تجوال في طريق الغربة الطويل (1)
خيالٌ أم شبح إنسان من الماضي البعيد، لا يمت إلى الحاضر بصلة، هذا الرجل المقبل بملابسه الرثة، وتقاسيم وجهه المعبرة عن قسوة السنين.
طوله المفرط وجحوظ عينيه لافت للنظر، ووقع أقدامه الثقيل غير المتوازن على أرض الغابة يثير الريبة.
توقفه المتكرر، بالتفاتة ناقصة إلى الخلف، يبقي الشك ماثلا في وجوده بهذا المكان، وفي سيره على الطريق النيسمي الضيق، وسط الأشجار والشجيرات والأحراش الكثيفة.
الطريق الذي يمر متعرجا بشكل غير نظامي، في غابة تمتد من الساحل حتى أطراف المدينة، مسافة تقترب من الخمسين كيلومترا (دونكانسبي هيد) آخر نقطة مأهولة على مرتفعات الشمال الاسكوتلندي التي تغطى قمم جبالها الثلوج، أكثر من ستة شهور في السنة.
اقترب بحذر شديد، عيناه الجاحظتان مفتوحتان على الآخر، تراقب بتمعن لايخلو من حساب التحوط، الذي أصبح صفة تلازمه منذ أن قرر الهرب من نفسه، ومن عالم يعتقده مجنوناً.
التحوط يساعد عقله المرتاب على الدوام، لتقدير المسافة التي يريد أن يبقيها آمنة بينه وبين الآخر الغريب.
وقف في المواجهة حائرا.
صامتا لا يتكلم.
مصدوماً بالهيئة التي أمامه، وبالجسم الممدّد على العشب من دون حراك.
يتنازعه الخوف من وجوده وسط الغابة، التي لا يمر في طرقها الوعرة غير الصيادين من أهل المنطقة، وموظفي الغابات المختصين بشؤونها، أو ربما يكون مستغربا من لون، وتقاسيم الوجه الشرقي الذي تفاجأ به، في منطقة لا يفكر أهل الشرق بالتقرب منها، سواء كانوا مهربي لاجئين إلى بريطانيا بلاد الأحلام، أو مستطرقين.
متشنجٌ، صنم يعود تاريخه إلى الأيام التي سبقت ظهور الاسلام بسنين.
في وجهه العبوس بقايا سمرة تغطيها صفرة كونتها أمراض القهر بعمر الشباب، أو صاغتها غيابات الشمس التي لا تشرق هنا إلا بالمناسبات.
يصعب الجزم والبت في الاسباب بمثل هذه المواقف المثيرة والعابرة، لأنها كثيرة ومتشعبة.
ما فائدة الجزم، وقد اختلطت جميعها في طريق الغربة الطويل، وأجوائها القاسية؟.
هذه الغربة التي يتشقق فيها الهارب من وطنه، مثل أرض العراق التي يبست وتشققت من شحة الماء، واهمال مشاريع البناء والاعمار وفشل الادارة في العهد الجديد.
يقف كمن يتطلع من أعلى التل بيأس نافذ إلى العظم، لمنظر لا يريد له التكرار.
القى السلام بلغة إنجليزية ممزوجة بلكنة أجنبية واضحة، وفي رد السلام باللغة نفسها، واللكنة تأكد أكثر من حدسه، أن صاحب الجسد الموجود أمامه عراقي على الأغلب، فتشجع في أن يتقدم خطوته الأخيرة، ليسأل بكلمات قليلة، وقبل أن يتلقى الاجابة التي أراد، أشار إلى انه سامر، عراقي من بغداد مهاجر يائس من الحياة، قذف به الحظ المنحوس خارج البلاد، ودفع به القدر المشؤوم لما بعد الاحتلال إلى أن يكون في هذه المنطقة، يتجول تائها في غابتها التي عرف كل طرقها وأحراشها والوديان من كثرة المشي التائه فيها طوال أيام.
الاطمئنان الذي لم يكن كافيا، أبقى نصفه الواعي قلقا، يتلفت يمينا وشمالاً، كمن فقد شيئا ثمينا في مشيه هذه المرة، أو تعرض لمطاردة رجال الهجرة الذين لا يقوى على التخلص من قبضتهم، إذا ما أرادوا ترحيله في الوقت الذي يشاؤون.
أخذ نفسا.
أتكأ على جذع الشجرة في جلسته.
حاول الظهور بمظهر السامع، القادر على التواصل، فلم يستمر طويلا، بعد أن شعر بتدافع الكلمات في ذاكرته المليئة بالانفعالات، فعرّج على موضوع النحس الذي رافقه، يوم مقتل عائلته ذبحا حتى وصوله هذه البلاد التي أرادها مكانا جديدا، لأحلام من نوع آخر.
بكى بدموع أنزلت دما، لا يقوى على النطق بعد دخوله نوبة شهاق.
توقف عن البكاء المصحوب بالشهاق.
أعاد التعريف بنفسه.
عدل من جلسته على جذع الشجرة، ينتظر رد الفعل أو التعريف المماثل سبيلا للدخول في كلام عساه يكون مساعدا لفض ما بالذاكرة من آلام.
وجد الجو ملائما للبوح بالمكبوت، فبدأه متسلسلا حسب تدافع الكلمات التي تحاول الخروج من دون سيطرة منه.
تذكر بداية مشواره مائدة الافطار الأخيرة التي أعدت قبل الذبح، رمضانية خاصة، صنوف متعددة، أنجزتهـا الوالدة الدكتورة سامرة لكي يكون فطورا مميزا في اليوم الذي تبقى لهم في العامرية، بعد أن تأكدت من أن إيجار البيت الصغير في منطقة الجادرية أصبح واقعا، حققه الزوج سبيلا للخروج من دوامة الخوف التي تبتلعها وباقي أفراد الأسرة ليلا وفي النهار.
الانتقال إليه متاح في صباح الغد الباكر.
أملٌ هو حقا، انتظرته ثلاثة شهور متصلة، حسبت وقعها البطيء ثلاث سنين. لا تفكر ببيتها الذي ستتركه لمن يحتله، سواء كان مُهجرا من احدى مناطق بغداد، التي أستشرى فيها التهجير.
أو مسؤول في حزب جديد نافذ أعتاد الاستحواذ على الموجود.
أو (قفاص) يتصيد في هذه الأيام التي تصلح (للقفص) بأجوائها الملبدة بالهموم.
ولا يهم إذا ما استخدم مقرا لإدارة شؤون السياسة أو أعمال الإرهاب المنظم، كأسوأ إحتمال.
لا تريد أن تَحسُب بقايا الاثاث الذي لا ينفع نقله إلى البيت الجديد خسارة. مشغولة فقط بإتمام المائدة كما أرادت أن تكون متميزة، لهذا اليوم الذي عدته وباقي أفراد الأسرة الأخير في بيتها الذي أنشأته مملكة خاصة، قد تعود إليه بعد انقشاع الغيمة المؤقتة.
تحمد الله وتشكره على تحقيق الأمل الذي أرادت.
تُكَرر مع نفسها (هذا اليوم سننام جميعا بلا أرق من خشية العيش بالعامرية، وأيامنا في الجادرية ستكون بأمان.
لن أقلق على البنات في الطريق إلى الجامعة، ولا على سامر حتى لو عاد إلى البيت بعد الساعة الثانية عشرة ليلا.
الله كم هو جميل أن تتحقق الأحلام وسط عثرات الكوابيس).
اشارة
لم تكن النية كتابة رواية، تعكس واقع بغداد في عهد الاحتلال، قبل العودة إلى يوميات اعتدت كتابتها، لغرض الإفادة منها كشواهد إثبات أضعها في كتاب جديد أخذ عنوان (حصاد العاصفة) الذي أردته مادة تعكس ذاك الواقع. وبالتدقيق في المكتوب وجدت أمامي مأساة أُسَرٍ ذبحت في العامرية والسيدية ومدينة الحرية، ووجدت تجاوزات واعمال خيانة وفساد تخطت في واقعها حدود المعقول، حاولت حشرها في مادة الكتاب فكانت مختلفة في الاسلوب. عندها توقفت، وأعدت الصياغة على شكل سرديات بصيغة روائية، تؤرخ وقائعها عيشاً مريراً لأهل بغداد بين الأعوام 2005 ــ 2007 على نحو خاص.
كان الخوف حد الرعب من الجار الذي يختلف في المذهب والقومية، والخشية حد الغثيان من السير في الأزقة والشوارع الفرعية.
هجرة من مكان، وتهجير إلى آخر، وسير في طرق ملتوية.
حيرةٌ دفعت أهل العراق إلى السير بإتجاهات متناقضة، يوقد بعضهم نارا لحرق ذاته التي تكونت منذ آلاف السنين، ويصب الآخر زيتا على النار.
آهاتٌ، هلوسات وضعتنا جميعا في دوامة التساؤل: لماذا يحدث كل هذا؟. ولماذا يقتل ذاك؟. فجاء المقتطع رواية تحت اسم جراح الغابة بُدلت فيها الأسماء فقط، لتجيب عن هذه التساؤلات، وغيرها الكثير في مجتمع لن ينقطع فيه وعنه السؤال، عشرات أخرى من السنين بسبب هول المصيبة وما جاء به الاحتلال.
سأقدمها على شكل مقاطع أو فصول بسبب عودة العزف على موضوع الطائفية من جديد، أقترح على القارئ الكريم أن لا يستعجل الحكم قبل أكتمال النص، وله فائق التقدير.
4808 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع