"احب العراقيون السبحة وعشقوها، فهي حاضرة في مجالسهم وغربتهم"
عندما نتحدث عن الماضي فإن الحديث يكون له نكهة خاصة ومذاق مختلف والسبح لها مكانة كبيرة لدى الكثير من الناس من مختلف الفئات خاصة محبي التحف وهواة التراث والباحثون وكذلك الشعراء الذين يذكرونها في أشعارهم نظراً لحبهم لها فقد أوردوا ذكرها منذ قديم العصور.
"السبحة" إرث فني بديع متغلغل في التراث العربي والإنساني، قديمه وحديثه، كما أن للمسبحة وظائف ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأرقام والعد والحساب، وهي زينة شخصية، ووجاهة اجتماعية، وأبهة وثروة مادية، وتحفة فنية، ومفخرة منزلية، وهدية رمزية للأهل والأصدقاء، وعامل مساعد على تهدئة الانفعالات النفسية، وتسلي الأصابع (التي تريد أن تبقي ساكنة) بحباتها وطقطقتها، ولها سوقها الرائجة، العامرة، الرابحة، وخاماتها متفاوتة الخصائص، ندرة ونفاسة، وقيمة، وجمالاً، وإبهاراً. صنعتها بديعة، وحرفتها تستلزم مهارة ودراية وذائقة في آن معاً، كأنها حلي ذهبية، بل هي كذلك، فبعضها جاوز سعره ثمن قلادات ذهبية، بل حل محلها في الخزائن والمقتنيات النفيسة.
منذ القدم ارتبطت السبحة بالافكار الروحية بما فيها الدينية والسحرية، وتشير بعض من الدلائل التأريخية المدونة، أن فكرة المسبحة بدأت عند السومريين قبل (5000) سنة ومن ثم انتقلت إلى بقية الحضارات الأخرى كالفرعونية والهندية والفارسية وغير ذلك من الحضارات اللاحقة، كما تشير بعض المصادر والدلائل التاريخية إلى أن ظهور السبحة الدينية لأول مرة كان في الهند في بداية القرن الخامس قبل الميلاد، وجاءت تلك المصادر بأن الإله (براهما) كان يحمل المسبحة بيده اليمنى كما ظهر جلياً في الرسوم التي تم العثور عليها، كما تقول بعض كتب التاريخ إن كهنة الصين كانوا من أوائل من ابتدع السبحة، كما افادت إحدى الروايات إن راهباً يونانياً يدعى "الاب وس دي روبي" كان أول من استعمل السبحة، في حين يقول البحاثة ( جولد زيهر ) المستشرق الألماني – كما في " مجلة الهلال المصرية ": إن السبحة لم تنتشر في الجزيرة إلا في القرن الثالث الهجري، ولعلها جاءت إليها عن طريق مصر، وفي عام 1880 أطلق بابا روما "ليو الثالث عشر" على شهر تشرين الاول اسم "المسبحة المقدسة"، ولقد كشفت حفائر الحضارات الإنسانية الأولى التي نشأت في وادي الرافدين (السومريون) ووادي النيل (الفراعنة) عن استخدام أحجار مختلفة لأغراض دينية ودنيوية، وقد اتخذت السبحة في عصور ما قبل التاريخ كزينة وتعويذة وتميمة، وفي الآثار الفينيقية ما يشير إلى استعمالها في المقايضة والمعاملات التجارية.
على الرغم من أن للسبحة في معناها اللفظي والاستخدامي صفة عربية وإسلامية واضحة إلا أن البحث عن الجذور التاريخية لها لابد أن يجرنا على الطريقة التي تعامل بها الإنسان القديم مع الأحجار الكريمة وغيرها ضمن معتقداته منذ أقدم العصور، فمنذ آلاف السنين، ومنذ أن كان الإنسان القديم يسكن الكهوف وعثوره بطريق المصادفة أو الحفر عن أحجار ملونة هنا وهناك فلابد أنها قد سحرته بجمالها وألوانها وبريقها، في حينها اقدم الإنسان القديم بصقل وتشذيب هذه المواد وتكوينها على أشكال مختلفة كالشكل الإسطواني أو الحبيبي (الخرزي) أو غير ذلك، ومن ثقبها أو خرقها وتجميعها وربط بعضها البعض بخيط، وكانت هذه هي الخطوة الأولى لفكرة القلادة بهدف التزين او التباهي، ولعرض هذه الأحجار والمواد أمام الآخرين عن طريق استخدامها كعقود أو قلائد تعلق في العنق أو الزند وأحيانا في الأرجل، وهنالك دلائل آثارية قاطعة بأنه بدأ في تجميعها والتعامل معها بولع مفرط نظرا لندرتها وجاذبيتها التي سحرته وألهبت خياله.
إن من أقدم الأحجار والمواد التي استخدمها الإنسان قد عثر عليه في قبور ترجع إلى أكثر من 20 ألف سنة واحتوت على حبيبات من العاج والمحار والعظام المختلفة، ولقد كشفت حفائر الحضارات الإنسانية الأولى التي نشأت في وادي الرافدين (السومريون) ووادي النيل (الفراعنة) عن استخدام أحجار مختلفة لأغراض دينية ودنيوية، ولهذا اتخذت السبحة في عصور ما قبل التاريخ كزينة وتعويذة وتميمة، وفي الآثار الفينيقية ما يشير إلى استعمالها في المقايضة والمعاملات التجارية، ويبدو أن فكرة تجميع هذه المواد على شكل سلسلة أخذت فيما بعد أبعاداَ روحية أو سحرية أو دينية، أن فكرة المسبحة إذاً هي تطور طبيعي وحتمي من فكرة القلادة.
"السبحة" إذاً دخيلة على كل دين سماوي، وأنها في الأديان المختلقة معروفة منذ عصور ما قبل التاريخ، وأنها من وسائل التعبد، لدى البوذيين، ثم لدى البراهمة في الهند وغيرها، ومنهم تسربت إلى المسيحيين، عرفت فى الديانة المسيحية، مثل الكاثوليكية والأرثوذكية بالإضافة إلى الديانة السيخية وفى الديانة الإسلامية، لدى القسيسين، والرهبان، والراهبات، ومن الهند انتقلت إلى غرب آسيا، لكن المسبحة لا تقتصر على أماكن الصلاة المقدسة في بعض الثقافات، ففي اليونان مثلاً، يعتبر استعمال المسبحة نشاطاً علمانيّاً يومياً، كما في تركيا، وقد خرجت المسبحة منذ زمن من نطاق الجوامع والكنائس في المنطقة، وأصبحت رفيقة للرجال.
وردت كلمة التسبيح في القرآن الكريم بقوله تعالى (تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وان من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليماً غفوراً)، وتقول المصادر، انه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدام السبحة، لكن الصحابة استخدموا وسيلة لضبط العدد الذي حددته السنة النبوية الشريفة لكل تسبيحة وكان التسبيح يتم بعقد الأنامل ولما كانت هذه الطريقة تشغل فكر المسبح إلى العد وتؤثر في خشوعه التجأ إلى وسائل أخرى عديدة فمنهم من استعمل الحصى وآخر استعمل النوى وغيره استعمل العقد في الخيط وهكذا، يعتقد بعض المؤرخين أن أول سبحة في الاسلام كانت من نوع البلح في صدر الاسلام.
في العصر الأموي أتخذ المسلمون السبحة كأداة للتسبيح، وكانت علامة من علامات الايمان وكوسيلة للإعانة على الذكر والتذكير، واخذت بالأنتشار ابان الفتح الإسلامي وكانت مؤلفة من 99 حبة ترمز الى أسماء الله الحسنى.
بلغت المسبحة أوج مجدها في العصر العباسي، عرفها الناس وحلت محل التسبيح بالحصى والنوى وذاع أمرها بين العامة بعد أن كانت لا تنتشر إلاّ بين الخلفاء وأصحاب الجاه وأصبح لها أنواع كثيرة فمنها الرخيص الذي يضع من الخرز والخشب وعظام الحيوانات ومنها الغالي الذي يصنع من أغلى الجواهر وأنفسها حيث يتباهى به علية المجتمع وتدخر لوقت الحاجة فكان صناعها وهواة جمعها يغالون في ذلك ويحتفظون بأصناف منها وقد أسرف الرواة في أثمانها ونفاستها فهذه زبيده بنت جعفر المنصور زوجه هارو، ولعل من أشهر السبحات تلك التي استعملتها زبيدة بنت جعفر المنصور زوجة هارون الرشيد، والتي صنعت من ياقوت رماني على هيئة بندق، وهارون الرشيد كانت له سبحة وهي عشر حبات من الدر، استعملها الصوفية للتسبيح وتوارد ذكر الله وأكثر من استعملها لهذا الغرض “أبوسهل التستري”، وكانت تصنع أغلبها من خشب العود قد استعملها أيضا الخلفاء العباسيون أنفسهم في مجالسهم ودواوينهم، ليس للتسبيح فقط بل للزينة .
وفي العصر العباسي وما تلاه من الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس ومن ثم في فترات حكم المغول والبويهيون والسلاجقة، وانتقال الحكم للفاطميين والمماليك في شمال أفريقيا، كما كان لدى العديد من الأمراء في العصر الفاطمي سبح نادرة وثمينة، وفي ذلك العصر، انتشرت طرق الحركات الصوفية وحركات الدراويش والدروشة واتباع هذه الطرق يحملوها ويتبركون بها ويعدون بها أسماء الله الحسنى وأثناء التشهد يحملونها أيضاً في تجمعات الذكر والتهليل، وكانت تتكون من العظام أو الخزف أو الأتربة المعجونة والأخشاب والصدف، وبعض مسبحاتهم تتألف من 99 حبة زائداً الفواصل والمنارة والبعض الآخر يتألف من ألف حبة وقد تصغر الحبات أو تكبر حسب التقاليد السائدة في كل مرحلة، ويعتقد بعض اتباع الصوفية أن المسبحة تفيد في عدم النسيان أو تعزز الانتباه، وتفيد في العد خصوصاً بالنسبة للذين يذكرون أسماء الله الحسنى، ولقد تطور استعمال المسبحة آنذاك حتى انتقل حملها باليد اثناء المجالس الخاصة بالصوفيين وأحياناً إلى العنق أثناء التجوال أو بعد الانتهاء من الصلاة والتسبيح، ولا زال منظر الصوفي أو صاحب الطريقة والذي يعلق مسبحته في عنقه ماثلاً إلى هذا اليوم ماثلاً في مصر والعراق والمغرب وتونس.
كثر استعمال السبح في العصر العثماني "سلاطين بني عثمان خصوصاً" وكان أجملها المصنوع من المرجان واليسر والعنبر والكوك الهندي والكهرمان
وفي بداية القرن العشرين والى وقتنا الراهن وبعد التطور الصناعي الكبير وازدياد الثروات، اصبحت السمة الظاهرة للسبحة كثرتها وميسرة لكل فرد.
صنعت السبحة من مواد مختلفة نذكر بعض منها :
الكهرمان او "الكهرب" عبارة عن مادة صمغية راتينج تفرزه جذوع بعض أنواع الأشجار من
العائلة الصنوبرية، وتفرز الأشجار هذه المادة كوسيلة دفاعية لها ضد الأمراض
والفطريات والحشرات وغيرها، وطبعا إذا زادت الإفرازات تثقل على جذع الشجرة
وتسقط على الأرض أو في أعماق البحر أذا كانت الأشجار قريبة منه، ومع مرور ملايين السنين تتحجر المادة الصمغية وتتحول إلى احجار كهرمان بالوان واشكال مختلفة على حسب البيئة المحيطة لها، وقسم منها تحوي على الحشرات والنباتات المتحجرة، يتواجد في منطقة بحر البلطيق في المانيا، وبولندا، ولتوانيا، وأوكرانيا ولاتفيا، بالإضافة إلى أنواع منه موجودة في جمهورية الدومينكان ولبنان، وخلال استخدامه يطلق رائحة عطرية جميلة، وتكون الأنواع الصفراء وسلالتها ذات رائحة قوية، وكلما اُستخدم الأصفر كلما زادت الرائحة العطرية التي تخرج منه، أما الأنواع الأخرى كالشفاف والتركيبات فرائحتها تكون أخف من الصفراء": "
أما أفضل أنواعه فهي الكهرمان الألماني والعراقي المتوارث عن الاجداد والهندي والبولندي، كان أهلنا في السابق يستخدمون حجر الكهرب لمرض "ابوصفار"، ويعتقد بعض من البغادة بأن "الكهرب" اذا احرقت حباته بطريقة يعرفها بعض الناس، يحضر الجن فيتحدث معهم، كما ان من يسبح الكهرمان له بركات في مجالس الجن والزار، وهناك دراسة للباحث الألماني الدكتور هربز يشير فيها الى ان "الكهرب" رائحتها زكية جداً، ويقول: انه منذ أكثر من مئات السنين كان الأمراء العرب في الأندلس يضعون في أعناقهم سبحات من الكهرب لطرد الحشرات عنهم.
أحجار "السندلوس أو المرجان والنارجين والباي زهر والفيروز.."
أما سبح اليُسر فهي عبارة عن أعشاب تنمو داخل البحر تستخرج وتصنع منها السبحة وتتميز برائحتها المخمرة.. وميزة حجر الكهرمان انه يرسم خطوطاً إذا ماحك على الورق وهنالك نوعان من السبح من حيث عدد الحبات المصنوعة منها الأول ذات (101) حبة نسبة الى اسماء الله الحسنى وهي (99) والحبتان الباقيتان بمثابة فاصلتان للسبحة، كالقواقع، والطين، والبذور، والمعادن، والعاج، والزجاج، والأحجار الثمينة، وتخصصت بلدان معينة في صنعها: فعرفت البندقية بمسابح الزجاج الملون، وأوربا الوسطى بمسابح الكهرمان الأسود، ومصر بمسابح الخزف، والصين بمسابح العاج المنقوش
تفيد المسبحة أحيانا في العرض المظهري للتدين والتصوف والذكر والتسبيح، إن معظم رجال الدين والشيوخ والعلماء والصوفيون وغيرهم كانوا يستخدمون مثل هذا النوع خلال القرون التي مضت مما ترك انطباعا قويا لدى معظم الناس عن ارتباطاتها الدينية بشكل متين، وقد تلفت هذه الظاهرة انتباه الزوار والمصلين عند زيارة المراكز الدينية والتكايا وحفلات الذكر والتهليل، فعند زيارة الأماكن المقدسة والحضرات الدينية في العراق، يلاحظ أن عددا كبيرا من الناس يحملون المسبحة ذات التسعة وتسعون حبة، ومنهم الشيوخ والمعممين وطلاب الدين وبقية الزوار من الجالسين أو السائرين، وقد يغلب اللون الأسود على هذه الأنواع من المسابح ولهذا الطابع منظر فريد قلما يراه الإنسان في معظم بقاع الارض الأخرى، وكذلك التهليل والتهدئة النفسية، وأحيانا للوقار والوجاهة، وأغراض أخرى مختلفة، والمواد التي تصنع منها المسبحة تتفاوت أيضا، واختلفت عبر القرون حتى بلغت في التنوع ما لا يعد ويحصى خلال القرن الحالي.
المسبحة عموما تنتشر في مناطق الشرق الأوسط وبتركيز خاص في العراق ومصر وتركيا والأردن وسوريا وفلسطين وإيران ودول الخليج ولبنان والمملكة العربية السعودية ( منطقة مكة على وجه الخصوص ) كما أنها تنتشر في دول آسيوية أخرى مثل باكستان وأفغانستان وبعض أجزاء الهند وجنوب الاتحاد السوفياتي ( طاجقستان ) وأذربيجان وعلى نطاق أخف في بقية دول آسيا الأخرى.
في الشعر الشعبي ارتبط اقتناء السبحة واستعمالها بشكلٍ دائم فمنذ ظهور الشعر وهي تمثل طقوسا عند أغلب الشعراء والعراقيين منهم في مجالس الشعر سواء في القصة الشعبية أو الرواية أو الحكاية، غير أنه اتضح ظهورها في الشعر بشكلٍ أكبر
الشعراء وهم يحملون السبحة بين أصابعهم ويقلبونها في كل الاتجاهات تمثل لهم الشيء الكثير في شعرهم لكونهم يعتقدون أنها تساعدهم على عملية التفكير والإبداع ، ولهذا في مجالس الشعر وديوانياته نشاهد الكل وهم يقلبون تلك السبحة بين أيديهم يميناً ويساراً وكأنهم غارقون في مرحلة من عمق التفكير حتى ينظموا الشعر أو سرد قصة أو حكاية، ومن هنا أتت السبحة هامه لأولئك الشعراء الذين يرتبطون بها دائماً.
ولأهمية السبحة منذ القدم نجد أنها قد دخلت في الشعر العربي منذ أكثر من ألف عام حيث كان الشعراء يتغنون بها وهم يحملونها بين أصابعهم خصوصاً إذا كانت جميلة الشكل وباهظة الثمن ولذلك وجدنا في تاريخهم أنهم كانوا يمجدونها في مجالسهم ويتفاخرون بها خصوصاً الشعراء منهم بل وكانوا يتهادونها فيما بينهم في العديد من مناسباتهم
قال أمير الشعراء أحمد شوقي مخاطبا امرأة يعشقها ولا تعبأ به لأن عشاقها كثيرون: <<للعاشقين رضاك والحسنى.. ولي هجر وصد.. ذكروا فكانوا سبحة.. وأنا العلامة لا تعد>>
وصف شاعر العراق الكبير " مظفر النواب" عندما وصف ضمن قصيدته" البنفسج" التي كتبها منتصف الستينيات من القرن الماضي " حبيبته " بالكهرب ليقارب بينها وبين شفافية هذا الحجر الثمين الذي يمتد عمره الى ملايين السنين.
المسبحات في العراق تاريخ طويل، فهي بالنسبة الى العارفين بأسرارها وخباياها كنز، ينتقل الى الأحفاد، شرط ان يعرف هؤلاء كيفية التعامل معها، ولهواة السبحات مجتمعات خاصة، محورها تلك القطع الجميلة المتدلية من أيديهم، وهم يتبعون العرف المتداول، ''حيث ''الكشكول'' من افضل نوع، و''طقطقة'' الحبات تلفت الانظار وخاصة في المقاهي، وتبديل الخيط كل فترة و السرقة البريئة ككل هواية، للسبحات قانون خاص متعارف عليه بين المحترفين، والمدمن على هذه الهواية يضيف عليها ابتكارات متعددة، مثل الكشكولة الذهبية او الفضية والتي تعكس نوعاً من "شوفة الحال(شايف نفسه)""، فالسبحة تبقى بيد صاحبها مدة طويلة مايعني ايلائها عناية فائقة فتحافظ على جودتها.
وتعد السبحة احدى مكملات الرجل العراقي، كما تعد تعبيرا عن المكانة المرموقة والوجاهة حيث توجد انواع راقية وثمينة يستخدما شيوخ العشائر واصحاب النفوذ ويدخل هذا النوع من المسبحات في تعبيرهم عن مكانتهم الاجتماعية والتسلية، ويرى بعض العراقيين أن السبحة تجلب الحظ، وهناك من يراها تخفف التوتر والضغط، وآخرون يستخدمونها في أذكارهم للتسبيح
وقد كتب عنها عزيز الحجية في كتابه بغداديات اذ يقول:
نادرا ماكنت اشاهد شخصا رجلا شابا لايحمل مسبحة بيده او حتى امرأة كبيرة ، فالكثير من شيوخنا وشبابنا العراقي يحمل هذه المسبحة والنساء ايضا، ذلك إنها وسيلة من وسائل العبادة اولاً ، وللوجاهة ثانيا، كما إن بعض من النساء يتخذنها للهو او لقراءة الطالع.
شكلت محبة صديقنا وزميل المهنة الخبير الجيولوحي نديم الراوي للكهرب والسبحة بوابة لدخوله الى عالم تصميم وخراطة سبح خاصة، فقد جلب معه الة خراطة ومعدات الثقب بعد عودته من الدراسة وحصوله على الشهادة العليا من انكلترا، واخذ يصنع السبح من الكهرب بتصاميم جميلة، كما انه صنع سبحة من لب الخوخ اهداها لي، هذه الدراية والشغف والدقة كان من الممكن ان تكون باكورة نشاط تجاري لـ«خراطة» وتصنيع باقة منوعة من السبح، تختلف أشكالها وأحجامها وخاماتها وأحجارها الكريمة، ولا ادري لماذا لم يقدم عليها.
كما هو معلوم في عالم السبح إلى أنّ "سرقة المسبحة حلال"، لذلك نرى بعض الرجال يتقنون ويعمدون إلى سرقة مسابح أصدقائهم بطرق محبّبة.
قد تكون المسبحة الموضوع الأسهل لانطلاق الأحاديث في المقاهي التي يرتادها الرجال بشكل خاصّ أو النوادي الاجتماعيّة.
اصبحت السبحة إحدى العادات المتوارثة منذ القدم بالتلويح بها في الأعراس والمناسبات، الكثير مارس رقص الجوبي في المناسبات والاعراس، ويا محلا الايدي المتشابكة والرقص الايقاعي المنتظم بشكل جماعي والضرب على الارض وهناك من يرفع بيديه السبحة ليشجع الدبكة بحركات تختلف عن حركات الراقصين الآخرين يجلس ويقوم وهكذا ويدور حول الراقصين ويشجعهم ويطلق صيحة معينة لشد عزائمهم.
هناك في العراق جامعي السبح، وقد تكون هذه الهواية، مثلها مثل هواية جمع الطوابع، اوجمع الاسلحة القديمة والعملات القديمة.. وهذه الهواية تقارب حد الادمان، بمعنى ان هاوي السبح اذا ما رأى سبحة اعجبته، فلا يتوانى ع شرائها بما توافر لديه من نقود، ولكن كما قيل قديما ( الناس في ما يعشقون مذاهب ) وكغيرها من الهوايات يحرص الهاوي على جمع السبح النادرة والقديمة
كما هو معروف، هناك أنواع كثيرة من السبح لا تعد ولا تحصى بأنواعها وعددها، وفي كل منطقة في العالم يختلف عدد الحبات ونوعيتها وألوانها، في العراق تشتهر الأنواع التالية :الكهرمان "الكهرب"، الفيروز، الحجازي، النارجين، السندلوس الامشست،اليسر، العقيق، حب الرمان، عين التمر، الجاد، عين النمر، العاج، سندلس،العطش، البايزهر، النارجيلة، والاخشاب والبلاسيكية..
عشق واحب السبحة الفنان المغني العملاق داخل حسن، وكان أثناء غناءه يظنه المشاهد إنه يبكي ولا يغني لفرط ماتتغير ملامح وجهه تقطيباً وعبوساً وخاصة عندما يبدأ بعصر حبات"مسبحته" التي كلما زادت أحزانه وانفعالاته، كما انه اتخذها جزءاً من الالات الموسيقية التي ترافقه في الغناء
هناك مثلا دارجا لطالما رددناه في يوميات حياتنا، ذاك المثل يعبر عن اكتمال أمر باجتماع جميع أطرافه إذ نقول: (كملت السبحة)..
تختلف السبح في عدد حباتها ولكن اشهرها 33 حبة و 45 حبة و 66 حبة و 99حبة.
السبحة بجمالها وعذوبة ملمسها، وارثها فقد استغلت لغير غاياتها النبيلة بيد هؤلاء سياسي الدين، والبعض منهم يضع على رأسه عمامة ويسبّح "بربه" ليل نهار والسبحة لا تفارق يديه، لوثوا الايمان الديني الحقيقي، فقد سرقوا، وكدسوا الثروات الطائلة من تهريب النفط، وعينوا الأقارب فى المناصب العالية، وحتى اشخاص وهميين فى مختلف المصالح الحكومية ليستلموا رواتبهم، او يصبحوا اعضاء فى البرلمان ويستلموا الرواتب والمخصصات الضخمة حتى وان لم يداوموا على حضور الجلسات، وهم يحجون كل عام مع ذويهم على نفقة الدولة.
هكذا دخلت «المسبحة» الذاكرة الشعبية العراقية، وأصبحت جزءا من التراث والتقاليد التي يحرص عليها الجيل الشاب.
ومن المؤسف أن الكثير من السبح النادرة اصبحت خارج العراق بسبب جهل اصحابها بقيمتها او بيعت بسبب الحاجة اثناء فترة الحصار.
السبحة فرضت وجودها عبر حقب التاريخ المتلاحقة، فما زال هذا الكنز القديم الجديد، متداولا بين طبقات العراقيين في غربتهم وترحالهم، فاقتناؤها ليس حكرا على الكبار في السن، أو الذكور فقط، بل بات الكبار والصغار والكذور والإناث يحرصون على اقتنائها.
تظل السبحة موروثا تتناقله الأجيال لتبقى في وقتنا الحاضر علامة بارزة في حياتنا، ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود
472 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع