي لم تتطرق لها الأديان سابقاً، رغم أن وجود الكائنات الخرافية الشريرة الغيبية كان حاضراً على الدوام في خارطة فكر بقية الأديان الأرضية السابقة للزرادشتية، لكن زرادشت أوجد مبدأ كوني للشر، وجسد هذا المبدأ في شخصية خيالية غيبية هي "الشيطان" والتي إستوعبها بكل سهولة كل من إطَلَعَ عليها، ولسبب بسيط هو أن كل نفس بشرية تتنازعها عوامل الخير والشر الطبيعانية بحيث أصبحت فكرة “الشيطان” ملائمة جداً لسد الفراغات الفكرية التي أحدثها وجود الشر في نفس وعالم الإنسان

وصعوداً في سلم لتأريخ نجد أن الأسكندر المقدوني الكبير دمر الإمبراطورية الفارسية، وعبرهُ إنتقلت الكثير من أفكار الزرادشتية إلى اليونان، فظهر عندهم الإله (هيدي) ملك الأموات، الذي كان يُمثل الشر والذي أعطوه وجهاً أسوداً تعبيراً عن روح الشر، وقالوا بأنه إله عالم الأموات التحت أرضي، ( وهذا إقتباس أخر لعالم الأموات الرافدي ). وكان (هيدي) هو الإله الذي يُقرر مصائر الناس بعد موتهم بحيث يُرسلهم إلى الجنة أو الجحيم، كذلك جعلوا منه إلاهاً للغنى والفقر والثراء والأموال، لِذا عبدوه وتملقوه لأنهم آمنوا بأن هذا الإله الشيطان ممكن أن يجعلهم أغنياء. وعن طريق اليونان وتوارث فكرها ومعتقداتها وحضارتها وأساطيرها إنتقلت فكرة “الشيطان” إلى كل الغرب لاحقاً


الشيطان في اليهودية

***************

مما تقدم من معلومات نرى أن فكرة "الشيطان" لم تكن من خلق وتأليف كتبة التوراة (العهد القديم)، بل كانت إقتباساً لهم، وهي تصف الشيطان بأنه (ملاكٌ ساقط). وأول ظهور للشيطان في التوراة -مطلع سِفر التكوين- كان في تقمصهِ (الحية) التي أغوت حواء على أكل التفاحة في جنة عدن. بعدها يظهر الشيطان في سفر أيوب (1: 6-12). أما في سِفر أشعياء (إصحاح 14) فنجد صورة رمزية للشيطان والذي دُعَي ب زهرة بنت الصبح - قاهر الأمم. وفي سِفر حزقيال (إصحاح 28) يُخبرنا الكِتاب عن قصة سقوط الشيطان وبصورة رمزية أيضاً

ومن خلال قراءة التوراة نجد دمجاً وخلطاً غير متناسق للإله يهوة مع الشيطان في شخصية واحدة شبه توأمية يلعب فيها يهوة الدورين ربما بكل ذكاء أو كما يبدو أحياناً بغباء وفوضوية عُرف بها كَتَبَة التوراة البشريين. كذلك نُلاحظ أن شخصية الشيطان لا تلعب دوراً هاماً أو رئيسياً متواصلاً وواضحاً كما يُفترضُ بها، ويكاد (سِفر أيوب) يكون السِفر الوحيد تقريباً لظهور وتفعيل شخصية الشيطان بصورة واضحة

وكما يعتقد بعض الكُتاب والمُفكرين .. فإن أسباب ذلك الإشكال تعود لكون الإله (يهوة) هو الذي يحمل كُلاً من أقطاب الخير والشر معاً، على عكس الإله في الدين المسيحي!، وإزدواجية الخير والشر تظهر واضحة وجلية في الأسفار والإيات التالية مثالاً وليس حصراً

يقول يهوة في سِفر (إشعيا 76,45): [ أنا الرب وليس آخر، مصوراً النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر، أنا صانع كل هذا] إنتهى

كذلك يقول في سِفر (يشوع 15.14,11): [ الخير والشر، الفقر والغنى، الحياة والموت، من عند الرب ] إنتهى

وفي سِفر (التثنية 42.39.32): [ أنا أُميتُ وأُحيي، سَحَقتُ وإني أُشفي، إذا سللتُ سيفي البارق وأمسَكَتْ بالقضاءَ يدي، أسكرُ سهامي بدمٍ ويأكل سيفي لحماً بدمِ القتلى والسبايا ومن رؤوس قوات العدو ] إنتهى. وكأن جنكيزخان يتكلم بدلاً عن إله اليهود يهوة

كذلك نراه في (مزمور 8.7,18) يغضب ويُخرِجُ دخاناً من أنفه وناراً من فمهِ !. وفي (حبقوق 6.4.3) نرى أن الوباء يسبقه ومن بين أقدامه تخرج الحمم

كل هذه الفوضى الإلهية تقول لنا أن يهوة إله اليهود يحمل في شخصيتهِ معالم الشيطان أكثر مما يحمل معالم الرحمن أو صورة الرب الذي عرفناه في المسيحية والذي يرمز للمحبة والسلام والتسامح

كذلك نستنتج من التوراة أنها لم تُنبئ أو تُشير أو تُبشِر إلى خلاص الإنسانية المُعّذَبة بسبب الشيطان في نهاية الحياة (القيامة - الدينونة )، يوم ينتصر الحق على الباطل كما تقول بعض الأديان. بل نرى بكل وضوح أن تلك الآيدلوجية الدينية اليهودية تُبَشِر بإنتصار أبناء إسرائيل المُدَللين من قِبَل الرب على أعدائهم بحيث سيجعلون منهم عبيداً لخدمتهم في نهاية الزمان!، وهذا برأيي يجعل اليهود وإلههم الغاضب العنصري الحسود مُجرد فوضى فكرية لا أفهم كيف عَبَرَت على بعض البشر، وألوم الكنيسة المسيحية في قضية تبنيها للعهد القديم ( التوراة ) الذي ليس فيهِ ما هو خيرٌ للإنسان، وخاصةً في أزمنة اليوم المُتحضرة


الشيطان في المسيحية

***************

ورثت المسيحية فكرة الشيطان من اليهودية، فالمسيح في أصلهِ رجل يهودي لم يكن بعيداً عن تعاليم التوراة بقضها وقضيضها، وهو الذي قال بأنه جاء ليتمم الناموس. وحتى خليفتهِ بولص كان له موقف متشدد تجاه الشيطان وذلك من خلال قولهِ: ( لا يمكنك أن تشرب من كأس الله والشيطان )، وهنا نجد تمييزاً واضحاً بين الإله والشيطان وليس كما في اليهودية من دمج بين الشخصيتين. وكانت المسيحية قد إستعملت نفس تسمية (الملاك الساقط) في الإنجيل، وأشهر هؤلاء الملائكة هو (لوسيفر - حامل الضياء): أشعياء

تقول المسيحية إن “لوسيفر” كان أحد ملائكة الله، لكنه رفض أن يكون آدم أعلى منه شأناً فتمرد على الله، وقام الله بإلقاءهِ من الجنة إلى العالم السفلي، وأثناء نزولهِ ظهر على شكل نجم ساقط، لِذا سُميَ ب “الملاك الساقط” أو النجم الساقط

كذلك نجد أن الأنجيل لم يقدم لنا أي تمهيد أو معلومات بيانية عن منشأ وكيان الشيطان!، بل إكتفى بإشارات مُقتبسة من الأسفار التوراتية المنحولة. وهكذا نجد أن الشياطين هم الملائكة الساقطون الذين عصوا أوامر الرب كما جاء في كِتاب العهد الجديد وفي رسالة بطرس الثانية 2’ 4-5

وقبل أن يبدأ المسيح رسالته بالتبشير بين الناس ذهب إلى البرية ليصوم أربعين يوماً وأربعين ليلة، وهناك ظهر له الشيطان ليجربه ويغويه، لكنه هزم الشيطان ورفضه وطرده وأخزاه

والمسيحية مهما قيل فيها تبقى أغلب دعائمها الأساسية مبنية على ثوابت الدين اليهودي، لِذا عامَلَت الشيطان كما عاملتهُ اليهودية وقالت أنه مصدر الشرور على كل الأرض. كذلك أعتبرتهُ المسؤول الأول عن كل الأمراض الجسدية والنفسية والعقلية من أوبئة وأمراض وجنون وشذوذ ومُعوقات من كل نوع!، وهنا نجد أن المسيحية لم تأتِ بأي جديدبهذا الخصوص، لأن كل ذلك كان من أفكار سومر وبابل ومصر وكنعان وفارس وغيرها من الحضارات القديمة.

وحول الشياطين يقول (انجيل لوقا الإصحاح 14,11) بأن المسيح أخرج شيطاناً من فم الأخرس .. فتعجبت الجموع. كذلك يقول إنجيل (مرقس 24:7 ) بأن المسيح أخرج روح نجس من رجل ممسوس. وأن الشسياطين بعد أن كان يُخرجها يسوع من أجساد الناس كانت تتوسل به كي يدعها تدخل في أجساد الخنازير!!، والحق لستُ أفهم هذا الإصرار الجماعي في الديانات التوحيدية على فكرة شيطنة ونجاسة الخنازير التي لولا وجودها في أوربا وبقية العالم القديم لكانت ستحدث مجاعات مدمرة في العالم

وفي جميع الأناجيل نقرأ عن قصص مُشابهة لإخراج تلك الشياطين من الناس على يد يسوع !.كذلك نقرأ كيف أن يسوع أرسل تلاميذه  ليكرزوا .. ومنحهم السلطان لشفاء المرضى وإخراج الشياطين ( متى 8:10 ). وإقتداءً بممارسات المسيح هذه كذلك فعل بعض الكهنة المسيحيين لاحقاً في التأريخ، حين صدقوا إن بإستطاعتهم إخراج الشياطين من أجساد الناس كما تم في فلم ( ألأكسِِرسِست ) مثلاً، والذي قامت فيه الممثلة ( لِندا بلير ) بدور البطولة

والغريب أن الأناجيل لا تشرح أو تُفسر لنا وبطرقة منطقية عاقلة ومقبولة للفكر المتنور لماذا وكيف دخلت الشياطين في الناس، لكنها تُبين وتقرر على الدوام أن دخول الشياطين كان يُسبب للناس أمراض خطيرة جسدية وعقلية كالبكم ( متى 32:9 ) والجنون ( متى 8:28 ) .. الخ. بينما كل العلوم الرزينة تقول بأن ليس للبكم والصرع والجنون أو أية حالة مرضية أخرى علاقة بشيئ إسمه الشيطان

والسؤال المطروح هو: هل هناك شياطين حقاً في أجساد الناس المُرضى اليوم كما زعمت الأناجيل !؟ وإن كان الجواب بنعم .. فلماذا تضييع الوقت مع الطب والأطباء والعلوم والبحوث والمختبرات؟ ولماذا لا نلجأ إلى الكهنة للقيام بهذه المهمة التي إبتدأها السيد المسيح !؟، والسؤال الثاني: هل رأى أي بشر عبر (كل) التأريخ شيطاناً أو عفريتاً أو جنياً ؟

كذلك نقرأ في سِفر أعمال الرُسل قصة إخراج بولص الرسول لروح نجس (شيطان) من فتاة خادمة ( أعمال 18- 16:16) وهناك قصص أخرى كثيرة لإخراج المسيح للشياطين من أجساد الناس! والتي تعتبرها الكنيسة المسيحية من المعجزات التي جاء بها السيد المسيح. ومرة أخرى يفرض السؤال نفسه: لماذا توقفت المعجزات في زمن الذرة والحاسوب والكاميرا والمختبرات وكل العلوم التي لاحصر لها!؟

ومن المآسي أن المسيحيين حاولوا لاحقاً الإقتداء بالسيد المسيح في معاملة الأمراض كشياطين في جسد الناس، لِهذا راح القسس ومجموعات الناس “المؤمنين” في القرون الوسطى في أوربا يُكبلون المجانين والمرضى المساكين . بالسلاسل ويضربونهم بقسوة كي يتألم الشيطان في داخلهم ويخرج من أجسادهم ... هكذا زعموا. ولا ننسى قصة الملك جورج الثالث في بريطانيا سنة 1738 حين أُصيب بالجنون، وكيف كانَ يُضرب لإخراج الشياطين من جسدهِ

ومن مقال بعنوان: (عندما يغيب العقل ويحكم رجال الدين) للكاتب محمد زكريا توفيق أستقطع لكم هذه الفقرات المعلوماتية المهمة: [ الأمراض، كما كان يعتقد رجال الكنيسة هي من فعل الشياطين، وإن الشياطين هي سبب المجاعات والقحط وفساد الجو والعقم عند النساء. وأنها تحوم في الجو ممتطية السحاب، وتأتي لمن يطلبها عن طريق السحر، أو لمن يقترف إثماً أو خطيئة. لذلك أمر البابا (بيوس الخامس) أن يُدعى الأطباء بأطباء الروح، لأن الأمراض تأتي من الشياطين والأرواح الشريرة. !( ملاحظة: هذه المعتقدات كانت موجودة منذ أيام المجتمع البابلي ) طلعت ميشو

ويستطرد صاحب المقال: في القرن الخامس عشر ظهر إعتقاد مأساوي بأن بعض النساء يُساعدن الشياطين في ظهور الأعاصير والعواصف الثلجية أو الفيضانات أو ما شابه ذلك من كوارث طبيعية، لذلك أصدر البابا (أنوسنت الثامن) في السابع من شهر ديسمبر عام 1484 ميلادية أمراً بالقضاء على كل الساحرات. فقام رجال الكنيسة في المانيا بتعقب الساحرات اللاتي يُسببنَ فساد الجو وبوار الأرض وباقي الكوارث

ومن ثم وجدنَ آلاف من النساء البريئات أنفسهن مُعلقات على أجهزة التعذيب، أو مُكَبَلات ومُحاطات بأقرب الناس إليهن كي يقودوهن إلى أماكن الإعدام حرقاً حتى الموت، كي تتطهر أرواحهن

في عام 1609 ميلادية كان وباء الخوف من الساحرات يكتسح كل جنوب فرنسا، مئات من الناس كانوا يعتقدون وبسبب الخوف إنهم ملبوسون بالشياطين، بعضهم كانوا يعتقدون أنهم قد مُسخوا كلاباً، فيقومون بالنباح

وشُكِلَت لجنة من قبل البرلمان لمحاكمة المُشتبه فيهم، وعَرَفَت تلك اللجنة طريقة ما -حسب زعمهم- لتحديد المكان الذي تدخل منه الشياطين إلى جسد المُتهم أو المُتَهَمة!!، وهي أن تُعصب عيني المتهمة ثم تغرز الإبر في جسدها، وأي منطقة في جسدها لا تشعر فيها بالألم تكون هي المكان الذي دخل منه الشيطان

كان المُتهمون ينفون عن أنفسهم تهمة السحر، ويُلقون التهمة على بعضهم البعض تهرباً من الموت!!. ثمانية من النساء أقَرَت المحكمة جريمتهن، هرب خمسة منهن وتم حرق الثلاثة الأخريات أحياءً حتى الموت

بعض أفراد الجمهور الذي حضر عملية الحرق أقسموا بأنهم رأوا الشياطين وهي تهرب على صورة ضفادع تتقافز من رؤوس المتهمين الذين يحترقون وهم أحياء

في لورين - فرنسا تم إعدام 800 ساحراً وساحرة حرقاً بسبب تهمة ممارسة السحر خلال مدة 16 سنة، وفي ستاسبورج تم إعدام 134 آخرين خلال أربعة أيام فقط في أكتوبر 1582. وفي المانيا كان الكاثوليك والبروتستانت يتنافسون في إرسال الساحرات إلى المحرقة. وملخص الحكاية أنعلماء التأريخ الألمان يُقدرون عدد الذين تم إعدامهم بتهمة السحر والشعوذة في المانيا وحدها في القرن السابع عشر فقط ب ( 100,000 ) إنسان برئ

والجدير بالذكر أنه أثناء كل ذلك كانت الكنيسة قاسية جداً مع رجال الدين العقلانيين الذين أبدوا شكوكهم أو عدم قناعاتهم حول فكرة وجود السحر والسحرة والشياطين، لدرجة أن قامت الكنيسة بإتهام رجال الدين هؤلاء بالهرطقة، تمشياً مع آيات ( سِفر الخروج ) التوراتية التي تطلب الموت الزؤام للساحرات ومن يتعاطف معهم ]. إنتهى

بعدها بزمن طويل جاء العالِم الفرنسي ( لويس باستور ) ليُنهي المُعتقدات الباطلة القائلة بأن الأمراض تُصيب الإنسان بسبب مس من الشيطان أو عن طريق السحر أو بسبب غضب الله كما كان يعتقد الجهلة قبل إنتشار الوعي والمعرفة والعلوم. وكان لويس باستور قد إكتشف علمياً كائنات غاية في الصِغر والدقة ( الجراثيم ) التي تُسبب الأمراض وقد تؤدي بالإنسان إلى التلف والهلاك

ولمن يود معرفة المزيد عن لويس باستور فعليه بالرابط أدناه

http://ar.wikipedia.org/wiki/لوي_باستير


الشيطان في الإسلام

***************

أهم شرح مُختصر في الإسلام عن الشيطان هو: “كان من الجن ففسق عن أمر ربه” قرآن

في الإسلام كان النبي محمد سخياً جداً في إضافة عشرات القصص الخيالية عن الشيطان، أكثر بكثير مما في اليهودية والمسيحية مُجتمعتين، لدرجة أنه جَسَدَ الشيطان وصوَرهُ كائناً يأكل ويشرب ويتبول ويتغوط ويُضاجع .. الخ، وذلك من خلال عشرات الأحاديث التي إستلمها فقهاء الإسلام وجعلوا منها غابة خرافات ومتاهة ليس له بداية أو نهاية

في القرأن تم ذكر إبليس مرات ومرات، لكن تبقى أهم تلك القصص هي قصة “إبليس”الذي كان أصلاً من الجن العابدين لله، فرفعه الله إلى منزلة الملائكة، وحين خلق الله آدم من تراب وطلب من كل الملائكة أن يسجدوا له، أبى إبليس أن يسجد، لأنه مخلوقٌ من نار وآدم مخلوقٌ من طين، فغضب الرب وكاد أن يفني إبليس، إلا أن إبليس طلب من الله أن يُمهلهُ إلى حين موعد يوم القيامة، حتى يستطيع أن يظل عباد الله، فأمهله الله إلى ذلك اليوم وقام بإخراجهِ من الجنة، وهذه القصة تُثير زوبعة من الأسئلة أهمها: لماذا لم يقم الرب بإفناء إبليس حين كان متمكناً من إفنائهِ!، ولماذا سمح له بالبقاء إلى يوم القيامة ؟

وحول هذه القضية شعر ساخر للشاعر بشار بن برد يتهكم فيه من قطيع المؤمنين ومن كل القصة

إبليس أفضل من أبيكم آدم …………. فتنبهوا يل معشر الفُجار

النارُ عنصرهُ ، وآدم طينةٌ ………… والطينُ لا يسمو سُموَ النار


تقول كتب العرب بأن لفظة ( قزح ) تعني الشيطان، وكان كِتاب ( لِسان العرب ) لإبن منظور قد نهى عن تسمية ما يُرى في السماء بعد هطول المطر ب ( قوس قزح ) لأن قزح من أسماء الشيطان

والمسلمين في البلاد العربية اليوم يستعملون كلمة ( عزرائيل )، وهي تسمية آرامية رغم أن هناك من يعتقد أنها عبرية، وقد ورد هذا الأسم في أسفار التوراة، وهو ملاك الموت الذي يقبض أرواح البشر. ولم يرد إسم عزرائيل في القرآن أو أحاديث النبي محمد، بل تم إستعمال مُصطلح ( مَلِك الموت ) وليس ( ملاك الموت ): (( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون )). سورة السجدة آية 11


ومن الغريب المُضحك في أفكار العرب عن الشياطين ما ذكره كِتاب ( المستطرف في كل فن مستظرف ) عن نوع من الشياطين يسميهم العرب ب ( القطرب ): وهم يظهرون في اليمن وفي أعالي صعيد مصر، ويقولون أن واحدهم يلحق الإنسان فينكحهُ .. فيُدود دبره ويموت

والإسلام لا يعتبر الشيطان من الملائكة كما في المسيحية مثلاً، بل يعتبرونه من الجن وذلك بحسب آية (الكهف 50): "وإذا قُلنا للملائكة إسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونهُ وذريتهِ أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً ". قرآن

وفي آية (الأعراف 12): "قال ما منعك ألا تسجد إذا أمرتُكَ قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقتهُ من طين"  قرآن

هذه الآيات وغيرها تقول لنا بأن إبليس -بحسب القرآن- خُلق من نار، بينما يُقال بأن الملائكة خُلِقَت من نور لِذا فالشيطان في الإسلام هو من الجن وليس من الملائكة

ملاحظة: هذه الإجتهادات العقيمة هي من كُتب المتفلسفين في أمور الديانات، ولا تُعبِر بالضرورة عن أفكار وقناعات كاتب المقال


الجن والعفاريت والشياطين في الحضارات القديمة

**********

من أساطير بابل عن العالم السفلي أو عالم الأموات ( أرالو ) هناك أسطورة ( نرجال وأريشكيجال ). ونرجال هذا كان إلهاً سماوياً لكنه هبط إلى أرض اللا عودة لأنه رفض إظهار الإحترام لرسول أريشكيجال آلهة الموت والعالم السفلي، وبعد نزوله إلى العالم السفلي لمواجهة أريشكيجال يتمكن منها ويوشك على قتلها، لكنها تعده بأن تتزوجه ليصبح ملك الموت والعالم السفلي، فيتزوجها ويبقى معها ليحكم عالم الموت. وهنا نرى مدى التقارب بين هذه القصة وقصة الملاك الساقط إبليس الذي هوى من مركزه كسيد للملائكة إلى سيد للشياطين

وهناك عشرات المعلومات عن عالم الأموات وأرض اللا عودة (أرص لا تاري) والعالم السفلي في سومر وبابل وآشور ومنها كذلك رؤية الجحيم الآشورية وأورنمو في الجحيم و.. الخ من ميثولوجيا بلاد الرافدين، وبرأيي فإن عشرات من أفلام الرعب التي تُصور فكرة قيامة الأموات الذين يلتهمون الأحياء مثل فلم

Down Of The Dead

وكل الأفلام التي على نمطه قد تم إقتباس أغلب أفكارها من الفكرة الأصلية عن (عالم الأموات) في بلاد ما بين النهرين وخاصةً ما جاء على لِسان ملِكة عالم الموت ( أريشكيجال ) التي كانت ترغب وتشتهي الإله ( نرجال ) وتطلب إحضاره لها كونها سئمت من معاشرة زوجها ( إرا ) فراحت تصرخ مُخاطبةً حارس بوابة العالم الأسفل: [ سأفتح بوابات عالم الموت هذا، وسأقيم الموتى وأطلقهم ليأكلوا كل الأحياء، حتى يصبح الموتى أكثر عدداً من

الأحياء ]. ألا يُذكرنا هذا النص بالمادة الخام الأساسية التي إعتمدتها الكثير من أفلام هوليوود التي ظهرت في الخمسين سنة الأخيرة والتي تُصور الأموات وهم ينهضون من قبورهم البائدة ليأكلوا الأحياء -لسبب ما- وبالضبط كما في الفكرة البابلية !!؟


يقول كِتاب (مغامرة العقل الأولى ) لفراس السواح (بتصرف): [ ترد لفظة (شيول) قرابة الف مرة في توراة العهد القديم، وهي تدل على الموضع الذي يطلب أجساد الموتى دائماً، وهي من جذر ( شألَ ) العبرية و (سأل ) العربية. ويشبه (شيول) التوراة إلى حد كبير (أرالو) وهو مثوى كل الأموات في العالَم التحت أرضي في معتقدات البابليين والآشوريين ]. كذلك يقول نفس الكِتاب (بتصرف): [ التوراة تُصَوِر الدار الآخرة كما تُصوِرها أساطير المنطقة (يقصد منطقة وادي الرافدين). والدار الآخرة في التوراة هي (عالم أسفل يقع تحت عالمنا هذا) ويُسمى ( شيئول) وهي تسمية عبرية تُعَبِرُ عنها الترجمات العربية بإسم (الهاوية) أو (الجحيم). وحين نقرأ ما جاء على لِسان أيوب في العهد القديم (إصحاح 22.19.10) في كلامهِ عن الدار الآخرة سنعلم أن (شيئول) هذه تحمل نفس مواصفات عالم الأموات السفلي في تراث بابل ]، وما هي إلا إقتباس آخر فاضح لكتبة التوراة من ضمن مئات الإقتباسات التأريخية المُخجِلة

أما عن موضع “مثوى الأموات” فنجده في ملحمة كلكامش من خلال نزول الآلهة عشتار إلى الجحيم الذي هو موضع (تحت أرضي) يقع في الجهة الأخرى من الأوقيانوس في الغِمر الذي يربض فوقه الكون


للكاتب العراقي الكلداني السيد عامر فتوحي كِتاب بعنوان (( الكلدان.. منذ بدء الزمان ))، وعلى الصفحات  256 ، 257 ، 258 منه موضوع شيق تحت عنوان "الجن والشياطين والغيلان والعفاريت" ويتطرق في جزء منه إلى عفاريت بلاد ما بين النهرين القديمة وبصورة دقيقة ومُفصلة وبالأسماء


التسميات التي أُطلقت على الشيطان كما تقول كتب مُختلفة

*************

يقول البعض بأن "الشيطان" تسمية عُرفت عن طريق العبرانيين ولها جذر سامي، لأن الجذر (شطّ) في العربية يُفيد معنى الإبتعاد عن الحق .. المروق

والشيطان في اللغة العِبرية أيضاً يعني: عدو، خصم، متآمر، من الفعل (شطن): يُعارض، يتآمر. أما كلمة إبليس فأصلها اليوناني ( ديابولوس ) يعني: المُفتري، وهي من الفعل اليوناني المرَكَب ( ديا بالين ): يفتري. ومن هذا الأصل اليوناني أيضاً جاءت كلمة ( دَفِل ) أي الشيطان في الإنكليزية ولغات أوروبية أخرى

 والشيطان يُدعى أيضاً ب (التنين) و (الحية القديمة) و (الأسد الزائر) و (الكذاب) و (بعل زبوب رئيس الشياطين). وتسمية (بعل زبوب) تعني (إله الذباب) وهي مُحرفة عمداً من تسمية (بعل زبول) والتي تعني (أمير الشياطين). وقد تم ذكر (بعل زبوب) في الأنجيل بمعنى الشيطان، كذلك وردت في التوراة لمرة واحدة فقط في سِفر الملوك الثاني، وهو إله مدينة عقرون -إحدى المدن الفلسطينية الخمس- وقد إستعمل العبريون وأنبيائهم اليهود كلمة (زبوب) عمداً للسخرية من إله الفلسطينيين وديانة فينيقيا وطقوس عبادتها وآلهتها ومنها (بعل وعشيرة وعشتروت) وقاموا بتحريف زبول إلى زبوب .. وهذا هو رأي الكاتب د. أنيس فريحة في كِتابهِ: ملاحم وأساطير من أوغاريت

 إزدهرت حضارة أوغاريت السامِية الكنعانية في تل رأس شمرا قرب اللاذقية في القرن 14 ق.م. [ ولعل إسم (بعل زبوب) يعني: "أبو الخصوبة صاحب الذَكَر العظيم" وفي هذه الحالة فإن كلمة ( زبوب ) هذه تُذكِرُنا بكلمة (سيبا) السومرية التي جاءت منها كلمة "زب" ].  د. كمال الصليبي

أما د. محمد عجينة فيقول في كِتابهِ (موسوعة أساطير العرب) الجزء الثاني ص 65: [ إبليس أبو الجن: هو إبليس، وله أسماء عديدة منها: أبو الجان، الشيطان، أبو مرة، أبو الحارث، عزازيل، شمازيل، سوميا، نائل، أبو كدوس ]. إنتهى

وعلى ذكر إسم إبليس فكنتُ قد قرأتُ في كِتاب (موسوعة الكنايات البغدادية) لمؤلفه: عبود الشالجي أنه تم تسمية الشيطان "إبليس" لأنه (أبلَسَ) أي يئسَ من رحمة الله. أي أنه لا يملك أي شيئ من رحة الله، وأن من لا يملك شيئاً فهو (مُبلِس). والقرآن يقول: عندما تقوم الساعة يُبلِسُ المجرمون)

ومن المفارقات أن الناس يُسمون من لا يملك نقوداً (مُفلساً) !.. بينما تفسير كلمة (المُفلِس) لغوياً هو ذلك الذي يملك النقود والفلوس .. وليس الذي لا يملكها. لِذا الأصح بِنا تسمية من لا يملك النقود ب (المُبلِس) وليس (المُفلِس)!. وأن لا ننسى بأن إسم (إبليس) يدل على جوهرهِ وهو (الإبلاس)، أي اليأس التام من رحمة ربهِ ومن العودة إلى الجنة التي طُرِدَ منها

في اللغة العربية .. الشَطَن يعني البُعد والمُخالفة. والشاطِن تعني البعيد عن الحق .. الخبيث. وشيطان الفلا هو العَطَش. وشيطان الرأس هو الغضب. والشيطان روح شرير. وسميَ بذلك لبعدهِ عن الخير والحق. وقد ورد ذكر الشيطان في القرآن في 88 موضعاً

the accuser - ومن الأسماء التي أُطلقت على الشيطان أيضاً في اللغة الإنكليزية تسمية: المُتهم


توضيح حول الرقم 666 الذي يرمز للشيطان

*************

من مقال للكاتب كاظم فنجان الحمامي بعنوان "الياسمينة الزرقاء" إخترتُ لكم هذا المقطع الصغير: [ قصة الرقم 666 وكما جاء في فلم ( الأكسِرسِست )، فهذه السِتات الثلاثة تُمثل الرمز الكهنوتي للشيطان، وهو الرمز الذي  jacob’s trouble 666  رسَمَ أبعاده الكاتب الأميركي ( وليم تيري جونس ) في روايتهِ الموسومة

والتي نسج فيها حكاية من الخيال السياسي عكست المراحل المُتوقعة لظهور إمبراطورية الأبالسة وتسلطهم على مفاتيح النظام العالمي الجديد وسعيهم الحثيث نحو إرساء كِيان شيطاني خبيث قائم على تقديس ستة (6) تشريعات لتطبيق القانون، وستة (6) قواعد لتطبيق النظام، وستة (6) أساليب لتحقيق (السلام العالمي) المزعوم

وتوقع وليم تيري جيمس في روايتهِ أن إمبراطورية الأبالسة هذه ستغرق في الوحل الوثني المُظلم، ولن تنفعها طلاسمها ورموزها الشيطانية بشيئ ]. إنتهى الإقتباس


 ومن مقال آخر لكاتب مجهول يتكلم عن النجمة السداسية والشيطان، والتي تم إستخدامها ربما جهلاً كرمز في العَلَم الإسرائيلي، إقتطعتُ لكم بضعة سطور: [ النجمة السداسية تُعتبر من أهم وأقوى الرموز في علوم السِحر والشعوذة. وكانت الديانات الوثنية القديمة تُقدس الإرتباط والعلاقة بين الذَكَر والأنثى، وتربط الجنس ببعض طقوسِها الدينية، ولا زالت هذه الممارسات مستمرة حتى الآن في بعض الديانات الوثنية وعِبادات الشيطان

كان رمز ( الذَكَر ) قديماً يُمَثَل بشكل مثلث رأسه للأعلى كرمز للعضو الذَكَري عند الرجل، وكان رمز الأنثى يُمَثَل بشكل مثلث رأسه متجه للأسفل كمثلث عشتار في منطقة العانة من جسد المرأة، وبإجتماع الرَمزَين أي المثلثين .. أي إتحاد الذَكَر مع الأنثى ينتج (الهِكساكرام) أو النجمة السداسية

وللعلم فإن رمز النجمة السداسية كان مُستخدماً من قِبَل المُشعوذين المصريين أيام الفراعنة، ولا يزال حتى الآن يُستَخدَم في السحر أو التعويذة أو ال ( كِرس ) اللعنة. ولمحبي ربط الرموز بالأرقام فإن ال (هِكساكرام) يحوي على ستة (6) زوايا، وستة (6) أضلاع، وستة (6) رؤوس .. والناتج 666 والتي ترمز للشيطان ]. وربما هذا الرمز يُليق بالصهيونية أكثر من الرمز لنجمة داوود


خاتمة الموضوع ورأي كاتب المقال

***************

كما تبين لنا من خلال كل معلومات هذا البحث والتي جاء الكثير منها كمقتطفات من كتب نخبة مُحترمة من الكتاب، نرى أن فكرة وشخصية الشيطان بدأت مع بدايات حس وإنتباه البشر على ما حولهم من معميات حياتية، والتي رافقت البدايات الأولى لهؤلاء البشر القدماء على سطح الأرض، ذلك الحس المتولد بسبب الخوف والقلق وعدم فهم ما كان يُحيط بذلك الإنسان من ظواهر الطبيعة وغموضها وغرابتها والتي لم يكن يملك لها تفسيراً في عقلهِ البدائي يومذاك. وكما ينمو الزرع من بذرة صغيرة .. كذلك نمت فكرة بدائية بسيطة جداً عن وجود خير وشر وظلمة ونور وجيد وسيئ ونظام وفوضى والتي تحولت جميعها خلال آلاف السنين إلى التصديق بوجود عفاريت وجن وأرواح شريرة وغيرها إلى أن وصل التفكير والمخيال البشري قبل بضعة آلاف من السنين إلى إختراع أو إختلاق شخصية وهمية غيبية ما ورائية أُطلِق عليها عشرات الأسماء وبعشرات اللغات والتي تم إخراجها إلى الواقع تحت مفهوم عالمي واحد هو “الشيطان” المعروف في مفاهيم اليوم


العلم الحديث وآلاف العلماء الأرضيين العقلانيين الذين تهمهم سمعتهم العلمية لم يؤيدوا وجود شيئ إسمه “الشيطان”!، لأنه لم يتم لحد اللحظة تقديم برهان أو إثبات واحد على وجود هذا الكائن الخيالي الذي خلقتهُ لنا عشرات الأديان والآيدلوجيات الأرضية على إختلاف أنواعها، والذي يعشعش في العقول التي لم تشرق عبرها شمس المعرفة والحقيقة العلمية. لِذا راح إنسان اليوم العاقل يتعامل مع الأسطورة من خلال نظرة نقدية فاحصة ودقيقة وعبر تراكم العلوم والفلسفات حوله ولديهِ، ولم يعد يقتنع بخرافات وأساطير وتفسيرات الماضي الهشة

 أما ما تزعمهُ كتب الكثير من الديانات .. فهذا ليس من شأن العلم والعلماء، وليس للعلم فيه رأي أو نصيب غير التعامل معها كأساطير وحكايات دينية عتيقة كانت وليدة عصرها ولم تعد تتلائم مع عصرنا الحديث الذي وصل إلى إكتشاف الكواكب والمجرات البعيدة التي لم يصلها بعد فايروس الأساطير والأديان وهلوسات العجائز عن شياطين تحمل الحربة الثلاثية وتلتهم جسد الخطاة في جهنم مُضحكة تم رسم معالمها الأولية في سومر وبابل قبل أكثر من خمسة آلاف سنة

ولا يفوتنا هنا أن الأسطورة خضعت تأريخياً إلى تأويلات وشروح وشعوذات خدمت النزعات الفردية الأنانية للأذكياء والدُهاة من البشر الذين طوعوها وركبوها ليصلوا إلى غاياتهم الحياتية المُختلفة. لِذا نرى الأسطورة والدين قد خدما وعلى طول الخط مطامع وأحلام ورغبات بعض المستفيدين من البشر على حساب كل البشر

مع أجمل تحياتي. المجد للإنسان

طلعت ميشو

كاتب وناقد عراقي \ أميركا

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

616 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع