ثقافة الوحدة وثقافة التقسيم في صراع الأمة

                                          

                         د. صفاء صالح العمر

يتكرر الحديث دائما عن التناقض الأساسي والتناقض الثانوي في حياة الأمة العربية عند مناقشة وضع الأمة العربية وحركة القومية العربية وموقفها من القوى الداخلية أو الخارجية التي تقوم وتمارس عمليات التفتيت والتقسيم وخلق الفوضى على المستوى الوطني أو القومي .

كذلك يستمر النقاش حول ضرورة التمييز بين التناقضين ، وعدم وضعهما بنفس درجة الأهمية عند أتخاذ المواقف التاريخية ، وعدم تقديم التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي في صراع الأمة العربية مع أعداءها.
وهذا تفكير موضوعي ومنطقي . ولكن حركة الحياة والمجتمع ، والمتغيرات الكثيرة التي تجري على أرض الواقع وبشكل متسارع في كافة المجالات ومنها طبيعة القوى المؤثرة على حركة المجتمع وأهدافها المُعلنة والمخفية وإصطفافاتها ، تستوجب المراجعة المستمرة ، وأعادة النظر في الأصطفافات الموجودة في ضوء مصلحة الأمة وحركة القومية العربية. أي أنها تستوجب أعادة تصنيف التناقضات السابقة وأهميتها وأولوياتها في ضوء موقف القوى المؤثرة في حركة المجتمع وتأثيرها على مستقبل الأمة. السؤال هو: هل يبقى التناقض الأساسي كما هو أم يتعرض للتغير ؟ وهل يبقى التناقض الثانوي كما هو – ثانوياً - أم ينزاح أحياناً بأتجاه يصبح معه تناقضا أساسيا ؟ وهل ثمّة تناقضات فرعية سياسية – يتيمة – أصبحت في أكثر من مرحلة ، تناقضات أساسية في حياة وحركة الأمة ؟ ثم ما هو المبدأ الذي يجب أعتماده لتقويم حركة الصراعات والتناقضات والقوى الفاعلة فيها وعملية تصنيفها ؟   
عاش العديد من المثقفين العرب ، وعلى مختلف تصوراتهم وقناعاتهم السياسية  مرحلة عقد من الزمن أو أكثر بقليل ، حالة من التشوّش والضبابية وعدم الوضوح بل غياب القدرة أحيانا ، في تحديد التناقضات بين الأمة العربية وحركة القومية العربية من جانب وبين القوى الأخرى إقليميا وعالميا من جانب آخر . أحد أسباب هذا الموقف الضعيف في تحديد واضح للتناقضات هو أختلاط وتشابك الأوراق والألوان في الواقع السياسي العربي ، أوراق الأمة والقومية والدين والمذهب والعشيرة والمصالح الشخصية والأقتصادية والوجاهة الأجتماعية وزهو السلطة ، في عقل المثقفين وعدم إمكانيتهم لتحديد مصلحة من منها هي الأساسية والتي غيابها يؤدي حتما  الى غياب مصالح الأمة . وهذا الخلط والتشابك وتلك الضبابية أدت الى تشويش فكر المجتمع وأبناءه وقناعاتهم تجاه حقيقة موقف القوى المتصارعة . الأمر الذي تسبب في أن يفضل البعض مصلحة المذهب على مصلحة الوطن والأمة ، والبعض الآخر يفضل الرابطة الطائفية والمذهبية المشتتة للمجتمع على الرابطة الوطنية والقومية الموحّدة للمجتمع . إن التحديد الصحيح للتناقضات وأولوياتها من قبل المثقف أو المفكر أو السياسي ، يعتمد أساسا على الثقافة والفكر الذي يتبناه المفكر أو المثقف العربي  - قوميا كان هذا الفكر أم دينيا أو طائفيا أو طبقيا أو عشائريا .... الخ - ، وبالتالي سيبلور قناعته بتحديد صحيح أو خاطئ لنوعية الصراع وقواه الفاعلة والذي يعكس قناعته بثقافة الجمع والتوحيد والتماسك والتي هي ثقافة القومية العربية ، أو( ثقافة التفتيت والتقسيم والتشرذم ، ثقافة إطلاق الهويات الفرعية والعصبيات الفئوية على حساب الهوية الوطنية والقومية الجامعة )1 التي يسعى المعسكر المعادي للأمة العربية الى نشرها وتعميق جذورها في الآرض العربية.
يقيناً ، لن ينسى أي منا أن هناك قوى خارجية تتطلب مصالحها وإستقرار مجتمعاتها أن تكون في تناقض أساسي أستراتيجي مع كل الأوراق والمصالح أعلاه الخاصة بالمجتمع العربي . ولكن تحقيق مصالحها يتطلب منها ، هي أيضا ، معرفة وتحديد التناقضات الأساسية أوالثانوية مع القوى الفاعلة في المجتمع العربي وما حوله . الوعي العربي لهذه المسألة كان سبّاقا في ثلاثينات وأربعينيات القرن الماضي ( القرن 20 ) في تحديد مشكلات الأمة العربية ، وتحديد واضح للتناقضات الأساسية والثانوية حينذاك. ولكن خارطة التناقضات وأولوياتها كانت ، ولا زالت ، في تغير مستمر ، وتتغير معها خارطة القوى وتصنيفاتها وتحالفاتها – الداخلية والأقليمية والدولية - .  والتحديد الصحيح للتناقضات يتبعه تصوّر أوضح للصراع وللقوى الفاعلة في المجتمع ، ومن ثم إزدهار للحركة القومية العربية في رسم مستقبل الأمة . أما التحديد الخاطئ للتناقضات فيتبعه تصور خاطئ للصراعات ثم إستنتاج خاطئ للقوى الفاعلة بما يؤدي الى تراجع الحركة القومية العربية أو بالتحديد الوصول الى حالات الكارثة على الأمة . ولنا في تاريخ الأمة العربية للعقود السبعة الماضية أمثلة حيّة في التقدم أو التراجع.   
إنطلقت هذه الأفكار في ذهني عند قراءتي لملاحظات المفكر السياسي القومي - الأستاذ  معن بشوّر – في مقالة نشرت في الصحيفة الألكترونية – رأي اليوم – بتاريخ  18 \ 2 \ 2014 ، وتحت عنوان  -(  نعم إنها حرب على ثقافة القومية العربية )1 - . في المقالة فكرة أساسية تتمحور حول التناقض الأساسي للأمة العربية مع قوى التحالف الأمريكي – الصهيوني – الأوربي . وفي المقالة تصوّر لنموذج ساحة للصراع والمفروض أنه يجسّد التناقض الأساسي ، وهو ما يحدث حاليا في سوريا إن لم أكن قد أخطأت الفهم ( ولهذا الموضوع تقويم آخر).  

                                         *******************  

  مع أنتهاء الحرب العالمية الثانية ( 1945 م ) تحدّد التناقض الرئيسي بين الشعب العربي وقواه الوطنية وبين قوى الأحتلال البريطاني والفرنسي والإيطالي . وكما حدده المفكر منيف الرزاز في كتابه – التجربة المرة – بالتناقض المزدوج : ( تناقض الوعي القومي مع الإستعمار ، وتناقض معطيات التخلف مع مستلزمات التقدم )  . وكان هدف الأمة العربية المرحلي من الصراع آنذاك هو تحقيق الأستقلال السياسي للأقطار المُحتلة والإستقلال الأقتصادي والتنمية  . وبعد أنتهاء الحرب الثانية دخلت أمريكا حلبة الصراع الذي كانت قمته أحتلال أرض فلسطين وأعلان دولة إسرائيل (1948 م) ووقوف أمريكا وأوربا معها ضد الأمة العربية . هنا توسعت مساحة التناقض الرئيسي وتغيرت القوى الفاعلة فيه بعد تغير ملامحه وأولوياته وتداخل أهدافه. وأصبحت أسرائيل وأمريكا في مركز أحد طرفي الصراع ، بل من أكثر القوى المتصارعة ضراوة وعنفاً وتدّخل في أحداث المنطقة . بصمات هذا التناقض والصراع بين الأمة العربية وبين هذا التحالف الجديد كانت واضحة في أحداث ثورة 23 تموز 1952م ، ثم بناء السد العالي ، وتأميم قناة السويس 1956م ووحدة مصر وسورية شباط – 1958م ، وثورة العراق وأحداث لبنان (تموز- 1958 م) ، وأستقلال الجزائر وثورة اليمن..... ألخ.
    لقد تركزت ثقافة القومية العربية خلال تلك المرحلة ( وبناء على تحديد الصراع الرئيسي) على تحرر الأقطار العربية ، ووحدة الأمة المجزأة نضاليا وسياسيا ، والتي هي في تناقض مع ثقافة التجزئة قوميا والتقسيم والتشتت وطنيا والأستعباد للوطن والمواطن ، هذه الثقافة التي ترعاها قوى عديدة داخلية ودولية وإقليمية. ثم شهدت المرحلة وما تلاها تغليب للخلافات السياسية بين القوى الوطنية في القطر الواحد ، او بين فصائل الحركة القومية العربية على مستوى الوطن العربي ، تغليبها على الصراع الرئيسي مع التحالف الغربي الأسرائيلي . وبذا فقدت فصائل الحركة القومية العربية القدرة على التشخيص الصحيح للتناقضات واولوياتها مما أنتج تراجعاً واضحاً ومؤلماً للحركة القومية العربية في صراعها مع التحالف الغربي –الأسرائيلي ، ونحن نعيش حالياً أستحقاقات ذلك التشخيص الخاطئ للتناقضات ومن ثم التراجع المؤلم للحركة القومية العربية وثقافتها.
هذا التراجع أفرز مستجدات  عديدة على الساحة القومية ومن أهمها ، إيجابيا : تصاعد حركة المقاومة الفلسطينية ، والتغيير في العراق ( 1968 م ) ثم تأميم النفط العراقي ، ونصرحرب أكتوبر (1973 م وعبور القناة ) . وسلبيا : إستمرار خنوع الحكومات العربية للمخطط الأمبريالي ، عدم أستكمال نصرعبور القناة وإحتلال الضفة والقنيطرة ، ضرب المقاومة الفلسطينية في الأردن ولبنان ، ضرب ثورة ظفار بمساعدة إيران - الشاه ، إحتلال الجزر العربية في الخليج العربي . وبضوء الوقائع الجديدة في الوطن العربي حصل تغيير  في قوى الصراع بين الحركة القومية العربية والتحالف الغربي – الأسرائيلي .
لقد تشكل المحور المعادي للأمة العربية من قوة جديدة مضافة هي إيران - الشاه بالشكل الذي أعُتبرت كشرطي للخليج العربي وبقوة عسكرية متعاظمة. في الوقت الذي دخل فيه العراق كقوة قومية مركزية في محور الحركة القومية العربية . ومع حصول التغيير في إيران 1979 م ومجيء التيار المتأسلم بقيادة الخميني نرى ان السلطة الدينية الجديدة رفعت شعار تصدير الثورة الى المنطقة والبدء بالعراق الذي يحكمه حزب مؤمن بثقافة القومية العربية . إيران - الفقيه الدينية أعلنت معاداتها الصريحة للحركة القومية العربية  بإعلانها الصريح بتكفير النظام القومي العربي الذي يحكم العراق آنذاك وبدء الحملة الإعلامية الموجهه ضدّه والمتسترة بالإسلام والتدين ، وأبقت على إحتلال الجزر العربية أضافة الى إحتلالها البغيض لعربستان والعمل على محو عروبة الأقليم . وأصبحت إيران - الفقيه جزء أساسي من المحور المعادي للحركة القومية العربية رغم ما يُعلن يوميا عن معاداتها لقوى( الشيطان الأكبر والأستكبار العالمي ) . وجاءت حرب السنوات الثمانية مع العراق ورفض أيران - الفقيه لأيقافها رغم الخسائر الهائلة التي قدمها البلدان المتحاربان ، لتؤكد النوايا المعادية  للحركة القومية العربية . خلال الحرب وأستمرارها حدث شرخ كبير في محور القوى القومية لتتغير خارطة القوى في جانبي الصراع وليدخل الصراع السياسي العربي – العربي مجددا ليكون مؤثرا في خارطة التناقضات والصراعات حول الوطن العربي . ثم أستفاق العالم على أحداث الكويت وحصول شرخ جديد في المنطقة العربية . وأستطاع الحلف الغربي - الأسرائيلي إدخال العراق في مأزق تاريخي كانت نتائجة واضحة بعد أقل من عام على دخول العراق الى الكويت. وهنا أيضا كانت أيران - الفقيه على خط الوفاق مع المحور الغربي – الأسرائيلي في معاداة العراق ولكن هذه المرة بطرح متعدد الوجوه يعتمد – التقية – كمبدأ في التعامل مع العراق من جهة ومع الحركة الفلسطينية من جهة ثانية ومع الحلف الغربي –الأسرائيلي من جهة ثالثة ومع اطراف عربية اخرى من جهة رابعة.
توضّح  سلوك إيران - الفقيه وبشكل كامل قبل وخلال وبعد عمليات الحلف الأمريكي – الأسرائيلي – الغربي لآحتلال العراق في نيسان 2003 م ، ودور أيران - الفقيه في الأحتلال بعد التمهيد له مع مؤتمرات ال CIA ، ثم المساهمة المباشرة في الحرب غير المقدسة على المقاومة الوطنية العراقية في قتالها للأحتلال ، وأمعنت بسلوكها هذا وبكل ألوسائل المتاحة مرورا بالتنسيق مع قوى الأحتلال والقاعدة والميليشيات الطائفية .
في هذه المرحلة حصلت أكبر وأذكى عملية خلط للأوراق والألوان فيما يتعلق بتحديد التناقض الرئيسي عن الثانوي للأمة العربية في صراعها من أجل البقاء. المساهمون في عملية خلط الأوراق هم المستفيدون من الضعف الذي كانت  تعانيه الحركة القومية العربية بعد سلسلة التراجعات التي لحقت بها . وحتى المثقفين العرب والقوميين منهم بالأخص أصيبوا بمرض – عمى الألوان – في نظرتهم للأحداث الجارية وتداخلها الغريب ، وللشعارات البرّاقة المرفوعة لتوصيف المرحلة ،وللأصطفافات المعلنة للقوى المؤثرة في الساحة. وكان التحالف الأمريكي – الأسرائيلي – الغربي أذكى من الجميع في إستفادته من هذا الخلط مستخدما كل القوى المؤثرة ( داخلية وإقليمية ) في الساحة السياسية العربية  لتوجيه مزيد من الضربات القاسية للحركة القومية العربية.
أقوى هذه الضربات كان في عملية نبش الفساد في المجتمع العربي وتحريك كل القيم المتخلفة والأفكار والعادات والتقاليد والعلاقات التي تقف بالضد من ثقافة القومية العربية بين المواطنين . وأهمها التقسيم والتشرذم والتفتيت داخل القطر الواحد ، وتعميق التجزئة قوميا ولكن الآن تحت لافتات عنصرية ودينية وطائفية وحقوق الأنسان وحقوق الأقليات ، ومحاولة أيجاد حالة تنافر وتضاد بين الأسلام وبين القومية العربية . وقد سبق للمفكر ميشيل عفلق أن شخّص قبل أكثر من 70 عاما حالة العلاقة بين العروبة والإسلام بقوله : (( أن المعنى الذي يفصح عنه الإسلام في هذه الحقبة التاريخية الخطيرة ، وفي هذه المرحلة من مراحل التطور ، هو أن توجّه كل الجهود الى تقوية العرب وإنهاضهم وأن تُحصر هذه الجهود في نطاق القومية العربية ..... والإسلام من حيث هو حركة روحية أمتزجت بتاريخ العرب وأصطبغت بعبقريتهم وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى له مكانة خاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة إنبعاثها )) . وبالتالي  وكما يستنتج المفكر( معن بشوّر) فإن  ( الحرب على ثقافة القومية العربية هي حرب على الاسلام الذي أطل على الانسانية بلسان عربي، ومن خلال نبي  عربي، ومن أرض عربية ، انها حرب على الاسلام الذي شكل محتوى روحياً وثقافياً وحضارياً للعروبة، تماماً كما شكلت العروبة وعاء جامعاً تجلّت من خلاله فضائل الاسلام السمح وفي مقدمها الانفتاح والتواصل مع كل الرسالات السماوية الاخرى لا سيّما المسيحية منها التي حمل مؤمنون بها رسالة النهضة العربية، فحفظوا في أديرتهم لغة القرآن الكريم ونشروا ثقافة العرب في كل اصقاع العالم، بل ان الحرب على ثقافة القومية العربية هي لتدمير الجسور بين المسلم والمسيحي من جهة، وبين المسلم والمسلم من جهة ثانية فاذا كان الاسلام هو دين توحيد في السماء، فالثقافة القومية العربية هي ثقافة وحدة على الارض. )1.        
----------------------------------
1-    معن بشوّر – الجريدة الألكترونية رأي اليوم – مقالة : نعم إنها حرب على ثقافة القومية العربية –  18 \2\2014 .   
----------------  
لنسأل عن نوع القوى التي أنتظمت في التحالف الغريب في مواجهة الحركة القومية العربية ، وعملها وجهودها المُكثفة  لإجتثاث ثقافة القومية العربية من خلال أستبدالها في عقل المواطن العربي بثقافة التخلف والطائفية والعنصرية والعشائرية والمناطقية والتأسلم المتطرف  . كل هذه القيم والتقاليد الجاهلية كانت تستهوي عقل المواطن البسيط المتوجه للدين والتدين وكل القيم الإنسانية الرائعة بروح صافية طاهرة ، وتستغل حالة الجهل التي تعيشها شريحة كبيرة من المواطنين لنشر الثقافة التي تؤدي بالنتيجة الى التفتت والتشرذم والأقتتال الشعبي . قوى التحالف الغريب هذا  تتكون من ذلك التحالف الأمريكي – الأسرائيلي – الغربي  وأنضمت اليه القوى الطائفية المتأسلمة ( نظام أيران الفقيه – السلفيين – الأخوان المسلمين وعناوين دينية أخرى متفرقة ) . وهنا أيضا برز تغير أساسي في توصيف التناقض الرئيسي عن التناقض الثانوي . وتحدد الصراع الرئيسي بين الحركة القومية والإسلامية العربية المؤمنة بالأمة العربية ومستقبلها وبين كل القوى المعادية للأمة العربية وحركتها القومية . وتحدد الصراع ، وبوضوح لا يقبل الجدل ، بين ثقافة القومية العربية وبين ثقافة  ( التفتيت والتقسيم والتشرذم ، ثقافة اطلاق الهويات الفرعية والعصبيات الفئوية على حساب الهوية الوطنية والقومية الجامعة )1 والتي تُمارس وتُغرس أو يتم التمهيد لنشرها الآن في أكثر من أرض عربية ( في العراق بعد الأحتلال – مصر – لبنان – سوريا – السودان – البحرين – دول الخليج العربي – ليبيا ).  ولعلَ أعمق وأقسى حالات التفتيت والتشرذم التي يتم التثقيف عليها وتتم ممارستها على الأرض العربية هي الأصطفاف الطائفي - المذهبي ضمن الدين الواحد : الأسلام ، وتقسيم المواطنين على أساس مرجعياتهم المذهبية حسب الطوائف والملل والمذاهب وليس على أساس مرجعيتهم الوطنية  ، وإنتمائهم القومي الإنساني . والقوى التي تعمل على تمكين هذا التقسيم والتشرذم وتعميقه على الأرض العربية ،هي نفسها القوى المتحالفة ضد الحركة القومية العربية  وفي مركزها التحالف الأمريكي – الأسرائيلي ، وأيران – الفقيه والقوى الأسلامية المتطرفة بأنواعها.
تحقيق هذا الهدف يتطلب أولاً أجتثاث ثقافة القومية العربية ، وبطريق غير مباشر دق أسفين الخلاف والتضاد والتنافر بين الأسلام كدين وبين الأمة التي ظهرت فيها رسالة بحجم رسالة الإسلام . إن الذي لا تفهمه هذه القوى أو تحاول إنكاره ، وكما عبّر عنه المفكر ميشيل عفلق كحقيقة تاريخية هو أنه (( حيث يكون الإسلام تكون العروبة وعبقريتها . فالعرب أصبحوا مع الإسلام أمة عظيمة ولكن الأمة العربية هي التي حملت رسالة الإسلام ،وقوته من قوتها )) كما أن ضعف الأمة العربية يعني ضعف الإسلام . ومن يدّعي حب الإسلام يجب أن يحب الأمة العربية ويسعى الى تمكينها من بناء قوتها بوحدتها وبحركتها القومية العربية . فالأمة العربية هي أمة الإسلام .
والذي يريد أن يكون مثل علي بن أبي طالب في هذا العصر ، أو مثل عمر بن الخطاب أو مثل الحسين بن علي ، أو يتحدث بأخلاقهم وإيمانهم ودفاعهم عن الأسلام ودورهم الريادي في نشر الرسالة الجديدة مثلاّ ، يجب أن يحب الأمة التي أنجبتهم أولاً وهي الأمة العربية . وأي عداء لهذه الأمة أو أي مساس بثقافتها القومية العربية هو في حقيقته عداء لعلي وعمر والحسين الذين ناضلوا وقاتلوا ليحافظوا على سلامة وثورية ونقاء الرسالة التي جاء بها الرسول الكريم لبعث الأمة العربية . كما أن الذي يتحدث بالإسلام ويعادي العروبة فإنه يجدّد محاولة قديمة فاشلة لزرع بذور الفرقة والتنافر بين العروبة ( القومية العربية ) والإسلام ( روح العروبة ) .  والذي يريد أن يقلد علي أو عمر أو الحسين يجب أن لا يكون نسخة طبق الأصل عنهم ، وإنما يجب أن يتوخى أن يكون ذا تأثير يوازي تأثيرهم في زمنهم . ولن يكون له هذا التأثير إلا اذا أحب الأمة التي أنجبتهم وإلا إذا آمن بمبادئها ، ودافع عنها ضد أعدائها  وناضل من أجل وحدتها ورفعتها وكرامتها أو في أضعف الإيمان أن يقف معها في مواجهتها للتحالف الأمريكي – الأسرائيلي – الغربي .
فالإسلام هو حركة ثورية ، ثائرة على معتقدات وتقاليد ومصالح ، وثائرة على الفساد بكل أنواعه  وثائرة على الظلم والإستعباد والإستعمار والإحتلال . والمدافعين الظاهريين عن الإسلام والذين يتظاهرون بالغيرة أكثر من غيرهم بالدفاع عن الأسلام حاليا هم أبعد العناصر عن الثورة في مرحلتنا الحاضرة لأنهم غارقون في الفساد والأفساد ، وغارقون في تحالفاتهم مع الأجنبي الذي يحتل أرض الأمة ، ويقدمون الخدمات المجانية ( بوعي منهم أو بغباء ) لمحاربة الأمة العربية وثقافتها القومية . ((  فالإسلام في حقيقته الصافية نشأ في قلب العروبة وأفصح عن عبقريتها أحسن إفصاح وساير تاريخها وأمتزج به في أمجد أدواره )) كما يعبّر ميشيل عفلق عن هذه العلاقة  بأن (( المسلم هو العربي الذي آمن بالدين الجديد لأنه أستجمع الشروط والفضائل اللازمة ليفهم أن هذا الدين يمثل وثبة العروبة الى الوحدة والرقي والتقدم )).
 من كل ذلك نقول أن  (( المعنى الذي يفصح عنه الإسلام في هذه الحقبة التاريخية الخطيرة  ، هو أن توّجه كل الجهود الى تقوية العرب وإنهاضهم وأن تُحصر هذه الجهود في نطاق القومية العربية )) ، لا أن تُحارب الأمة العربية وحركتها القومية العربية  بأسم الإسلام ، ومحاولة تشويه نضالها وتضحياتها وإجتثاث ثقافتها والوقوف في معسكر أعداءها .   

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

528 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع