ذكرى استقلال العراق ٣ تشرين الاول ١٩٣٢..هكذا أنضم العراق الى عصبة الأمم المتحدة وأعلن استقلاله..
عبد الرزاق الحسني
مؤرخ راحل
تأسست عصبة الامم في اليوم الثامن والعشرين من شهر حزيران سنة 1919 (وهو التاريخ نفسه لمعاهدة فرساي، وفي المحل نفسه الذي اعلن فيهاانتصار المانيا وتأسيس الامبراطورية الالمانية في 10 مايس، وكان اقتراح الرئيس ولسن الخاص بارسال لجنة التحقيق قد صدر في 20 ايار 1919 فانتخب المستر تشارلس كراين والكولونيل هنري كينغ ممثلين في اللجنة المقترح ارسالها الى الشرق الاوسط، وحذت بريطانيا حدوها فعينت ممثليها، وترنحت فرنسا فأبدت مخاوف كثيرة من القيام بهذا العمل الذي سيكشف دون ريب عن معارضته السوريين لفرض سيطرتهم عليهم، ويؤدي ذلك الى حرمانها من غنيمتها في اتفاقية سايكس ـ بيكو السرية التي عقدت بين فرنسا وبريطانيا وروسيا ـ في 15-17 أيار 1916 وجزأت البلدان العربية الى مناطق نفوذ. اما ايطاليا فانها لم تكترث للموضوع اصلا لعدم وجود مصالح لها في هذه البلاد. والظاهر ان بريطانيا خشيت ان تلاقي هذه اللجنة في العراق ـ في حال ذهابها اليه ـ ما ستلاقيه في سوريا، فأخذت تتنصل من الاشتراك، باساليبها المعروفة، ولكن الرئيس ولسن اصر على و جوب ارسال اللجنة واقتصرت على العضوين الامريكيين، فجاءت الى حيفا ويافا في 10 حزيران واذاعت هذا البيان:
(ان الشعب الامريكي ليست له مطامع سياسية في اوربا او الشرق الادنى، ويفضل على قدر الامكان تجنب كل علاقة بالمشاكل الاوربية والاسيوية والافريقية، ويرغب باخلاص في ان يسود السلام الدائم، وانه بهذه الروح يدنو من مشاكل الشرق الادنى. لقد عين مجلس الاربعة لجنة دولية لدرس الحالة في المملكة التركية لعلاقتها بالوصايات، فغاية القسم الامريكي الموجود الآن، هي الوقوف جهد المستطاع على احوال السكان والطبقات وعلاقتهم ليكون الرئيس ولسن والشعب الامريكي على بينة من الحقائق في كل سياسة يدعى الى السير عليها فيما يتعلق بمشاكل الشرق الاوسط سواء كان ذلك في مؤتمر الصلح ام في جمعية الامم).
وشرعت اللجنة تزاول اعمالها في جو تكتنفه دسائس الانكليز والفرنسيين ورغبة العرب في التحرر من الطرفين. وبعد ان زارت 36 مدينة وتسلمت 1836 مضبطة، انهت مهمتها في 21 تموز 1919 وعادت الى باريس لتقدم تقريرها فاذا بخلاصته تقول: مهما كانت الادارة الاجنبية التي يؤتى بها الى سوريا والعراق فانه ينبغي ان لا تأتي ابدا باعتبارها دولة مستعمرة بالمفهوم القديم من كلمة الاستعمار، بل باعتبارها دولة وصية من قبل عصبة الامم، شاعرة شعورا خاصا بأن وديعتها المقدسة تفرض عليها طلب خير الشعبين: السوري والعراقي ورقيهما، فلا تصبح دعاوى الحلفاء قصاصة ورق. واقترحت ان يطبق الانتداب من نوع (أ) على سوريا والعراق على ان يكون لمدة محدودة، وان يعامل العراق كوحدة، وان تحافظ سوريا على وحدتها، اي سوريا ولبنان وفلسطين، فيكون شكل الحكومة في كلا البلدين ملكيا دستوريا، ويكون الامير فيصل بن الملك حسين ملكا على سوريا ويختار العراق مليكه بالاستفتاء، وان يسار بالقطرين سوريا والعراق نحو الاستقلال بالسرعة التي تسمح بها الاحوال، وان يعدل المنهاج الصهيوني المتطرف الموضوع لفلسطين فلا يعني جعل فلسطين دولة يهدية، لان تسعة اعشار سكان فلسطين عرب ويرفضون المنهج الصهيوني رفضا باتا. وذكرت اللجنة في تقريرها ان الرأي العام في سوريا يستنكر كل شكل من اشكال السيادة التي يتظمنها نظام الانتداب، الا انه يود ان تقدم المساعدة اليه من جانب امريكا وفي حالة رفض امريكا ذلك فتكون من جانب بريطانيا، ولكنه يرفضها من جانب فرنسا باي شكل كان ـ انتهت الخلاصة ـ
لقد بقي تقرير لجنة التحقيق، موضوعة البحث، طي الكتمان مجاراة ومجاملة لفرنسا وبريطانيا ولم تسمح بنشره الا في اوائل عام 1923م، ولم يكن له اي تأثير على القرارات التي اتخذها مؤتمر سان ريمو المنعقد في فرنسا في 24 نيسان من عام 1920 والقاضي بفرض الانتداب البريطاني على فلسطين والعراق، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، دون التقيد برغبات العراقيين والسوريين، كما تنص الفقرة الرابعة من المادة 22 من عهد عصبة الامم التي اثبتنا نصها من قبل ودون ان تراعي القربى الجغرافية (والانتداب هو اسوا ما جاءت به سياسة الحرب العظمى، اذ ماهو الا حماية مستترة على حد تعبير الاستاذ ديبوي، العضو في المجمع العلمي في باريس).
تنويع الانتداب
كانت المستعمرات الالمانية في افريقيا، والجزر الالمانية في المحيط الهادئ والممتلكات العثمانية في سوريا والعراق غنائم وافرة، وكانت فكرة توزيع اسلاب الحرب وغنائمها على الدول المنتصرة من اهم القضايا التي عالجها مجلس الحلفاء الاعلى في 24 كانون الثاني من عام 1919م. فقد (تقدم البريطانيون باقتراح ينص على انه ـ لا يجوز في اية حال من الاحوال ـ ان تعاد الى المانيا اية مستعمرة من مستعمراتها. وكان لهذه الخطوة خطرها الخارق لان المسألة لا تنطوي على مصير جماعات كاملة من الشعوب وحسب، بل يترتب عليها ان تمنح المانيا اولا تمنح صلحا مبنيا على التراضي الصحيح على نحو ما وعد به ولسن.. ولكنه وافق لويد جورج على طلب تجريد المانيا من جميع مستعمراتها.. وبهذا خطأ اول خطوة من الخطوات نحو الفشل)، فقسمت الانتدابات الى ثلاثة انواع (أ) و(ب) و(جـ) فجعلت البلدان المنسلخة من الامبراطورية العثمانية من النوع الاول، والمستعمرات الالمانية في القارة الافريقية من النوع الثاني، والجزر الالمانية في المحيط الهادئ من النوع الثالث وبني هذا التقسيم على درجة رقي الشعب ومركزه الجغرافي واقتصاده.
وفي 20 آثار من عام 1919 ايضا، اجتمع مجلس الحلفاء الاعلى في باريس في الشقة التي يقيم فيها لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا، وقد رأس الاجتماع كلمانصو رئيس وزراء فرنسا، فاشار على وزير خارجيته المسيو بيثون ان يتكلم، فعرض هذا اتفاقية سايكس ـ بيكو السرية، فذعر الرئيس الامريكي ولسن لهذه المفاجأة لانه لم يسمع من قبل بأن ما بين حلفائه مثل هذا الاتفاق، ولهذا رفض المشاركة في مثل هذه المؤامرة، ورأى ان يتنصل من تبعتها، فلما شعر الرئيسان البريطاني والفرنسي بأن الرئيس الامريكي ما يزال على شيمته، وانه سيكون حجر عثرة في اعمالها كافة، اعربا عن رغبتهما في مسايرته ومعاملته حتى يفوزا باقرار الاتفاقية السرية المذكورة (واذا نادى الريس ولسن بحقوق الامم المتحدة فما ذلك الا لان الشعوب كانت مستعبدة يسوق الاقوياء الضعفاء لخدمة منافعهم، كما يسوق الجزار مواشيه للذبح، وتطارد الجماعات القوية الجماعات الضعيفة، كما تطارد الذئاب النعاج، فتارة باسم الحرية وطورا بسم حقوق الانسان، ومرة باسم الفتح في عهد الغيت فيه الفتوحات، ومرات باسم الحماية والوصاية ولكنها جميعا أساليب ونماذج للاستعباد).
ذكرنا من قبل ان الذين وضعوا نظام الانتداب، قسموه على ثلاثة انواع هي (أ) و (ب) و (ج) وقلنا ان النوع (ب) من هذا النظام شمل المستعمرات الالمانية في القارة الافريقية، وان النوع (ج) شمل جزرها في المحيط الهادئ. وقد نصت الفقرتان الخامسة والسادسة من المادة (22) من عهد عصبة الامم على (ان تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن ادارتها) وان (تحسن ادارتها بقوانين حكومة الانتداب كما لو كانت جزءا لا يتجزأ من اراضيها) اي ان النوعين (ب) و (ج) ابقيا صفة الاستعمار على الجزر الالمانية في القارة الافريقية وفي المحيط الهادي، وان انتزاع هذا الاستعمار من المانيا الى الدول المنتصرة في الحرب.
اما الانتداب من نوع (أ) فقد ضمن للبلدان العربية المنتزعة من الامبراطورية العثمانية (الاعتراف بكيانها كامم مستقلة على ان تستمد الارشاد والمساعدة من دولة اخرى حتى يأتي الزمن الذي تصبح فيه قادرة على الوقوف بمفردها) وبعبارة افصح: ان هذه الاقطار تعد مستقلة على ان تساعدها دولة قوية وثرية حتجعلها في وضع يمكنها من ان تحكم نفسها بنفسها. اي ان نظام الانتداب نظام مؤقت من حيث شكله ونصوصه بالقياس الى النوع الاول من انواعه الثلاثة، وهو يقضي بالتطور من حالة الى حالة افضل منها، وهي حال الاستقلال التامن فلا يمكن ان يعد نظاما دائما، ولا ان يتطور مع الزمن الى حالة الاحتلال فالاستعمار، لأن مفهومه قائم على اساس رفع مستوى الشعوب التي تحت هذا النوع من الانتداب. وبعبارة اصح ان نظام الانتداب وضع لتدريب الشعوب تدريبا مؤقتا حتى تستطيع ان تقف بمفردها وتتعامل كدولة ذات سيادة في المجموعة الدولية، وعلى هذا يعد نظام الانتداب نظاما مؤقتا ينتهي ان عاجلا وان آجلا.
على ان من الاهمية بمكان ان نذكر، ان نظام الانتداب شمل المستعمرات التي انتزعت من الدول المغلوبة دون ان يشمل مستعمرات الدول الغالبة، وان ضرورته تقضي بأن تكون الدولة المنتدبة صاحبة الحق وحدها دون الشعوب المنتدب عليها، ودون عصبة الامم التي منحتها هذا الانتداب في الغاء الانتداب (وترجع ضرورة ابتداء الدولة المتندبة الى سببين اوليين:
اولا: ان الابتداء بالعمل من دونها يعد بمثابة خلع لها.
ثانيا: يجب ان لا يغرب عن بالنا ان المسؤولية فيما يختص بمناطق الانتداب تظل ملقاة على عاتق الدولة المنتدبة حتى بعد تقلص سلطتها والغاء انتدابها.
ولعل خير ما يختم به هذا الايضاح، وصف الفيلسوف الامريكي، ارنست هوكنك، وصفه لعصبة الامم وانتدابها وهذا نصه:
(دستور من ورق، وتقريرمن ورق، ولجنة تجتمع مدة تتراوح من اسبوعين الى ثلاثة اسابيع في السنة في جلسات سرية فهي على وجه التحقيق مؤسسة سخيفة رثة متداعية).
وقد تداعت فعلا في عام 1945 (لانها في الاصل لم تكن سوى حل انكليزي ـ فرنسي ـ امريكي، تحتفظ بالروح الاستعمارية القديمة تحت مسميات جديدة منمقة).
الغاء الانتداب
قلنا ان مجلس الحلفاء الاعلى كان قد اجتمع في الرابع والعشرين من شهر نيسان سنة 1920 في سان ريمو بفرنسا، وقرر فرض الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان دون أن يستشير ابناء هذه البلدان العربية في هذا الفرض، كما حتمته الفقرة الرابعة من المادة 22 من عهد عصبة الامم، ودون ان يتقيد بالوعود التي قطعها البريطانيون والفرنسيون لابناء العروبة في مراسلات الحسين ـ مكماهون ـ في بلاغاتهم وتصريحاتهم المتكررة فكان من الطبيعي ان لا توضع الشروط والالتزامات المفضية الى انهاء الانتداب.
كان العراق البلد الوحيد الذي استنكر فرض الانتداب ليه وقاومه بقوة السلاح. ولما استطاعت بريطانيا ان تقمع المقاومة بالقوة المسلحة، بقي العراقيون يحاربون النظام المذكور في صحفهم واحزابهم وفي خطبهم واحتجاجاتهم، ولما لم تجد بريطانيا مجالا للمماطلة والتسويف، اضطرت الى انهاء انتدابها على النحو الذي سنفصله الآتي، اما الانتدابات المفروضة على سوريا ولبنان وفلسطين فقد انهتها الحرب العالمية الثانية بعد ان قاتل الانكليز القوات الفرنسية في هذين البلدين.
الانتداب في العراق
حتمت الفقرة الرابعة من المادة الثانية والعشرين من عهد عصبة الامم ـ وقد اثبتنا نصها من قبل ـ على وجوب اعتبار رغبات البلاد التي سيطبق بحقها الانتداب في المقام الاول من انتقاء الدولة المنتدبة، ولكن مجلس الحلفاء الاعلى المنعقد في سان ريمو بفرنسا في الرابع والعشرين من نيسان 1920م فرض الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، دون ان يستشير الشعب العربي في هذه البلدان في انتقاء الدولة المنتدبة، ودون ان يتقيد بالوعود التي قطعتها الحكومتان البريطانية والفرنسية في بلاغهما الصادر في الثامن من تشرين الثاني من عام 1911 والقائل:
(ان الغاية التي ترمي اليها كل من بريطانيا العظمى وفرنسا في خوض غمار الحرب.. هي تحرير الشعوب التي طالما رزحت تحت اعباء استعباد الاتراك تحريرا تاما نهائيا، وتأسيس حكومات وادارات وطنية تستمد سلطتها من رغبة السكان الوطنيين انفسهم ومحض اختيارهم).
لهذا استنكر العراقيون هذه القرارات حين اذيعت في الخامس من ايار 1920 استنكارا تاما، وحملت عليه صحفهم واوساطهم حملات منكرة، واخذت مقاومتهم لكل هيمنة اجنبية تتخذ شكلا خطيرا حتى ادى الامر بهم الى اعلان ثورتهم الكبرى في الثلاثين من حزيران من هذه السنة، وكبدت البريطانيين (2269) اصابة، بين قتيل وجريح واسير ومفقود، وحملت دافع الضريبة البريطاني اربعين مليونا من الجنيهات الاسترلينية (ولم تكن هذه الحركة وليدة الشعور المرير بالعداء لبريطانيا، بل كانت ثورة في سبيل الاستقلال المسلوب ، وعلى الانتداب المفروض ظلما، اذ وجد الناس انفسهم خاضعين للحكم البريطاني ترافقه مساعدة اسمية بدلا من تمتعهم بالحكم العربي يرافقه شيء من المساعدة البريطانية
وقد قالت المس بيل السكرتيرة الشرقية لدار الاعتماد البريطاني في رسالة بعثت بها الى والدها بلندن (ان كلمة الانتداب لفظة بغيضة غير مألوفة في نظر الجمهور، وان عقد معاهدة تتم المفاوضة عليها في جو حر طليق تكون افضل بكثير منها).
وقال السير برسي كوكس، الذي اصبح مندوبا ساميا لبريطانيا على العراق:
لقد بلغ الاستياء الذي كانت تقابل به دائما فكرة الانتداب في العراق حدا فائقا حتى ان لفظتي الانتداب والدولة المنتدبة كانتا تعدان تجديفا في نظرهم، فكان من الطبيعي ان يقترح على حكومته البريطانية افراغ الانتداب في قالب معاهدة ترضي العراقيين من جهة ـ ولو بصورة ظاهرة ـ وتقنع عصبة الامم بأن بريطانيا ما تزال عند تعهداتها الانتدابية من جهة اخرى، والى هذا يشير التقرير البريطاني الخاص عن سير الادارة في العراق خلال عشر سنوات بالنص الآتي:
((وفي الوقت عينه اخذت مقاومة الجمهور العراقي لأي نوع من انواع الرقابة الخارجية تتزايد سريعا حتى اصبحت من اعظم المسائل القومية شأنا حينذاك، واثارت هذه المقاومة هيجانا خطيرا هداما في كثير من انحاء البلاد، فرأت حكومة صاحب الجلالة انه مالم تجد واسطة لمجابهته فلا مفر لها من اطال الاحتلال العسكري اطالة غير محدودة: وبعد التروي الدقيق قر قرارها ان من الافضل تحديد موقفها الحقوقي في العراق ليس في شكل انتدابي مألوف كما كان قد اقترح مبدئيا، بل بشكل معاهدة تعقد بين حكومة صاحب الجلالة والحكومة العراقية على ان ترضي شروطها العصبة، وتقنعها بأن حكومة صاحب الجلالة مازالت في الحقيقة في وضع تستطيع معه القيام بعهودها الانتدابية فلقد كان في نية الحكومة البريطانية ليس احلال معاهدة محل الانتداب، بل بالاحرى تحديد الانتداب وصوغه بشكل معاهدة.
ولعل خير من يوجز هذه الفكرة الاستاذ كوينسي رايت في مقال له نشره في مجلة العلوم السياسية الامريكية الصادرة في تشرين الثاني1926 ص34 وهذا نصه:
لما وجدت بريطانيا ان كلمة الانتداب يكرهها العرب لانها وضعت ايضا على العشائر الهمجية في افريقيا، وعلى الانتداب الفرنسي على سوريا، وبالنسبة للعهود المنقوصة فيما يتعلق بانشاء وحدة عربية ايضا، فقد وجد البريطانيون ان يعترفوا بحكومة فيصل التي بها تنتهي العلاقات الانتدابية.. وبذلك صار لبريطانيا العظمى موقف مهم بحيث كان لها الانتداب على العراق في نظر جمعية الامم، ولا انتداب لها بنظر اهل العراق ـ انتهى ـ
كيفية التحرر من الانتداب؟
ولا بد ان نثبت هنا حقيقة لا مناص من اثباتها، وهي ان استنكار الانتداب البريطاني في العراق لم يقتصر على العراقيين حسب، فقد عارضته بعض الشخصيات البريطانية. عارضته امريكا بعد ان رأت ان الشروط التي وضعها الرئيس ولسن عند اقراره نظرية الرئيس البويري سمطس الخاصة بنظام الانتداب، تختلف اختلافا كبيرا عن النهج الذي اتبعه مجلس الحلفاء الاعلى عند فرضه الانتداب على البلدان التي انسلخت من الامبراطورية العثمانية، فمنحت بريطانيا الشركات الامريكية حصصا في شركة نفط العراق فلم يكن امام حكومتها الا ان تسكت فسكتت. وعارضته بعض الشخصيات البريطانية المرموقة بزعم ان بقاء بريطانيا في العراق يكلف دافع الضريبة البريطاني نفقات لا قبل لها بها فاتهمت الحكومة البريطانية هذه الشخصيات بأن تحت ارض العراق بحيرة هائلة من النفط هي عدة الاسطول البريطاني في البحر، ومعين الشركات البريطانية الذي لا ينفد.
اما بالنسبة الى معارضة العراقيين لنظام الانتداب، وللهيمنة الاجنبية فانها بعد ان اخمدت ثورتهم الجبارة بالنار والحديد، اهتبلت فرصة قضاء الفرنسيين على الدولة الفيصلية التي قامت في الشام، واجلت الملك فيصل عن الاراضي السورية المشمولة بالانتداب الفرنسي، فاستدعت فيصلا الى لندن، وتفاهمت معه على اقامة دولة عربية في العراق تحت رئاسته: وحيث ان العراق وضع تحت انتدابها فهي مستعدة لعقد معاهدة تحل محل الانتداب، وان يسار بحكومته قدما حتى انخراطه في عضوية عصبة الامم فتنتهي علاقاتها الانتدابية في العراق على صورة رسمية ولهذا بحث خاص.ويقول القانوني البارع نيجل داودسن في ص7 من رسالته «العراق او الدولة الجديدة».
((ان الدولة المنتدبة لم تكن تستطيع الوفاء بالالتزامات الانتدابية المترتبة عليها لعصبة الامم، ولا ان تجعل مصالحها المالية في العراق في مأمن مالم يكن في يدها مقدار ما من الهيمنة، وكان السبيل المفضي الى التسوية ان يحول الانتداب الى معاهدة، وهذا ما وقع بالحقيقة فحولت الهيمنة البريطانية المفروضة على دولة العراق، بحكم نصوص الانتداب، الى عدة التزامات بشكل معاهدة قبلها الشريك الاصغر بشكل محالفة.. وبدلا من ان يفرض الفريق القوي قيوده فرضا ويمليها املاء على الفريق الاضعف المتمثل بهيئة حكومة راضخة له، اصبحت القيود التي يقيد بها استقلال العراق التام تشبه على صورة ما قسما من مساومة دائرة بين الدولتين بحيث كان نصيب العراق، والامر من قبيل مبادلة شيء بشيء، ان ينال المساعدة والمعاونة من حليفه الكبير. وفي الوقت نفسه ظل مقدار الهيمنة الذي احتفظت به بريطانيا العظمى تحت شروط المعاهدة كافيا ليمكنها من رعاية المسؤولية الانتدابية المطلوبة لعصبة الامم)).
كانت الحكومة البريطانية قد افرغت انتدابها على العراق في قالب معاهدة مدتها عشرون سنة فاستثقل العراقيون موادها، كما استكثروا مدتها، فلما جرت انتخابات حزب العمال في عام 1922، حملت الصحافة البريطانية حملات شديدة على فداحة الضرائب على البريطانيين، وطالبت بالانسحاب من العراق، مما حمل بريطانيا على ان توقع في الثلاثين من نيسان 1923 بروتوكولا انقصت مدة المعاهدة المذكورة بموجبه من عشرين حجة الى اربع حجج، فلما اوفدت عصبة الامم لجنة الحدود الى العراق في عام 1925 لدرس النزاع الناشب حول عائدية الموصل، وهل تلحق بالعراق كجزء منه لا يقبل التجزئة، ام تلحق بتركية على اساس ان الانكليز لم يحتلها حربا وانما شغلوها شغلا عسكريا، ارتأت اللجنة ان تبقى الولاية المتنازع عليها للعراق بشرط ان يبقى تحت الانتداب البريطاني لمدة 25 سنة، وهكذا مدد اجل المعاهدة البريطانية المعقودة في عام 1922، والتي كانت مدتها عشرين سنة ثم انزلت هذه المدة الى اربع سنوات، ولكن رغبة العراق في التحرر من هذه المعاهدة بالانخراط في عضوية الامم كانت تشتد بين يوم وآخر مما حمل بريطانيا على الرضوخ لرغبة العراقيين فوضعت معاهدة 30 حزيران 1930 على ان لا توضع موضع التنفيذ الا بعد دخول العراق عصبة الامم لان دخول العراق عضوا في عصبة الامم يحرره من كل قيد انتدابي بصورة رسمية.
م. العرفان لسنة 1955(عدد خاص بالعراق)
المصدر/ المدى
874 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع