الأندبيندت عربية / شذى العاملي:يجسّد الرمز للإنسان وعياً وذاكرةً تستمر بالتشكّل لتصبح في ما بعد ذاكرة تاريخية له، قد يكون هذا الرمز شارعاً أو بيتاً أو مدينة واسعة، والوطن بما فيه رمز لذلك، وهاجس عودة المنفي إلى الوطن هي العودة لتلك الرموز، ويصعب الحفاظ على التراث حينما تُمحى أسماؤه ورموزه، وهي مع الزمن ستختفي وتتلاشى.
أثيرت في الآونة الأخيرة خلافات واسعة في الشارع العراقي وعلى وسائل التواصل الاجتماعي على أثر محاولة استبدال اسم شارع مطار بغداد الدولي بـ"شارع أبو مهدي المهندس" الذي اغتيل بداية عام 2020 مع قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني قرب مطار بغداد الدولي بغارة أميركية، وكان الترويج لاستبدال الاسم قد تم قبل حصول موافقة الجهات المعنية، وحصل ذلك تزامناً مع ذكرى اغتياله السنوية، حيث وُضعت لوحات على جانبي شارع المطار تعلن اسم الشارع الجديد.
الأحزاب الدينية وفلسفتها
بعد عام 2003 أعيدت تسمية عشرات المدن والشوارع والمواقع المهمة تبعاً لفلسفة أحزاب العراق الدينية التي حكمت العراق، واستبدل اسم "مدينة صدام"، إلى "مدينة الصدر"، وذلك لأن أسرة "الصدر" تعد من أكبر الأسر الدينية النجفية التي تسبب الرئيس الراحل صدام حسين بإعدام شخصيتين دينيتين بارزتين فيها، أما الجسر ذو الطابقين الذي يدعى "جسر القائد" الذي شيد في عهده، فقد أطلق عليه "جسر الحسنين"، نسبة إلى أسماء الأئمة من آل بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم).
كما عمدت الأحزاب الدينية إلى رفع عديد من الأسماء التي لا تتفق وفكرها، باستثناء المدن الرئيسة، لتمحو ذاكرة جيل حمل أسماء الأماكن والشوارع التي رافقت مسيرة حياته في الحقبة السياسية السابقة، كي تطلق عليها أسماء جديدة متسقة مع العهد الجديد.
قرار مجلس محافظة بغداد لسنة 2017
وفي قرار سابق، أعلنت أمانة بغداد اعتماد تسمياتها الجديدة لما يزيد على 80 شارعاً وساحة وجسراً، وفق قرار مجلس محافظة بغداد مرقم 13 لسنة 2017، كما تم الإبقاء على بعض التسميات من الشوارع التي استبدلت أسماؤها مثل شارع "ابن تيمية"، سمي "الشافعي"، وسمي شارع "الثورة"، بشارع "شهداء الكرد الفيليين"، و"شارع 60" سمي شارع "سلمان المحمدي"، وشارع "الشركة" أطلق عليه شارع "عمار بن ياسر"، أما شارع "الشمري" فسمي شارع "الشهيد علي جبر"، وسمي شارع "الحولي" شارع "أبي ذر الغفاري"، وسمي جامع "قائم آل محمد" جامع "الشهداء"، وشارع "الوزراء" شارع "الدكتور أحمد العطار"، وشارع "الشركة" سمي شارع "الكرامة"، ومن بين الشوارع التي تم تغيير اسمها أيضاً شوارع "24" إلى "الدكتور جابر العطا"، و"31" إلى "العالم عبد الجبار عبد الله"، و"27" إلى "الحسنين"، و"29" إلى "الزوية"، و"14 رمضان" إلى "الزعيم عبد الكريم قاسم"، و"الكيارة" إلى "الأحرار"، و"يوم العظيم الفلاح" إلى "الفلاح"، و"صدام حسين الداخل" إلى "الحرية"، و"السدة" إلى "المحيط"، و"العورة" إلى "أبي ذر"، و"عربية" إلى "سلمان محمد".
وبينت الأمانة أن هناك عدداً من الساحات والجسرات تم تغيير أسمائها منها "ساحة مظفر" التي تحولت إلى "الشهيد علي الكعبي"، وجسر "مظفر" إلى "الثوار"، وجسر "البحيرة" إلى "الرافدين"، وساحة "قحطان عبد اللطيف" إلى الشهيد "ضياء إسماعيل الزاملي"، وجسر "السنك الرشيد" إلى "السنك"، وجسر 17 "تموز" إلى "الباب المعظم"، وساحة "البعث" إلى "محمد رضا الشبيبي".
أسماء راسخة
وبقيت بعض التسميات القديمة راسخة، مثل "مدينة الثورة" التي ظل الناس يذكرونها على الرغم من تسمياتها اللاحقة، كما بقي شارع "أبي نواس"، المحاذي لنهر دجلة الذي يؤمه كثيرون من محبي أكل السمك، ومرتادي المقاهي، وأطلق عليه اسم "الشارع العباسي" في مطلع الثمانينيات بسبب أصول اسم أبي نواس الفارسية، إلا أن فكرة تغييره باءت بالفشل.
وبعض الأسماء أطلقت على الشوارع أيام الحكم الملكي، ويكاد "شارع السعدون" الذي يحمل اسم أحد رموز الحقبة الملكية، أن يكون الشارع الوحيد الذي لم يطله التغيير منذ إطلاق الاسم عليه.
تجاوز الأحزاب
وقال محمد الربيعي، المدير العام لدائرة العلاقات العامة في أمانة بغداد، "تجاوزت الأحزاب الإسلامية القانون والمجتمع العراقي بأجمعه، حين بادرت إلى تغيير أسماء الشوارع والمدن من دون العودة إلى القانون رقم 21 لسنة 2009 المعدل الذي نص على المشاركة الجماهيرية للمجالس والأقضية والنواحي لاختيار تسمية الساحات العامة والشوارع الرئيسة المستحدثة أو تغيير الأسماء القديمة بحسب طبيعة التسمية، إلا أن سيطرة هذه الأحزاب وظروف الحرب والإرهاب التي مرت على العراق وازدياد أعداد الشهداء، التي كانت سبباً في تسمية كثير من المناطق والشوارع بأسمائهم، أسهمت في إعطاء طابع غير متحضر بسبب الاختيارات شبه العشوائية والشخصية أو بسبب الوساطات والمحسوبية".
ولفت الربيعي إلى أننا نطالب بالرجوع ثانيةً إلى القانون ومشاركة المجتمع البغدادي وسماع آراء الناس والمثقفين والمتمدنين لاختيار تسميات من مختلف الثقافات العراقية والعربية ذات القيمة الفنية أو الأدبية، وكذلك مراعاة اختيار أسماء شخصيات أثروا بالمجتمع وأثبتوا أن الأولوية هي المواطنة قبل كل شيء.
أمانة بغداد وبلديات المحافظات هي المسؤولة
ورأى الصحافي عادل العرداوي، رئيس تحرير جريدة "صوت بغداد" الصادرة عن أمانة بغداد، أن " تغيير أسماء الشوارع بهذه العشوائية غير مقبول لأن تغيير أسماء الشوارع والساحات العامة ليس من ضمن مسؤولية الأحزاب مطلقاً، أو حتى إطلاق التسميات الجديدة، والأمر منوط بأمانة بغداد حصراً بالنسبة لبغداد، وببلديات المحافظات والمدن الأخرى بالنسبة إلى بلديات المدن الأخرى".
التذكير باسم الحاكم وتفرده
ومن المعروف أن أسماء الشوارع والمدن ترتبط بفكر وفلسفة الحاكم من نواحٍ عديدةٍ، سواء التاريخية أو الدينية أو الحزبية أو حتى المذهبية. ففي عهد رئيس العراق الراحل صدام حسين، تم استبدال عدد من المحافظات العراقية، فسميت محافظة كركوك بـ"التأميم"، لأنها كانت مقراً لشركات نفط أجنبية تأممت في 1973، وسميت محافظة العمارة، ميسان، نسبة إلى آثار مملكة ميسان السومرية التي تأسست قبل نحو 2500 سنة قبل الميلاد، وكما هي حال باقي محافظات العراق، فأطلق على مدينة الحلة، بابل، لقربها من مدينة بابل الأثرية، التي تقع على بعد 20 كيلومتراً جنوب الحلة، وأطلق على مدينة الموصل اسم نينوى.
وتركزت صورة الحاكم المتفرد من خلال تعزيز التذكير باسمه في الشوارع والمدن والساحات والمؤسسات العامة، حيث استبدل اسم مدينة الثورة الواقعة شرق بغداد التي أنشأها الزعيم عبد الكريم قاسم لإسكان مهاجري الريف في الستينيات، كي يعلن اسمها في بداية الثمانينيات مدينة صدام، كحال عديد من المشافي والجسور والساحات.
كتابة تاريخ بغداد
وأشار المؤرخ رفعت عبد الرزاق إلى أنه تمت تسمية شوارع بغداد وساحاتها للمرة الأولى في فبراير (شباط) 1932 بقرار من أمانة العاصمة على عهد أمينها محمود صبحي الدفتري بعد تشكيل لجنة تشكلت لهذا الغرض، ومن ضمن أسماء اللجنة الشاعران معروف الرصافي ومحمد الزهاوي والأب أنساتس ماري الكرملي، وطه الراوي، وعبد اللطيف ثنيان، وقد شارك معظمهم في كتابة تاريخ بغداد.
وفي 28 أبريل (نيسان) 1932، علقت لوحات بأسماء الشوارع، فاختيرت الأسماء بعناية واضحة مثل "شارع الرشيد" وشارع "موسى بن جعفر"، وشارع "مسلم بن عقيل"، وشارع "المتنبي"، و"السموأل"، و"حسان بن ثابت"، و"السعدون"، و"المنصور"، و"المأمون"، و"المستنصر"، شارع "النهر" اليوم، وساحات "زبيدة"، و"فيصل الأول"، و"ساحة السويدي"، "الشهداء" في ما بعد.
أسماء الرموز التاريخية والوطنية
في عام 1948، جرت عملية تسمية أخرى بسبب تطور بغداد وفتح شوارع وساحات جديدة، فضلاً عن أن غالبية تلك التسميات رُوعيت فيها الرموز التاريخية والوطنية أولاً، وخلت الأسماء عما يدل إلى ارتياب ديني أو طائفي أو سياسي. واستطرد عبد الرزاق قائلاً إنه في العقود الأخيرة، تم الإخلال بذلك التقليد، في حالات ليست بكثيرة، ولا سيما في عهد الطغيان البعثي، ثم تفاقم الأمر بشكل مُزرٍ، وأحياناً بشكل مخجل، بعد التغيير في سنة 2003 وما بعدها، وسمعنا بأسماء شوارع وساحات ومناطق بأسماء أعلام مغمورين، وغير معروفين كأشخاص قتلوا في الأحداث الطائفية على سبيل المثال، كما تغيرت أسماء مواقع معروفة، إلى أسماء جديدة تدل إلى تقهقر الوضع الاجتماعي بشكل جلي.
ولم يُبالِ الناس بالتسميات الجديدة، لأنهم اعتادوا الأسماء القديمة في تعاملهم اليومي. وتابع عبد الرزاق، "أنا من كرخ بغداد، واعتدت أن أُسمّي المواقع بما عرفتها في مقتبل عمري، مما اعتاد عليها أبي وأمي قبل نحو 50 عاماً، وأعتقد أن كثيرين يشاطرونني الأمر نفسه".
ومن أهم أسباب التسميات التي وضعت في ثلاثينيات القرن الماضي، هو أن العوام كانوا يطلقون ما يشاؤون من الأسماء، فضلاً عن أن بعض المواقع تعود تسميتها إلى العهد العثماني، وأبرز مثال على ذلك، هو "شارع الرشيد" الذي كان يطلق عليه قبل 1932 "شارع خليل باشا"، أو "الجادة العمومية"، أما "شارع المأمون"، فكان يدعى "عكد الصخر"، وأطلق على شارع "البولنجية" اسم شارع "حسان بن ثابت".
وذكر عبد الرزاق أن جسر الشهداء سمي أولاً سنة 1939 عند افتتاحه بجسر "الملك غازي"، ثم جسر "المأمون"، ثم جسر "الشهداء" اعتباراً من سنة 1948، مشيراً إلى أن البغداديين، وإلى فترة قريبة، كانوا يسمونه "الجسر العتيق"، و"جسر الأحرار"، وسمي بعد 1958 بهذا الاسم بعد أن كان يسمى جسر "الملك فيصل الثاني"، وقبله كان يسمى جسر "مود" نسبة إلى قائد بريطاني فتح بغداد سنة 1917.
أسماء الأماكن تقترن بالذاكرة
نستدل في أعماق ذاكرتنا على الأشياء بتذكر أسماء الشوارع والأماكن التي شهدت مسرح الأحداث، فقد اكتسبت المدن والأحياء أسماءها من خلال الوظيفة التي كانت تؤديها أو البنية التي يمثلها المكان أو أن المنطقة تسمى حسب المهن التي كان يمتهنها قاطنوها، كما ارتبطت أسماء المحلات (جمع محلة) بأسماء التجمعات التي تقيم فيها كأسماء القبائل والاقليات الدينية التي تعيش فيها ضمن مجتمع المدينة.
وبدا التغيير واضحاً مع دخول أنماط الحداثة إلى حياة العراقيين، بعد الحرب العالمية الأولى حين افتتح شارع "خليل باشا"، وهو الوالي العثماني الذي كان حاكماً لولاية بغداد، وهو الشارع الذي شهد استعراض دخول القوات البريطانية عام 1917 حين أعلن انتهاء سيطرة الدولة العثمانية على العراق.
وبعد استقلال العراق عام 1932 وخروجه من الانتداب ودخوله عصبة الأمم، بُنيت المدن، وفي مقدمها العاصمة بغداد، وشهد عقدا الثلاثينيات والأربعينات هذا الازدهار، وسميت الشوارع الرئيسة بأسماء رموز الدولة الجديدة، فسمي شارع "غازي" حديقة "غازي"، وسمي الجسران الحديديان على نهر دجلة عام 1939-1940 باسم "فيصل"، و"المأمون".
كما أطلق على شارعين رئيسين في منطقة الكرخ اسم شارع "الملك فيصل"، وسمي الآخر باسم "الأمير عبد الإله"، وتيمناً باسم ملكة العراق المحبوبة "عالية"، بعد وفاتها، سمي شارع "الملكة عالية"، وجسر "الملكة عالية"، وكانت الأسماء تُلائم الحقبة التي عاشها العراق.
تغيرت أسماء الشوارع التي رمزت للعهد الملكي بعد إعلان الجمهورية وإطاحة الحكم الملكي في ثورة يوليو (تموز) 1958. وتغير اسم شارع "الملكة عالية" إلى شارع "الجمهورية"، وجسر "الجمهورية" بدلاً من جسر "الملكة عالية"، وأصبح شارع الملك "غازي" يطلق عليه شارع "الكفاح"، وحديقة "غازي" أصبحت حديقة "الأمة"، واستبدلت الأسماء التي كانت تعبر عن ذلك العهد بأسماء تدل إلى العصر الجديد من رموز الوطنية.
لكن، بعد انقلاب 1963، وإطاحة الجمهورية الأولى، أطلقت تسميات جديدة من وجهة نظر البعثيين أولاً، والقوميين ثانياً، وعودة إلى البعثيين مرة أخرى، فأطلقت على الشوارع والمدن أسماء المدن وبلدان وشخصيات عربية، مثل أحياء "القاهرة" و"الجزائر"، و"تونس" و"ساحة عدن" و"شارع جمال عبد الناصر"، وأيضاً أسماء "الثورة" و"الشعلة" و"الحرية" التي أنشئت كضواح في عهد الجمهوريات.
وفي يوليو 1968، وبعد بدء الجمهورية الثانية للبعث، اعتمد التخطيط الحضري الحديث بالاستناد على ما قدمه الخبراء البولونيون، وأطلقت أسماء القادة السياسيين العرب على شوارع بغداد مثل ساحة "كمال جنبلاط" على ساحة مهمة في منطقة "الكرادة"، وذلك بعد اغتياله، وتغير بعدها الاسم ليصبح ساحة "أحمد عرابي" تبعاً لتغير الموقف السياسي آنذاك.
618 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع