يهود العراق - ذكريات وشجون الحلقة (37) من ذكريات الوالد في بعض مذكراته المدونة
ألم اقل في قصيدة الحنين التي تداولتها بعض الجرائد الالكترونية: "العراق يلاحقني / قدرا، أين منه مهربي؟"
كنت اقلب أوراقا قديمة باحثا عن رسائل كتبت باللغة العربية، أي في بداية مغادرتنا للعراق، تتحدث عن آلام الفراق وصعوبة التأقلم والوفاق مع المجتمع الجديد، ولكنني عثرت بدلا منها على أوراق كتبت باللغة العبرية، يخط اعرفه جيدا. هو خط والدي، ودفعني الفضول إلى قراءتها، وإذا بي قد وقعت بما كنت أحاذره، وهو العودة إلى ذكريات العراق، الذي يلاحقني "وين ما انداح"، حذر الشاعر الطرماح، من المرور بدار حبيبته عاتكة، لكي لا يكشف سر غرامه بها، ولكنه باح بحبه في قصيدة فضحته، رغم حذره:
يـا دار عـاتـكـة الـذي أتعزل حـذر الـعدى وبـك الـفـؤاد موكـل
إني لأمنحك الصدود، وإنني قسـما لعمرك، في الصدود لأميل
وبالرغم من أن المذكرات كتبت بأسلوب من لم يتمكن صاحبه بعد من ناصية اللغة، فقد كانت تفيض بالحنين وآلام الفراق لأصدقاء أعزاء وأيام مضت ولن تعود. تحدث الوالد فيها عن شرف الكلمة عن كبار الضباط العراقيين، والاحترام الذي عاملوه به في معاملاتهم معه بالرغم من حذره من أن يكشفوا هويته اليهودية وخاصة لان جميع أفراد العائلة كانوا قد غادروا العراق. روى الوالد في هذه المذكرات كيف انه بعد ثمان وعشرين سنة من عمله محاسبا في شركة انكليزية في بغداد، أغلقت أبوابها. فالأجانب ينهبون خيرات البلاد، وشقاء العباد، فمن الأولى طردهم، وإن كنا نقصر عن نشاطهم وأرباحهم، ثم كيف انه أخذ يتاجر بالأراضي، وكيف اشترى قطعة ارض في أفضل المناطق في بغداد الجديدة محاذية لجادة عريضة ذات مسارين، بينهما حديقة غناء بموازاة لجادة يبلغ عرضها 120 مترا، وقطعة الأرض هذه تطل على نهر امتد عليه جسر جميل كجناح طائر سحري يطل على غابات النخيل التي "راح ينأى عنها القمر". وقد كان الوالد في اشد الرغبة لبناء فيللا له ولأبنائه ولكن بعد هجرتنا إلى إسرائيل عافت نفسه بناء دار فخمة كانت ستبقى خالية من "الولف والأحباب"، كان هذا كما يقول، حلمه الجميل، ولكنه تلاشى وضاع مع الكثير مما ضاع لمعظمنا في العراق بالحروب والانقلابات. ثم يضيف قائلا: بقيت مترددا، هل أبيع حلم العمر أو أبقيه لي لكي يبقي عليّ، وإذا أبقيته فلمن؟ وبينما أنا أعاين قطعة ارضي الحبيبة في ارض بغداد الجديدة، والعواطف تتناهشني، اقبل ضابط برتبة لواء، عرفت فيما بعد بأنه آمر معسكر الرشيد، كان قد مر مرور القدر قرب أرضي. سأل لمن تعود هذه المساحة من الأرض الجميلة في موقعها الممتاز، وهل هي للبيع، وتعجب كيف أن قطعة ارض في أجمل بقاع بغداد كهذه، بقيت شاغرة ولم يبن احدهم داره هناك، وسأل لمن تعود. فلما سمعت ما قال، وسوس الشيطان في صدري، وتساءلت في نفسي ما لهذا الضابط الكبير، وليهودي بغدادي وتاجر صغير، وخشيت أن يكون قد علم أن لي أولادا في إسرائيل، ولكني فكرت وقلت في نفسي إن ضابطا كبيرا مثله لو كان يشك في أمري لأرسل الشرطة لإلقاء القبض علي ولما أتى بنفسه لمقابلتي، قال بعض معارفي للضابط الكبير، إن قطعة الأرض هذه تعود إلى إبراهيم أبو جاك. شاء القدر أن أكون هناك في تلك الساعة المباركة، فقدمت نفسي إليه وقلت:
- أنا أبو جاك.
- هل أنت مالك هذه الأرض؟
أدركت من سؤاله أن نيته صافية، هي نية تجارية وليست نية سياسية. قلت له:
- الأرض ملكي
قال بود آسر وهو يبتسم:
- سمعت انك من تجار الأراضي، هل لك في بيعها لي؟
- بكل سرور، أبيعها لك ولا أبيعها لغيرك!
- وما ثمنها؟
- في الشهر الماضي طلبت خمسة آلاف دينار، وسوف لا اطلب منك أكثر من ذلك. سأبيعها لك بنفس سعر الشهر الماضي بالرغم من ارتفاع الأسعار الحالي.
وقلت لنفسي، ولماذا لا أبيعها، فمثل هذا الضابط وبرتبة لواء، لو أراد بي الشرّ لكان باستطاعته اغتصابها مني بأية تهمة تخطر على البال ِ، "وأنا يهودي وما له والي".
- إذن يا عمي، تعال إلى معسكر الرشيد، واخبر العسكري الخفير في بوابة المعسكر بمخابرتي لإبلاغي بقدومك إلي، وسأرسل مسئولا لمرافقتك إلى مكتبي.
أخذت معي أحد دلالي الأراضي المسلمين احتراسا ولتسهيل أمر دخول المعسكر، فلو ذهبت وحدي لكنت "يهوديا ودخـّل راسه بين فكي أسد هصور، لو اتهموك يا رجل بتهايم، اشلون راح يا با تتخلص؟ أرسل سيادة اللواء مرافقا ليأخذني إلى مكتبه. دخلنا إلى المكتب الفخم، وعجبت كيف وقف احتراما لخواجا، واستقبلني بالترحاب وطلب قهوة للسيدين بالعجل، وقال بتواضع مذهل:
- يا عمي، إذا كنت تريد بيع أرضك، فانا اشتريها عن طيب خاطر، أما إذا كنت تريد أن تبني عليها دارك فلن أجبرك على بيعها!
- يا سيادة الضابط، الأرض أرضك، وشايف الخير، إنشاء الله.
وعندها اخرج من جيبه صكا بمبلغ خمسة آلاف دينار، وطلب أن نسجل الأرض على اسمه، وهكذا تمت هذه الصفقة المباركة بمثل هذه السهولة، وبسرعة البرق، في حين كانت المعاملات مع الدلالين والتجار الآخرين تتم "بعد.مماحكة ومساومة أتطلع الروح"، واليوم أقول لنفسي، أين ذهب مثل هؤلاء الرجال الشرفاء الذين أصبحوا اليوم أندر من الكبريت الأحمر؟ ويا رجال العرب الأوفياء، حياكم الله، أحياء وأمواتا!
كنت آنذاك قد بعت قطعة ارض أخرى بنفس المبلغ ولذلك استطعت في نفس اليوم أن أرسل المبلغين معا مع صديق مسلم لإيداعه في بنك على اسمي في لندن.
جفاني النوم تلك الليلة. "وفرق السهد بين جفني والوسن"، قلت لنفسي، ما ذا سيحدث لو أن احدهم وشى بي باني اهرب أموالي إلى الخارج، عند ذلك من سينقذني وأنا وحيد في بغداد. وفي اليوم التالي، وأنا في اشد الخوف من وشاية أو تهمة، ذهبت إلى سيدة مسلمة كنت قد بعت لها قطعة أرض قبل عدة أشهر، وطلبت منها أن لا تقول إذا ما سألوها بأنها اشترت أرضا مني. قلت لها ذلك، خشية أن تعلم السلطات المختصة بالمبالغ التي أودعتها في حساب البنك في لندن. فهمت هذه السيدة الفاضلة بأني يهودي أخشي الوشاية. نظرت إلي مليا ثم انفجرت باكية تنتحب وهي تضرب صدرها. قلت لنفسي وقد أصابني الهلع: "والله يام حسين، كنا ابوحدة صرنا باثنين! هاي مين وآني منين، وهل البلوة كانت وين!" وبعد ما هدأ روعها، سألتها: ليش تبجين، دادا، ما ذا جرى، ليش أشكلنا لج يا عيوني؟ قالت وهي تتجلد وتكفكف دموعها: يا عيني يابن عمي، شا أكلك، كان عندي صديق يهودي، حليو مثل الكمر، أيموت عليا، حاططني ابطن عينه وأحبه، وآني انجبرت بيه، واطمست أبغرامه إلى أذني، ولما رأيتك تذكرته، وفجأة، يا بويه، اختفى، كأن الأرض ابتلعته. ثم علمت من بعض الأصدقاء بأنه هرب إلى إسرائيل، بعد أن سمع بأنهم لفقوا ضده تهمة ما انزل الله بها من سلطان، وخشي على نفسه. ثم جاءني هؤلاء الأوغاد بعد طول الغياب، وقالوا لي إنهم "سوواها المكسورة ويايا"، نكاية بي لأني عشقت يهوديا وعاشرته وأضافوا لكي يغيظوني، خاطر يشوون على قلبي بصل، الله يحرق أفادهم:
ترى رفيجك اليهودي الگواد، شلـّع الفلسطين، عند ربعه اليهود الگواويد، أتزوج على راسك، واخذله بربوكه يهودية شقرا، حلوه اتكلا الكمر قوم وآني اكعد أبمكانك. أدركت بأنهم يريدون إغاظتي، وقلت لنفسي، والكاظمين الغيظ، وغنيت لهم، على عنادهم، وقلت، زين روحوا گولوله:
الله وياك ، روح أتهنا بحبك الله ويـاك ، لا تــذكـر حـبـي
أخـاف يـنجــــــرح قـلـبـك ! ترى هل بلوه كتبها عليْ ربك
(بتعليق: هذه ترجمتي العربية الحرفية لما كتبه الوالد باللغة العبرية، سألت الكثير من الأصدقاء هنا فيما إذا كانوا يتذكرون كلمات هذه الأغنية، فلم يسعفني احد فاستنجد ت بالصديق العلامة الدكتور مجيد القيسي، وهو الأديب والشاعر القدير، وخير منجد في مثل هذه الملمات في إنقاذ تراث العراق العلمي والتاريخي والفلكلوري، قال لي بأنه يفتقد أخاه المرحوم قاسم القيسي، تغمده الله برحمته الواسعة، ويضيف: "لقد خسرت شقيقي ألأصغر قاسم في مثل هذه المناسبات حين كنت بحاجة لأن أستفسر عن مقام أو أغنية ، لكن الله توفاه قبل سنتين . فقد كان قارئ مقام من الطراز الأول ويتحدث اللهجة اليهودية بطلاقة كأي شبلاوي". وقد اقترح علي الدكتور القيسي حفظه الله، تعديل ميزان الأغنية على النحو التالي، مشكورا:
ألله وياكْ ، روحْ إتـهنَّا بحبابـكْ ألله وْياكْ ، لا تتذكرْ أصحابكْ
روحْ ابتعدْ يبرا من الجرحْ گلبـكْ ألله وْيـاكْ ، كاتبها علَيْ رَبَّكْ
واتمنى ان يكتب لنا الابيات الاصلية كل من يحفظها من القراء الكرام، أو لعل عاشقة اليهودي البغدادي قد ارتجلتها في ساعة وجد وهيام، والله أعلم.)
وهاجت الغيرة عليّ عند أحدهم، وقال: هاي المرا خطية، أشو طلعت مجنونة اليهودي، وغلبت مجنون ليلى وحطته بتسعة كاصر، هذاك سب كلمن يشارك ليلى ويّاه، ودعا عليهم بالموت وقال:
إن يشركوني في ليلاي فلا رددت جبال نجد صوتا لهم ولا البيد
وهاي اتكله، "لا تذكر حبي، أخاف ينجرح قلبك، الله واكبر يا مسلمين، خلوها يا ناس ابدردها، شلكم بيها، يالله روحوا ولــّوا ، دشروها عاد، خطيّة، الله ميقبلها." لكن يا عمي، تريد الصاغ، كلت أبقى أبعذابي ولا أشوفه متعذب بالسجن من كذبهم، هل أولاد الحرام!" أخذت أواسيها، والحزين للحزين نسيب. وعلمت أن مثل هذه السيدة الجليلة الوفية سوف لا تشي بي احتراما لذكرى حبيبها الغائب، وإذا ما مدت لي يد المساعدة فلن تصاب بسوء."
سرت رعشة في فؤادي وأنا اقرأ ذكريات الحنين التي كتبها والدي، أليس هذا ما يقوله لي بعض العراقيين اليوم، أليس هذا ما أقوله للعراق: "لا تذكرني، أخاف ينجرح قلبك!"، لقد فات الأوان وقلبي جريح بحبك يا عراقنا الحبيب، ولم تندمل ولن تندمل الجراح، يا نور عيني يا عراق! "أكلـّما التأم جرح، جد بالتذكار جرح، فكيف لي أن أتعلم كيف انسي، وكيف لي أن أتعلم كيف امحو؟"
واصلت المذكرات القول، وبعد مرور بضعة أيام على هذا اللقاء الغريب، قلت لنفسي، ما لي أعيش هكذا في خطر دائم وفي خوف داهم من تهمة أو وشاية، أو اعتداء أو خيانة؟ ورحلت إلى إيران، ملاذ الخائفين من السلطات العراقية آنذاك، وبقيت فيها سنتين، حاولت فيها تعاطي التجارة فلم يحالفني الحظ، ثم قررت العودة إلى بلدي المحبوب العراق، فقد مللت من كل "غريب الوجه واليد واللسان"، فإذا بالسلطة في العراق تنقلب، رأسا على عقب، ويغتال الانقلابيون الخونة، سيدهم المرحوم عبد الكريم قاسم، أبو المساكين، غيلة، بصورة غادرة شنيعة، وانقلب الحكم ولم يعد لي أصدقاء يمكنني الاعتماد عليهم، وأطمئن إلى حمايتهم، وضاع الأمل وقرب الأجل، ولم يبق من أملاكي الكثير، وانعدم ذلك العيش الوفير، فشددت الرحال، إلى حيث هاجر الأولاد الزغب الصغار وقد بلغوا مبلغ الرجال، وقلت لعل هناك التقي بالأحباب وأريح نفسي بعد طول العذاب، واتعاطى تجارة الأراضي، وربنا الكريم يعوض ما فقدناه ويراضي، ويعيد لي نعيم بغداد، رغم البعاد. أخذني دلال الأراضي إلى قطعة ارض واسعة، على جبل سامق، قرب فندق "هوليلاند"، تطل على أورشليم- القدس والكنيست (البرلمان الإسرائيلي) بجلالها ونورها، بوديانها وشوارعها، وقررت بناء دار واسعة هناك، لعلي أبدل أوطانا بأوطان، وأبني لي قصرا كالذي حلمت ببنائه في بغداد، ولكن هيهات، أنت تبني قصور الاماني، والواقع يخربها، إذ غابت عني أسرار القوانين في هذا البلد الجديد، والقوانين في الوطن العتيد، عزيزة، قوية لا تلين، بل كالحديد، وهل سمعتم ببلد تنقل ملكية الأرض على اسم المالك الجديد ولا يمسح له ببناء بيته الذي يحلم به ويريد، بقيت على هذا الحال مدة عشر سنين والضريبة على الأراضي تزداد، وهم في عناد، يبتكرون الأعذار، دون أن يقر رأيهم على قرار، لذلك قررت بيعها، وإهداء ثمنها وريعها، إلى مستشفى شعري تصيدق (وترجمتها المقابلة للمفردات العربية: تغور الصدق، أي بوابات الحق)، وبقيت بين حانة ومانة، لا قصر لي لا في بغداد، ولا في روابي القدس، أعاني فيها من البعاد. تبرعت بالمال للمستشفى، وأطلقوا اسمي على قاعة الانتظار في قسم العيون الجديد، على لوحة فضية ضاحكة الجبين، يكاد أن يكون الاسم الشرقي الوحيد، بين آلاف الأسماء الأوربية الرنين، فالإنسان عند الشرقيين هو وديعة بيد رب العالمين، وهو الراعي الأمين، ولذلك فمن الأولى عند الشرقيين، بناء المساجد والكنس والكنائس له، قربي لله واحتسابا لجنات يكونون فيها خالدين. ومع ذلك فأبنائي المثقفون، ما زالوا علي غاضبين، قائلين، إننا أولى بها، فنحن من ذوي القربى، كيف تجعلنا من الخاسرين؟ ولكن بلدهم الأمين فتح أمامهم أبواب العلوم ، والعلم نور، يضئ لهم الطريق أينما ذهبوا، والمال هو حطام الدنيا، بسرعة يزول، ولله در القائل: "وفي هذا الزمان مسيح علم // يرد على بني الأمم الشبابا."
انتهيت من قراءة المذكرات التي كتبها الوالد يوم 14. 9. 1987 وكان مع الوالدة قد دأبا على تسجيل يومياتهما في دفاتر عديدة، تفرقت بين الأخوات والإخوة بعد وفاتهما، وكانا يقولان لي، آمل أن تستطيع نشرهما في يوم من الأيام، ولكن الأيام تتوالى بسرعة مخيفة، ولا وقت لي لمطالعة أوراق عتيقة، تحتوي كنوزا من الذكريات، كتبت في المرحلة الأولى باللغة العربية البليغة، ثم انتقلت إلى لغة عبرية ركيكة، أملا في أن يقرأها الأحفاد، ليطلعوا على ما كانوا عليه من أمجاد، في عراق الخمسينات، حين كانت بغداد بلد الرشيد ومنارة المجد التليد، والآن بعد أن أخذ عدد من يستطيع اليوم قراءة اللغة العربية من الجيل القديم، يتناقص بل ويتلاشى، والجيل الجديد يهتم باللغات الأوربية، هل سيستطيع الأحفاد قراءة ما أكتبه اليوم باللغة العربية؟ وفي الأيام السعيدة في العراق، حين كانت جميع الطوائف في العراق تغني بحماس وإخلاص مع أبناء أخي مراد في باريس، ليطفئ نار الحنين:
"عليك مني السلام، يا أرض أجدادي، وفيك طاب المقام وطاب إنشادي"
لم يبق من العراقيين من يغنـّيها على ما أعلم، من يوم مصرع الزعيم عبد الكريم قاسم وإلى اليوم، سوايا وسوى مراد أخي وعائلته، وخاصة ابنته الطبيبة إليئور موريه، عندما تحاول التودد إلى المرضى من المتكلمين باللغة العربية، لإزالة حاجز العلاقات الرسمية والرهبة التي يشعر بها المرضى عند زيارة الطبيب، وذلك في أروقة مستشفى هاداسا في روابي القدس قرب الأرض التي باعها الوالد، لتثبت للمرضى بأنها وإن ولدت ودرست في باريس، فإنها تستطيع التكلم باللغة العربية، فتعلوا الابتسامة الشفاه الذابلة ويعود البريق الخامد إلى العيون الوجلة، وتصبح لديهم كأحد أفراد العائلة، يفتحون لها قلوبهم، وهمومهم، وخاصة المرضى العرب، إذ يشعرون بالرغم من لهجتها العراقية، أنهم في دارهم وبرعاية ابنتهم، ويطلب المرضى بين النساء العربيات واليهوديات من البلاد العربية معرفة سر عطفها عليهم، فتقول لهم إنها مثل والدها تحب اللغة العربية وتحب العراق، وتغني له شوقا، وتطلب منهم أن يكملوا الأبيات التي تظن بعض النساء العربيات أنها من نشيد وطني فلسطيني، فتصر الطبيبة الشابة، بثقة العارف الخبير، على انه نشيد يهودي يغنيه يهود العراق فقط في مهاجرهم، قائلة، كنا نغنـّي هذا النشيد مع غيره من أناشيد الأطفال العراقيين، مع الوالد في باريس، فهو يقول لنا إن "أرض أجدادي هي العراق" (والصواب أن النشيد هو من نظم الشاعر اللبناني فؤاد البعلبكي)، ثم تنشـد تكملة الأبيات، بفخر:
اهوي عيون العسل، اهوي سواقيها ذابت كدمع المقل في أرض أجدادي
وإني لأتساءل، هل هناك من بين العراقيين اليوم، من كل ملة ودين، من المهجرين والمقيمين، من يغني هذا النشيد في مهجره ووطنه، وبمثل حماس أخي مراد وأبنائه؟ أرجو ممن يتذكر هذا النشيد، ويبكي عند إنشاده مثلنا، أن يكتب إلي عبر ردود القراء وتعليقاتهم، بنزاهة وصدق وأدب، وله جزيل الشكر، وعند ذلك سأعلم فيما إذا كان مستقبل العراق بخير، أسأل الله تعالى أن يعود إليها الخير.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/43597-2020-03-15-09-13-29.html
1069 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع