كيف ألغى الإنگليز منصب رئيس أركان الجيش العراقي؟

    

 كيف ألغى الإنگليز منصب رئيس أركان الجيش العراقي؟
    
       

     

في الثاني من آب 1924 الف السياسي الوطني المعروف المغفور له ياسين الهاشمي وزارته الاولى وهي الوزارة السادسة في تاريخ العراق الحديث وكان المرحوم عبد الرحمن النقيب قد شكل أول وزارة في 25 تشرين الاول عام 1920.

ولد ياسين الهاشمي في بغداد عام 1884 وفيها درس الى ان دخل المدرسة الاعدادية العسكرية عام 1895 ثم التحق على اثرها بالكلية الحربية في اسطنبول فتخرج فيها بعد ثلاث سنوات ضابطا برتبة ملازم ثان. ولما وصل الى مرحلة كلية الاركان برزت مواهبه وبراعته في النواحي التعبوية والسوقية وقد شغل العديد من مناصب الركن الى ان عين رئيسا لاركان الفيلق السابع عشر اثناء الحرب العالمية الاولى وهو الفيلق الذي اوكلت قيادته الى الجنرال الالماني ترومر.

   

وعندما حقق الفيلق فوزا مؤزرا في جبهة الدردنيل كوفئ ياسين بترقيته الى رتبة اعلى ونقل الى منصب قائد فرقة في جبهة غاليسيا في النمسا ..

                 

حيث اظهر براعة في قيادة الفرقة ادت بالامبراطور الالماني وليم الثاني الى منحه الوسام الحديدي كما كافأته الحكومة النمساوية بتقليده وسام الصليب النمساوي اما القيادة التركية فقد انعمت عليه بوسام الكفاية الذهبي.

              


الهاشمي بمعية فيصل
التحق ياسين الهاشمي بالحكومة العربية التي شكلها الملك فيصل الاول في سوريا عام 1918 وظل بمعية الملك فيصل الى ان انهارت بعد معركة ميسلون الخالدة في شهر تموز عام 1920 وفي عام 1922 عاد ياسين الى العراق فاقام له زملاؤه حفلة استقبال شارك فيها عدد كبير من محبيه.

وبعد ان استقر لفترة من الوقت دخل معترك الحياة السياسية ولم تلبث الحكومة ان اسندت اليه متصرفية لواء المنتفك فأثبت مقدرة ادارية عالية اثناء توليه هذا المنصب الذي شغله لمدة اربعة اشهر فقط بعده اختاره المرحوم عبد المحسن السعدون وزيرا للمواصلات والاشغال في شهر تشرين الثاني عام 1922.

            

ضمت وزارة ياسين الهاشمي الاول ستة وزراء وقد حرص على اختيارهم بنفسه وهم كل من رشيد عالي الكيلاني وزير العدلية ومزاحم الباجه جي وزير المواصلات والاشغال ومحمد رضا الشبيبي وزير المعارف وابراهيم الحيدري وزير الاوقاف وقد تم استيزار هؤلاء لاول مرة اما الوزيران الاخران فهما ساسون حسقيل وزير المالية وعبد المحسن السعدون وزير الداخلية.

                                           

                                                 الباشا / نوري السعيد
كان من رأي رئيس الوزراء ان يحتفظ بوكالة وزير الدفاع لنفسه على اعتبار انه ضابط سابق وله خبرة في الشؤون العسكرية لكن الملك فيصل اقترح عليه تكليف نوري السعيد بهذه الوزارة كونه اول رئيس لاركان الجيش العراقي وفي عهده تم تأسيس الجيش العراقي لكن الهاشمي لم يأخذ بأقتراح الملك واصر على الاحتفاظ بوزارة الدفاع فرضخ الملك للامر!!!. والمعروف عن ياسين اعتداده برأيه وصراحته المطلقة وقد ا دت هاتان الصفتان الى متاعب جمة عانى منها طيلة حياته.

  
الانگليز غير مخلصين للعرب
عندما كان ياسين ضابطا في الجيش العثماني شارك زملاءه في شعورهم القومي وانتمى الى جمعية العهد (وهي جمعية ساعدت على بث الفكرة القومية لدى الضباط العرب) لكنه لم يلتحق بالثورة العربية في الحجاز كما فعل معظم الضباط العرب كعزيز علي المصري ومولود مخلص ونوري السعيد وجعفر العسكري وغيرهم لانه كان يعتقد ان الانكليز غير مخلصين للعرب. وقد ذهبت جهود اصحابه من اعضاء الجمعية لاقناعه بالعدول عن رأيه ادراج الرياح فظل يقاتل الانكليز الى جانب العثمانيين رغم شعوره القومي حتى نهاية الحرب عام 1918.

                         


ولم يثق بالفرنسيين!
وحينما التحق ياسين بالحكومة العربية في دمشق رفض تولي اي منصب لانه لم يكن يثق بالفرنسيين لكن الملك فيصل اقنعه بقبول منصب رئيس المستشارين العسكريين ولما انذر الفرنسيون الملك فيصل وزحفوا على دمشق تهيأ القادة السوريون للدفاع عن عاصمتهم وبعثوا بياسين للقيام بدراسة التحصينات العسكرية في الجبهة وقد وضع بذلك تقريبا ذكر فيه ان حالة الجيش اضعف من ان يقاوم الفرنسيين وان صموده لن يستمر اكثر من ساعتين، وقد ادت هذه الصراحة الى استهجان معظم القادة لكن الاحداث اثبتت صحة رأيه، وفي دمشق ايضا تعرض ياسين للاعتقال من قبل الانكليز لصراحته واعتداده برأيه، وكان يقول لممثلي الحلفاء انكم غدرتم بالعرب.

                                   


المندوب يتدخل!
في بغداد التزم ياسين بصراحته المعهودة ورأى ان الافضل توليه وزارة الدفاع الى جانب رئاسة الوزارة لكن المندوب السامي هنري دوبس كان له رأي اخر فقد شعر ان وجود ياسين على رأس الجيش العراقي ووجود شقيقه طه الهاشمي في رئاسة اركان الجيش ليس في مصلحة  الانكليز ولغرض ابعاده عن الاحتكاك المباشر بالجيش لجأ الى خطة غريبة فرضها على الملك فيصل القائد العام للجيش الذي اصدر امرا بالغاء منصب رئيس اركان الجيش فتخلص بذلك من طه الهاشمي ثم اتبعه بأمر اخر استحدث بموجبه منصب وكيل القائد العام عهد به الى نوري السعيد ليحول بين وزير الدفاع وبين الاتصال المباشر بالجيش.

        

وقد كلف طه الهاشمي فيما بعد بالاشراف على تعليم الامير غازي الذي وصل الى بغداد لاول مرة يوم 5 تشرين الاول عام 1924.
كتب طه الهاشمي في مذكراته يقول:

(في اوائل سنة 1924 عينت رئيسا لاركان الجيش في بغداد بعد ان سعيت كثيرا في الموصل ليكون للجيش كيان قوي ويقدر رجاله المسؤولية الملقاة على عاتقهم وبينما كان رجال الانتداب في بغداد قابضين على كل شيء وكان الضباط الانكليز في الجيش هم الاصل والضباط العراقيون الفرع المهمل كنت اناقش المستشارين البريطانيين وابدي آرائي بصراحة واقترح عليهم ما يبدو لي من اراء في لائحة الميزانية، وعندما اجتمع المجلس التأسيسي وطرحت امامه لائحة المعاهدة العراقية ابدى نوري السعيد وجعفر العسكري تحفظهما من بقائي على راس الجيش. فاقنعا الملك بلزوم ابعادي عن العراق بوظيفة. فذهبت الى اسطنبول ممثلا عن العراق لاجراء مذكرات مؤتمر الحدود، بينما كانت هذه الوظيفة قد اسندت لنوري بناء على طلب منه. ثم سافرت الى لندن بأمر الحكومة ولكن من دون عمل. ورجعت الى بغداد بعد ان تولى  اخي رئاسة الوزراء، ولما وصلت اليها علمت ان وظيفتي الغيت واني احلت على كشف نصف الراتب لانه بعد ان اضطر نوري للخروج من الوزارة اراد ان يبقى في الجيش فاصبح وكيلا للقائد العام بموجب القانون الذي وضع قبل استقالة الوزارة. وهكذا كان جزائي من العمل الخالص النزيه ان الغيت وظيفتي ووضعت في كشف نصف الراتب.

   
شكوى ضد رئيس الوزراء
عقد ياسين الهاشمي العزم على الحد من النفوذ البريطاني رغم ان الانتداب كان ما يزال مفروضا على العراق وقد رأى ان الانكليز يهيمنون على مقدرات العراق بواسطة الموظفين البريطانيين سواء كانوا مستشارين او مدرسين فنيين او ضباطا، فلجأ بعد فترة قصيرة من تشكيله الوزارة الى طرح الاتفاقية الخاصة بعقود استخدام الموظفين البريطانيين على بساط البحث واصدر امرا وزاريا بتشكيل لجنة برئاسته لدراسة الموضوع.
كان ياسين يهدف من وراء طرح هذه المسألة في وقت مبكر الى تقليص عدد الموظفين ومدة استخدامهم والحد من النفوذ البريطاني في دوائر الدولة ومؤسساتها من جهة والى التخفيف عن كاهل الخزينة من جهة اخرى حيث كان هؤلاء الاجانب يتقاضون رواتب ضخمة على حساب الموظفين العراقيين. قامت اللجنة المشكلة برئاسة رئيس الوزراء بدراسة الموضوع واقرت قائمة تضم (103) موظفين بدلا من (181) موظفا كانوا مستخدمين اصلا. كما قررت اللجنة ان لا تزيد مدة استخدام الموظفين الانكليز على خمس سنوات في حين ان التعليمات السابقة كانت تسمح باستخدام الاجانب لمدة 10-15 سنة.
لما وصل قرار اللجنة الوزارية الى المندوب السامي طار صوابه وهرع نحو الملك يشكو له رئيس وزرائه. ويبدو ان المندوب السامي لم يكن يتوقع ان يجرؤ اي مسؤول عراقي على تحديد عدد الموظفين الانكليز وتقليص مدة استخدامهم. وحينما التقى برئيس الوزراء قال له ان قرار الحكومة يتعارض مع نصوص المعاهدة العراقية ـ البريطانية وطلب منه ان يتخلى عن تحديد مدة استخدام الموظفين الانكليز.


حل وسط!
كان المندوب السامي ينظر الى المستقبل ويعمل على ابقاء النفوذ البريطاني في العراق اطول مدة ممكنة لذا فان اعتراضه انصب على تقليص مدة الاستخدام. اجتمع مجلس الوزراء برئاسة ياسين الهاشمي لاعادة النظر بقرار اللجنة الذي اعترض عليه المندوب السامي البريطاني، ولما كان ياسين مصصما على المضي قدما في خطته الطموح للحد من النفوذ البريطاني فقد اصدرت الحكومة قرارا اكثر مرونة رغم تأكيده على الالتزام بتقليص مدة استخدام الاجانب، وقد ورد في القرار انه لا مانع من تمديد مدة استخدام الموظفين بشرط موافقة الحكومة العراقية على ذلك. ومرة اخرى اثار قرار الحكومة ثائرة المندوب البريطاني الذي رفض قبوله واحتج عليه واعلن ان الحكومة البريطانية لا يمكنها الاعتراف به فلم يسع الملك فيصل الا رفضه ايضا وذلك لان مقررات مجلس الوزراء لابد ان تقترن بمصادقة المندوب السامي والملك معا.

                                  

اصر ياسين على موقفه واصر المندوب البريطاني على الرفض فبقيت القضية منذ تشكيل الحكومة في اب 1924 لغاية اذار 1925 عندما تم التوصل الى حل وسط يقضي ان لا تتجاوز عقود العمل الطويلة عشر سنوات على ان يكون الوزير هو الذي يعين الموظفين الذين يجب ان يعطوا عقودا طويلة مع ملاحظة الاختصاص والكفاءة في العمل، وهكذا انتهت اهم قضية من القضايا التي عالجتها الوزارة  الهاشمية الاولى.


ابعاد لمدة عشر سنوات!
لقد كان لهذا الاجراء اثر كبير على ياسين فقد ثبت لدى الانكليز ان هذا السياسي يفعل ما يقول ويصر على العمل بما يعتقد انه صواب فاخذوا يكيدون له المكائد ووقفوا في سبيل توليه رئاسة الوزارة لاكثر من عشر سنين.

    

وحينما شكل وزارته الثانية في شهر اذار عام 1935 قام بكر صدقي بانقلاب عسكري اطاح بوزارته في تشرين الثاني 1936 ونفي الهاشمي الى بيروت الى ان توفي يوم 21 كانون الثاني عام 1937 ونقل جثمانه الى دمشق ليدفن الى جوار صلاح الدين الايوبي.
مجلة الف باء 1974

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1285 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع