د. أسامة شكر محمد أمين*
كنوز العراق السومرية المفقودة: إعادة اكتشاف وتوثيق
لطالما شدّني مفهوم الخلود، خاصةً في سياق ملحمة جلجامش، التي تذكّرنا بحقيقة أن الخلود الجسدي عصيٌّ على البشر. ومع ذلك، فإن الروح الإنسانية وإبداعاتها قادرة على تجاوز الزمن، لتبلغ أبعادًا خالدة في الذاكرة البشرية. عقب الحرب العالمية الأولى (1914–1918)، تأسست الدولة العراقية الحديثة ضمن حدودها الجغرافية الراهنة، لترث حضارة بلاد ما بين النهرين، تلك الأرض التي احتضنت آلاف السنين من الصراع والازدهار قبل أن تلبس ثوب الدولة الوطنية. منذ منتصف القرن التاسع عشر، شكّلت بلاد الرافدين ميدانًا مفضّلًا لعلماء الآثار المتعطشين لاكتشاف جذور الحضارة. ومع تعاقب المواسم التنقيبية، بدأت الأرض العراقية تُفرج عن كنوزها الدفينة، التي لم تكن مجرد شواهد أثرية، بل رسائل حيّة تعكس عقائد الأجداد، ونُظمهم اليومية، وصراعاتهم، وطموحاتهم.
تداعيات النهب وإعادة الاكتشاف
أثارت الفاجعة المأساوية، أو "الكوميديا السوداء" كما يمكن وصفها، لنهب المتحف العراقي في بغداد بعد سقوط نظام صدام حسين في أبريل 2003، احتجاجًا دوليًا واسعًا. هذا التراث الرافديني، في رأيي، لا يخص العراق وحده بمعناه الضيق. إنه إرثٌ للبشرية جمعاء، وعلينا جميعًا، بغض النظر عن جنسيتنا أو عرقنا، التزامٌ بالحفاظ عليه ونقله للأجيال القادمة.
كان المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو (تغير الاسم لاحقا الى "معهد دراسة الثقافات القديمة، غرب آسيا وشمال أفريقيا") في الولايات المتحدة الأمريكية السبّاق في اتخاذ مبادرة بارزة لتنبيه العالم إلى هذه الكارثة التي حلت بمقتنيات المتحف العراقي. في 15 أبريل 2003، وبعد أيام قليلة من النهب، أنشأ المعهد صفحة إلكترونية مخصصة لإرسال رسالة عالمية حول القطع الأثرية المفقودة أو المسروقة أو "ذات الحالة غير المعروفة". كما أطلقوا "قائمة بريدية" جماعية تحت اسم "الأزمة العراقية" لمتابعة القطع المفقودة. ومع ذلك، فإن آخر تحديث لهذه الصفحة كان في 10 أبريل 2008.
أرسل المعهد الشرقي فرقًا تنقيبية وأثرية عديدة إلى العراق في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، نقبت في مدن مختلفة، كخفاجة وتل أسمر السومريتان (في محافظة ديالى الحالية). أسفرت مواسم الحفريات والاكتشافات العلمية المطولة عن مجموعة لا تُحصى من القطع الأثرية الرافدينية الثمينة، بالإضافة إلى بقايا مدن ومعابد. على سبيل المثال، خضعت خفاجة لسبعة مواسم من التنقيب، بينما أمضيت ستة مواسم في تل أسمر. تقع كلتا المدينتين السومريتين (والأكديتان لاحقًا) فيما يُعرف بوادي ديالى، شمال غرب سومر وشرق بغداد الحديثة. انضمت جامعة بنسلفانيا والمدارس الأمريكية للأبحاث الشرقية إلى العمل خلال بعض المواسم. نشر المعهد الشرقي العديد من التقارير الأولية والنهائية التفصيلية، بالإضافة إلى تقارير منفصلة حول تقدم ونتائج أعماله. بعد ما يقرب من تسعة عقود، لا يزال العديد من العلماء يدرسون وينشرون نتائجهم واستنتاجاتهم حول تلك القطع الأثرية التي عثر عليها المعهد الشرقي.
رحلة شخصية نحو الكنوز المكتشفة
بدأت القصة بالنسبة لي خلال أعمال التجديد الواسعة النطاق التي خضع لها متحف السليمانية منذ أوائل أكتوبر 2018، حيث تم تخصيص قاعة كبيرة من المتحف لإنشاء معرض دائمي لعرض قطع أثرية تعود إلى عصور ما قبل التاريخ في بلاد ما بين النهرين. أثناء إفراغ خزائن العرض القديمة وتعبئة محتوياتها للتخزين المؤقت، سنحت لي الفرصة بفحص العديد من القطع الأثرية عن كثب، دون حواجز، وحملها، والتقاط مئات الصور. أتاح لي ذلك رؤية تفاصيل غير مرئية سابقًا، مثل الأجزاء الخلفية والسفلية والجوانب، وتحديد الكلمات والأرقام المكتوبة بالحبر والقلم على سطح القطع.
لفت انتباهي رَقَم على إحدى القطع الأثرية الذي يتكون من حرفين صغيرين مع أرقام باللغة الانكليزية وهو "Kh. IV 288". الرقم "IV" لم يكن واضحًا تمامًا وبدا كـ "TV" بسبب تغطية جزء منه بنوع قديم من الغراء.لم يتم ذكر "المعثر" في شرح القطعة (الموجود بجانبها). دفعني هذا إلى سؤال صديقي العزيز هاشم حمه عبد الله (مدير متحف السليمانية آنذاك ومدير دائرة اثار وتراث السليمانية حاليا) عن مصدر هذه التماثيل. اقترح هاشم مراجعة الأرشيفات.
بفضل هاشم، تمكنت من الوصول إلى أرشيف التماثيل. بحثنا على نطاق واسع، ولكن المعلومات كانت شحيحة. اقترح هاشم أن الحرفين "Kh" يشيران إلى موقع التنقيب. كان هذا مفتاح الحل. بحثت مكثفًا على الشبكة العنكبوتية ووجدت أن "Kh" تعود إلى موقع خفاجة وأن المعهد الشرقي في شيكاغو هو من أجرى التنقيب هناك في ثلاثينيات القرن العشرين (يشير الرقم "IV" إلى الموسم الرابع للتنقيبات). عند قراءتي لتقاريرهم، المتاحة مجانًا بصيغة المستندات المنقولة (PDF) على موقعهم، اكتشفت أن العديد من القطع الأثرية الموجودة حاليًا في متحف السليمانية قد تم التنقيب عنها من قبلهم؛ على سبيل المثال، مجموعة من 8 تماثيل لنساء عاريات من نيبور (في جنوب العراق) معروضة حاليًا في خزانة واحدة. كانت الخطوة التالية هي التحقق من صفحة "الكنوز المفقودة من العراق" على موقع المعهد الشرقي في شيكاغو، حيث وجدت ان العديد من القطع الأثرية مصنفة على أنها " في حالة غير معروفة". صور للقطع الاثرية (بالأبيض والأسود) على موقعهم مأخوذة من كتاب "منحوتات الألفية الثالثة قبل الميلاد من تل أسمر وخفاجة" لهنري فرانكفورت، المنشور عام 1939.
افتتح متحف السليمانية في 14 يوليو 1961. وفي الفترة من 2 إلى 4 أكتوبر 1961، تسلم المتحف 602 قطعة أثرية من المتحف العراقي في بغداد كإعارة دائمة. ومع مرور السنوات، أضيفت قطع أخرى تدريجيًا إلى المجموعة. يُعد متحف السليمانية حاليًا ثاني أكبر متحف أثري في العراق (بعد المتحف العراقي في بغداد) وأكبر متحف في كردستان العراق من حيث محتواه وقدرته الاستيعابية. لقد اخترت هنا أربع قطع لتسليط الضوء عليها:
• جميع هذه القطع الأثرية كانت جزءًا من تلك الإعارة الدائمة في أكتوبر 1961.
• تحمل جميعها رقم اقتناء/تخزين من المتحف العراقي (تبدأ بالرمز IM، إشارة الى المتحف العراقي باللغة الانكليزية)، بالإضافة إلى أرقام أخرى (سأذكرها بالتفصيل لاحقًا).
• جميعها معروضة حاليًا في متحف السليمانية؛ اثنان منها في قاعة "تاريخ الكتابة"، والاثنان الآخران في خزانة عرض عصر فجر السلالات (2900–2350 قبل الميلاد) في قاعة أخرى.
• سجلاتها تذكر وصفًا عامًا موجزًا للقطعة باللغة العربية (سطحيا وأقل من سطر واحد)، وربما مادتها وعصرها (بشكل عام)، دون ذكر أي قياسات (للأبعاد أو الوزن) أو المعثر (مكان التنقيب والاكتشاف).
• التقطتُ الصور أدناه في 3 ديسمبر 2018، بين الساعة 10:00 و 11:00 صباحًا، أثناء تعبئة القطع الأثرية للتخزين، باستخدام كاميرا نيكون. لم يكن لدي وقت كافٍ لإعداد إضاءة جيدة وبيئة مناسبة، لذا اضطررتُ للتصوير فورًا!
تحقيقات مفصلة حول قطع أثرية مختارة
أولا. رأس وتمثال لمتعبدة سومرية:
تمثال صغير لامرأة سومرية في وضع تعبدي، يعود إلى عصر فجر السلالات، حوالي 2400 قبل الميلاد، اكتُشف في خفاجة، محافظة ديالى، ويُعرض حاليًا في متحف السليمانية. الصورة © د. أسامة شكر محمد أمين
يُعرَض هذا التمثال داخل صندوق عرض زجاجي حديث، بجانب تمثال سومري مفقود الرأس (وَصَفَ المتحف التمثالين باختصار شديد دون ذكر المعثر او الفترة الزمنية بدقة او ذكر الجنس أو وصف الملبس). صنفه المعهد الشرقي بأنه "غير معروف الحالة" (مكان التمثال غير معلوم)، ولا يظهر على موقعه الإلكتروني وفي جميع منشوراته سوى "رأس" التمثال (لم أعثر على صورة لجسد التمثال في أي مطبوع). تم التنقيب عنه من قبل المعهد الشرقي في معبد الاله سين في مدينة خفاجة، خلال الموسم الرابع، 1933–1934. يحمل رقم التنقيب "Kh. IV 288" (والذي يمكن العثور عليه في الجزء الخلفي من رقبة السيدة). يعود تاريخه إلى عصر فجر السلالات الثالثة، حوالي 2400 قبل الميلاد. في الجزء العلوي من الجزء الخلفي للتمثال، يمكن العثور على الأرقام التالية: "م س 184" (أعطي من قبل متحف السليمانية قبل عام 1991، عام الانتفاضة الكردية)، "م س 945" (متحف السليمانية، بعد عام 1991)، وIM19651. كُتب رقم المتحف العراقي، باستخدام لون أسود، على الغراء الذي يربط بين الجزأين المكسورين من جذع التمثال (عند الخصر). يقع رقم التنقيب جزئيًا أسفل الغراء الذي يربط الرقبة بأعلى الصدر. لذلك، يبدو أن القطع الثلاث قد جُمعت معًا، ثم مُنحت القطعة بأكملها (التمثال كاملا) رقم (IM) من المتحف العراقي. التمثال بدون أقدام، ويوجد ثقب لتثبيت وتد في سطحه السفلي. يبلغ ارتفاع الرأس 4.8 سم. يمثل التمثال امرأة ترتدي زيًا سومريًا تقليديا، وكتفها الأيمن عارٍ. تصفيفة شعرها منحوتة بدقة. يداها متشابكتان في إشارة للدعاء أثناء التعبد وهي تنظر إلى الأمام. مُلئت محجرا العينين بصدف أبيض مُثبت على قار. تم ترميم الكوع والساعد الأيمن، بينما جُمعت قطع الطرف العلوي الأيسر معا من جديد. اليدان كبيرتان بشكل غير متناسب مقارنةً بالرأس. لم أتمكن من العثور على مصدر الجذع (الجسد) اذ لم يذكره أي مستند أو سجل ولا تحتوي منشورات المعهد الشرقي على صورة له، ولا يحمل رقم تنقيب من خفاجة. الحجر الجيري للرأس يختلف نوعًا ما عن الحجر الجيري للجسد. ربما تم العثور على الجسد بشكل منفصل في وقت ما، أو تم التبرع به، أو شراؤه من قبل المتحف العراقي، أو مصادرته من قبل السلطات المختصة لاحقًا. من المرجح جدًا أن تكون القطع قد جُمعت بواسطة المتحف العراقي وليس فريق التنقيب التابع للمعهد الشرقي، ولكن متى؟ تسلم متحف السليمانية التمثال بالكامل في عام 1961. يبدو التمثال، ظاهريًا وكأنه تمثال كامل. ومع ذلك، فمن المرجح جدًا أن الجسد لا ينتمي إلى الرأس الذي تم التنقيب عنه بواسطة المعهد الشرقي. كان نوع الغراء المستخدم في ربط القطع معروفًا جدًا في العراق (المسمى بالسيكوتين). الغراء واضح جدًا وقد أضفى لونًا بنيًا داكنًا غير مقبول على الحواف المجاورة. نعلم الآن أن الرأس موجود في متحف السليمانية منذ العام 1961 وليس مفقودا او مسروقا من المتحف العراقي.
ثانيا. تمثال بدون رأس لمتعبد سومري:
تمثال صغير لرجل سومري في وضع تعبدي، يعود إلى عصر فجر السلالات، منتصف الالف الثالث قبل الميلاد، اكتُشف في خفاجة، محافظة ديالى، ويُعرض حاليًا في متحف السليمانية. الصورة © د. أسامة شكر محمد أمين
يُعرَض هذا التمثال داخل نفس الصندوق الزجاجي للتمثال اعلاه (وخلفه مباشرة) في قاعة تاريخ الكتابة. نقّب عنه المعهد الشرقي في المزار الصغير بمدينة خفاجة خلال الموسم الثالث، 1932–1933. وُضع عليه (على السطح السفلي للثوب المكشكش) رقم التنقيب "Kh. III 1008". يُشير متحف السليمانية في سجلاته إلى أنه يحمل الأرقام IM46274، "م س 611"، و"م س 1332". إلا أن رقم المتحف العراقي (المذكور في السجل) غير موجود على التمثال نفسه. يبلغ ارتفاعه حوالي 31 سم، وهو مصنوع من الحجر الجيري، ويعود تاريخه إلى عصر فجر السلالات (منتصف الالف الثالث قبل الميلاد). يمثل تمثالًا لرجل واقف في حالة تعبد. الرأس والرقبة، والطرف العلوي الأيمن، والقدمان مفقودة. يرتدي التمثال الزي السومري التقليدي ذي الكشكشة. الجزء السفلي من الجذع مجوف ومُملوء بعجينة لعب حديثة (يسمى محليا بالطين الاصطناعي)، تُشكل أيضًا الطرف السفلي المسطح للتمثال ويستقر عليه الجسد. لا يذكر موقع المعهد الشرقي للكنوز المفقودة من العراق حالة محددة للمثال (مثل: غير معروف الحالة أو مسروق). على أي حال، فهو محفوظ في متحف السليمانية منذ أكتوبر 1961 وليس مفقودا او مسروقا من المتحف العراقي.
ثالثا. تمثال سومري بلا رأس:
تمثال لسيدة سومرية في وضع تعبدي، يعود إلى عصر فجر السلالات، حولي 2600 قبل الميلاد، اكتُشف في خفاجة، محافظة ديالى، ويُعرض حاليًا في متحف السليمانية. الصورة © د. أسامة شكر محمد أمين
نقّب المعهد الشرقي عن هذا التمثال في معبد الإله سين في خفاجة خلال الموسم الرابع من التنقيبات (1933–1934). يحمل الجذع (دون القدمين) رقم التنقيب "Kh. IV 115" والرقم المتحفي "IM19603". يمكن رؤية الرقمين "م س 184" و "م س 944" على الواجهة الأمامية لقاعدة التمثال (أسفل القدمين). أما السطح السفلي للقاعدة شبه المستطيلة، فيحمل الرقم "Kh. IV 49"، إلا أن هذا الرقم قد مُحي جزئياً في وقت ما، ويظهر تحته الرقم "115" مكتوباً بقلم مختلف. تحمل القاعدة نفسها الرقم المتحفي "IM19664" على السطح الخلفي. كان التمثال الأصلي، عند العثور عليه، بلا رأس، ويتألف من قطعتين متصلتين معًا في الجزء الأوسط من الجذع (بعد الكسر). من السطح السفلي للجذع، يُمكن رؤية نتوءين أسطوانيين قصيرين جدًا، يمثلان بقايا الساقين. لا تظهر القاعدة/القدمان في صور منشورات المعهد الشرقي. لا يوجد أي وصف له في خزانة العرض. يمثل التمثال سيدة واقفة متشابكة اليدين، في وضعية التعبد السومرية النموذجية. يعود تاريخه إلى عصر فجر السلالات الثاني، حوالي عام 2600 قبل الميلاد. يبلغ ارتفاعه (بدون القاعدة) 24 سم. نسبيًا، التمثال ثقيل الوزن ومصنوع من الحجر الجيري. ترتكز القدمان (من أسفل الكاحلين مباشرةً) على قاعدة شبه مستطيلة (التي تُشكل القطعة الثالثة). لهذه القطعة الأخيرة لون ورقم "IM" مختلفان عن التمثال. ومع ذلك، يُظهر الفحص الدقيق لظهر القاعدة أنها تُكمل إلى حد ما الحافة السفلية للثوب المُكشكش، لكن عرضها أقل من عرض الطرف السفلي للثوب. تُظهر صور المعهد الشرقي أن هذا التمثال بدون رأس (المكون من قطعتين متصلتين) لا يحتوي على قاعدة (او قدمين). قد تكون قطعة القاعدة تابعة للتمثال، وربما عُثر عليها لاحقًا أو تبرع بها شخص ما، أو تم شراؤها، أو مصادرتها. أو على الأرجح، أنها نسخة جبسية صُنعت لإكمال التمثال. متى انضمت هذه القطعة إلى التمثال؟ يُشير موقع المعهد الشرقي للكنوز المفقودة من العراق إلى أن حالة التمثال "غير معروفة". نعلم الآن أنه محفوظ في متحف السليمانية منذ أكتوبر 1961 وليس مفقودا او مسروقا من المتحف العراقي.
رابعا. رأس رجل سومري:
رأس رجل سومري حليق الرأس، يعود إلى عصر فجر السلالات، حولي 2400 قبل الميلاد، اكتُشف في تل أسمر (اشنونه)، محافظة ديالى، ويُعرض حاليًا في متحف السليمانية. الصورة © د. أسامة شكر محمد أمين
يبلغ ارتفاع هذا الرأس الصغير، والمصنوع من الحجر الجيري، حوالي 3.7 سم. وهو معروض داخل صندوق خشبي/زجاجي كبير (قديم الصنع) مع مجموعة من القطع التي تعود الى عصر فجر السلالات في احدى القاعات. وُضع التمثال بجانب مجموعة من تماثيل صغيرة لنساء عاريات من مدينة نيبور في جنوب العراق (اكتشف المعهد الشرقي هذه المجموعة أيضًا). من السهل جدًا تجاهل رأس التمثال عند زيارة المتحف. من الواضح أن التمثال ليس فيه معالم مميزة ولا يوجد وصف بجانبه. ما لفت انتباهي هو أنه يُذكرني بوجه ملاكم من أصل أفريقي بعد انتهاء نزال عنيف (وجهه منتفخ وأنفه مشوه). نقّب المعهد الشرقي عن هذا الرأس (وجده بدون جسد) في معبد الاله آبو في تل أسمر عام 1933. الجزء الخلفي من الرأس يحمل الأرقام "As. 33:500"، وIM19772، "م س181"، و"م س 6271". في الصورة، يمكن للقارئ أن يرى أنني أمسك رأس التمثال بيدي اليسرى. الرأس مُثبّت على قاعدة بلاستيكية دائرية حديثة. يذكر موقع المعهد الشرقي للكنوز المفقودة من العراق أن حالته "مجهولة". نعلم الآن أنه محفوظ في متحف السليمانية منذ أكتوبر 1961 وليس مفقودا او مسروقا من المتحف العراقي.
تحديات التوثيق وسوء التواصل:
هناك تمثالان آخران بدون رأس (ربما من ديالى) لم أتطرق إليهما هنا، وهما غير مدرجين في القائمة المذكورة في صفحة الكنوز المفقودة من العراق. لا توجد معلومات عن المعثر في السجلات ولا يوجد أي وصف لهما في خزانة العرض.
التمثال الصغير الموجود على يسار القارئ كان اهداءً للمتحف العراقي. لم يذكر الأرشيف اسم المتبرع أو تاريخ الإهداء، ويُرجّح أنه قُدّم من قبل أحد العمال الذين شاركوا في التنقيب بأحد المواقع في ديالى بالتعاون مع المعهد الشرقي. أما التمثال الآخر، الواقع على يمين القارئ، فهو لامرأة واقفة ترتدي زيًا سومريًا تقليديًا، وتظهر في وضع تعبدي سومري مع كشف كتفها الأيمن. يبدو أن رأس التمثال قد أُزيل لاحقا بعد تثبيته بمادة لاصقة. ومع ذلك، لا تتوفر معلومات حول مكان الرأس الحالي أو سبب إزالته، وما إذا كان ينتمي للتمثال الأصلي. عصر فجر السلالات، منتصف الالف الثالث قبل الميلاد. الصورة © د. أسامة شكر محمد أمين
ما تعكسه هذه المقالة هو سوء التواصل العميق أو الانفصال بين الهيئات ذات الصلة المسؤولة عن تخزين وعرض هذه القطع الأثرية. عندما تم الحصول على القطع الأثرية من قبل متحف السليمانية في عام 1961 (كإعارة دائمة من المتحف العراقي)، كانت مصحوبة بسجلين (كان السجل الثاني نسخة من السجل الأول، ولكن كتبه موظف آخر باستخدام قلم مختلف). تم إعطاء كلا السجلين الرقم 7 وتم فتحهما في 2 أكتوبر 1961. تم تسجيل القطع الأثرية بشكل تسلسلي، بدءًا من 1 وانتهاءً بـ 602، على مدى 3 أيام، من الاثنين الى الاربعاء، 2 إلى 4 أكتوبر 1961. كانت تفاصيل القطع الأثرية (بالعدد 602) داخل كلا السجلين سطحية للغاية وموجزة، وفي كثير من الأحيان غير متوافقة، ومضللة في بعض الأحيان. على سبيل المثال، يُشير السجل الثاني إلى أن التماثيل السومرية المذكورة أعلاه (الثلاثة) جاءت من تبه كورا (تل أثري بالقرب من الموصل، محافظة نينوى، شمال العراق، استوطن من الالف الخامس قبل الميلاد) وأن الرأس الصغير للرجل السومري جاء من مدينة كيش (في محافظة بابل). لا تُعطي السجلات أي أبعاد أو قياسات على الإطلاق. اضطررتُ إلى البحث بعمق عن هذه المعلومات، من خلال منشورات المعهد الشرقي أو الشبكة العنكبوتية أو الكتب والمقالات ذات العلاقة . يسعدني جدًا أن أرى أن بعض "الكنوز المفقودة من العراق" موجودة بالفعل في متحف السليمانية وأنها لم تُسرق في 2003. من ناحية أخرى، من المؤلم جدًا أن نرى أن العمل العظيم الذي حققه المعهد الشرقي في خفاجة وتل أسمر قد تعرض للضرر بسبب البيروقراطية ونقص التوثيق السليم وسوء التواصل، وقبل كل شيء، الإهمال في المتابعة. لقد تواصلت مع المعهد الشرقي مرارًا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر (بين 2018 الى 2021)، في محاولة لتصحيح المعلومات الخاطئة المتعلقة بهذه القطع الأثرية في قاعدة بياناتهم. آخر هذه المحاولات كانت عن طريق صديق لي، وهو باحث آثار في كندا. كان ردهم لصديقي (عبر إحدى وسائل التواصل الاجتماعي) هو أن "الشخص الذي أنشأ الموقع قد غادر العمل منذ سنوات طويلة".
ملاحظة أخيرة ومهمة جدًا (نقدا وليس انتقادا لمتحفي المفضل والحبيب): لم يكن متحف السليمانية على علم بأي من المعلومات الواردة في مقالي الاستقصائي هذا، ولم يكونوا يعلمون حتى أن القطع الأثرية المذكورة في المقال جاءت من منطقتي خفاجة وتل أسمر، وأن اكتشافها تم على يد تنقيبات المعهد الشرقي في شيكاغو على الرغم من وجودها في المتحف لمدة 64 عاما.
لا يسعني إلا أن أعرب عن خالص امتناني للأخ هاشم حمه عبد الله (مدير متحف السليمانية حينها). لولا تعاونه ومساعدته الكريمة وغير المحدودة، لما نُشر هذا المقال. ترجمتي (بتصرف وإضافات) لمقالي باللغة الانكليزية في موسوعة التاريخ العالمية.
*طبيب استشاري في طب الاعصاب وزميل كليات الأطباء الملكية في ادنبرة، كلاسكو، لندن، ودبلن
929 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع