المدى/بغداد/ عصام القدسي
مقاولون ومتعهّدون...
ظاهرة التسوّل ليست بجديدة على المجتمع العراقي، فبالرغم من انه يعد بلدا نفطيا يمتلك ثالث احتياطي نفطي في العالم إلا أن السياسات الملتوية التي مارسها النظام السابق والحروب العبثية التي خاضها والحصار الاقتصادي الذي تلاها ممتدا لأكثر من عقد، جعلت منه بلدا يعاني شعبه الفقر والحرمان وكانت احدى ظواهر هذا الفقر هي ظاهرة التسول.
وقد انتشرت ظاهرة التسول بعد أحداث 2003 بشكل كبير لأسباب عدة منها القتل والتهجير والبطالة وكثرة أعداد اليتامى وحالات الطلاق وتردي الأوضاع الأمنية وتدهور أوضاع البلد الاقتصادية مما حرمت الكثيرين من فرص العمل .
في آخر إحصائية لمنظمات دولية أن مابين 20 إلى 25 بالمئة من العراقيين يعيشون تحت خط الفقر وأن أكثر من مليون ونصف المليون عراقي عاطل عن العمل، و 25 % من الأطفال هم من المتسربين من المدارس وأن الأمية في المجتمع العراقي أصبحت 40% ،كل هذه الأوضاع المعيشية الصعبة دفع الكثيرين وخاصة الأطفال إلى العمل في مهن متدنية أو اللجوء إلى التسول ، حيث بات التسول مهنة من لا مهنة له يعتمد عليها ممارسوها في إعالة أنفسهم وأسرهم .اليوم باتت مهنة التسول تدار من قبل مقاولين ومتعهدين ،ويعتمد هؤلاء المتعهدون في عملهم على مجاميع من النساء والشيوخ والأطفال وخاصة المعوقين منهم لاستدرار العاطفة ،وهنا نفتح ملف ظاهرة التسول لمعرفة المزيد عن أسبابها ودوافعها ونحاول مناقشة الحلول المقترحة للقضاء عليها أو الحد منها بما يخدم المجتمع ويحتوي شريحة المتسولين ضمن حضيرته كأفراد صالحين يسهمون في بناء بلدهم وتقدمه..
واقع مأساوي
نجم عبيد 40 سنة يقول: بعد أحداث 2003 الكارثية خرج المجتمع العراقي من مأزق الدكتاتورية ليدخل نفقا مظلما لا يعرف له نهاية. فبعد موجات الدمار والقتل والتهجير، بات المواطن العراقي يعيش فوضى الصراعات السياسية التي أنشأت مشهدا لمجتمع سياسي لا علاقة له بالمجتمع العراقي له نشاطاته وتجاذباته وسلوكياته التي لا تمت لهموم البلد بصلة، محوره الصراعات من أجل السلطة .ويبدو أنها ستستمر إلى ما لانهاية أدت نتائجها إلى (ضياع الخيط والعصفور ) وانشغال قادة البلد بالنزاع على الكراسي والمكاسب وسرقة المال العام واختلاسه وهدره بمشاريع وهمية أو لا جدوى من ورائها حتى تناسوا مهمتهم التي انتخبوا من أجلها، فانعدم الأمن وغابت فرص البناء والإعمار وأهمل مشروع إعادة بناء المجتمع حتى لم نعد نعرف (راسها من رجليها) ، كما يقول المثل .كل هذه الأسباب أدت إلى غياب المشاريع التنموية التي تمتص الأيدي العاطلة عن العمل وتزجها في ميادين العمل والبناء والتطور، فظهرت البطالة وانتشر الفقر وتفككت الأسرة وكانت نتائج كل ذلك ظواهر سلبية كثيرة تفشت في مجتمعنا العراقي ومن بينها ظاهرة التسوّل .
ضحاياها من الأطفال
بينما يقول ناظم أحمد 33 سنة يقول :أينما ذهبت تراهم شيوخاً ونساءً .ولكن النسبة الأكبر منهم أطفال بعمر الزهور. وبينت إحصائية أن 56 بالمئة منهم من الذكور و44 بالمئة من الإناث، ملابسهم رثة ووجوههم يعلوها الأسى يستجدون المارة في الشارع أو يدسون رؤوسهم الصغيرة داخل سيارات الأجرة يتوسلون الركاب . بينما كان على هؤلاء الأطفال والصبية أن يكونوا تحت رعاية أسرهم يضمهم السكن الذي يليق بهم ويأكلون ويشربون ويلبسون ويمرحون ويعيشون طفولتهم ويرتادون المدرسة ويحتلون مقاعد الدراسة يتعلمون ليصبحوا مؤهلين للحياة ليصنعوا مستقبل البلد وكيف لا وهم أبناء بلد غاية في الثراء ولا يحرم الرجال الذي يقودونه بشرف ونزاهة ودراية .ولكن لعنة الله على الزمن الأغبر ولعنة الله على سياسة آخر زمن التي ضيعت الآمال وهدمت البلاد وقتلت العباد وجلست تتفرج على ما حل بنا من مصائب .
مهنة بلا مجهود
وعلق خالد صبار54 سنة قائلاً: التسوّل مهنة لا تحتاج إلى خبرة ولا رأس مال يستسهلها البعض حتى لو كانت الظروف مهيأة له للعمل بمهنة شريفة يأكل من خلالها بعرق جبينه. فما على المتسول سوى أن يزيح عن جبينه نقطة الحياء ويستهين بكرامته ويمد يده مستجديا الآخرين . وفي هذا المجال يروي لنا الموروث الشعبي أن ابن شيخ عشيرة قتل ابن شيخ عشيرة أخرى ولما حانت ساعة الفصل وضمهم المجلس طلب والد القتيل من والد القاتل فدية ليست هي بالمال أو النساء والعبيد، بل طلب منه أن يخرج يدور البلدة يستجدي لمدة أسبوع . حين سمع أتباع الشيخ ما قاله عدو كلامه إهانة موجهة لشيخهم ولعشيرتهم ، وكاد يحصل صدام بينهم ولكن الشيخ والد القاتل هدأهم ووافق على الاستجداء لمدة أسبوع .ومن الطريف أن بعد انقضاء الأسبوع استمرأ الشيخ المسألة وواصل خروجه كعادته ولما وقف ولده وعشيرته بوجهه ينهونه أعلن أنه يترك المشيخة ولا يترك الجدية لما تحقق من كسب مادي لا تحققه أي مهنة أخرى ! لذا يصر البعض على ممارسة التسول رافضا أي منحة أو فرصة عمل تقدمها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أو غيرها .
التسوّل بالإنترنت
وأشار عبد الرحمن خلف 28 سنة يقول ظاهرة التسول أصبحت منتشرة في كل أرجاء العالم والوطن العربي ولكن بشكل مختلف عن أساليب الجلوس على الأرصفة والاستجداء في الشوارع والأسواق وغيرها من الأساليب التي نألفها .فقد أصبح الإنترنت وسيلة للتسول ، حيث يقوم أحدهم بفتح موقع تحت اسم ما ، سواء كان الاسم حقيقياً أم وهمياً يدعو من خلاله إلى تقديم المساعدة لمريض أو محتاج وتكون الدعوة مرفقة بصور بائسة تستدر عطف الآخرين. وتنشط أعمال هذه المواقع في المناسبات الدينية وخاصة في شهر رمضان المبارك بالاستجابة والتبرع لهذه المواقع تقرباً إلى الله وطلباً للمغفرة .
مقاولون ومتعهّدون
في الآونة الأخيرة طرأ تطور على هذه المهنة وأصبحت مجاميع من النساء والشيوخ والأطفال تقاد من قبل ما يسمون بالمقاولين أو المتعهدين وأصبحت للأمكنة التي تمتاز بارتفاع مدخولات ساكنيها أو عند تقاطع إشارات المرور أو المواقع التجارية ، ذات أثمان مرتفعة تصل إلى الملايين .ويفوز بها المقاول من خلال مزايدة علنية تجرى بين مجموعة من المقاولين. يشغل فيها المجموعة العاملة معه وفق نسبة من المال الذي يحصلون عليه . وقد يلجأ المتعهد الذي اشترى الموقع إلى استبعاد الخامل ومعاقبة المتهاون الذي يعمل دون المستوى المطلوب ولا يحقق إيرادا جيدا !
أقنعة التسوّل
بعد الحملات التي قامت بها الوزارات المعنية للحد من ظاهرة التسول أخذ البعض ومن باب الاحتيال ممارستها بأشكال مختلفة ووراء أقنعة شتى ، مثل بيع العلكة أو مسح السيارات المارة في الشارع أو بذريعة بيع علب الكلينس ومد اليد بالنساتل بدلا من اليد الفارغة، مع التلميح بمقاصد التسول .عامر حسن 11 سنة يتواجد في أحد الكراجات يحمل بيده كارتونه صغيرة فيها عدد من باكيتات العلكة، يقول: قتل أبي في الأحداث الطائفية وبقينا دون معيل ولكن جارنا أبو إسماعيل أخذني أنا واثنين من إخوتي يكبرونني سناً للعمل مع أولاده وتحت رعايته . أبو إسماعيل يوزعنا صباحا في عدة أماكن وفي آخر النهار يعود بنا إلى البيت سالمين بعدما يأخذ جزءا مما حصلنا عليه، مقابل حمايتنا وتوجيهنا. وعملنا هذا فيه مخاطر كثيرة، فنحن معرضون للاعتداء من قبل بعض السواق أو (العبرية) من (المنحرفين) أو معاقري المخدرات . وقد نقع تحت الضغط في العمل مع جماعات مشبوهة أو عصابات للقتل والاختطاف . كما أننا معرضون للضرب ، أو الاعتقال من قبل الشرطة ومصادرة ما بحوزتنا من مال .وأنا أتمنى أن تجد لنا الحكومة حلا وتوفر لنا سكنا ولقمة عيش نظيفة كي أتمكن من مواصلة الدراسة مثل باقي الأطفال الذين يعيشون في كنف أسرهم ويتلقون الرعاية والاهتمام ويذهبون إلى المدارس.
رأي مسؤول
في لقاء متلفز مع الأستاذ د.محمد الشمري النائب الأول لمحافظ بغداد تحدث قائلا : بعد الحروب التي خاضها النظام السابق والعمليات الإرهابية زادت أعداد المشردين والمعاقين واليتامى والأرامل، وبسبب الهجرة والتهجير من المحافظات إلى بغداد أتيحت للكثيرين الفرصة للجوء إلى مركز المدينة والتموضع حول المراكز الدينية والتجارية للاستجداء والتسول ،وقد كانت هناك لجنة مركزية على مستوى العراق لمكافحة التسول برئاسة وزارة العمل وعضوية كل الوزارات المعنية،مثل وزارة حقوق الإنسان والصحة والداخلية وعمليات بغداد . وفي عام 2010 صدر أمر بتشكيل لجنة محلية لمكافحة التسول في كل محافظة ، ومن ضمنها محافظة بغداد،وأعتقد أنه يجب أن يكون هناك تنسيق بين هذه اللجان .وكان هناك مقترح بترحيل هؤلاء إلى محافظاتهم . في اللجنة بالمحافظة أصدرنا كتابا إلى كل السيطرات والوحدات العسكرية وأجهزة الأمن بمنع كافة الباعة والمتسولين في التقاطعات ،لكن للأسف لم يطبق ما جاء في هذا الكتاب ،لأن المسؤولين الأمنيين تأخذهم بهؤلاء الشفقة والرأفة.
إن عدد المتسولين لا يمكن إحصاؤه بشكل دقيق لتنقلاتهم المستمرة ولعدم امتلاك بعضهم هوية الأحوال المدنية ،ولكن بشكل تخميني عددهم لا يزيد على ألف وخمسمئة متسول في بغداد وأن ظاهرة التسول موجودة في كل أنحاء العالم، ومن الممكن أن تضعف هذه الظاهرة ولكن لا يمكن أن تنتهي، فهناك أسر تحترف التسول بكاملها، والتسول حسب اختصاصيي الأمراض النفسية مرض نفسي وتتم معالجته بتأهيل المريض وإعادة الاعتبار إليه بعدما فقد اعتباره وما يدفع البعض هي الظروف المالية والاقتصادية الصعبة التي تعيشها كثير من الأسر .القانون 111 لعام 69 وفق المواد 390 و391 و392 تنص على العقوبة بالحبس لمدة شهر لمن يقبض عليه وهو يمارس التسول لأول مرة بثلاثة أشهر لمن يمسك به للمرة الثانية، كما صدر مؤخرا قانون الاتجار بالبشر وتشتمل الحكم على من يقود عمليات التسول بعقوبة بالسجن 15 تصل إلى سنة .ظاهرة التسول بدأت بسيطة ثم تعقدت وظهرت شبكات توظف الأطفال من الفقراء والمشردين وهؤلاء المتاجرون بدؤوا متسولين ثم تطوروا بعملهم .
مخاطر حضارية
للتسول مخاطر حضارية، فهي تعطي انطباعا مشوّها عن أوضاع المدينة ولها مخاطرها الاجتماعية ،لأن كثيرا من هؤلاء المتسولين قد يوظفون في أعمال إجرامية كما تنطوي على مخاطر أمنية، ويخشى أن يطوعوا للقيام بأعمال إرهابية أو تجسسية على بعض دوائر الدولة، وقد حصل مثل هذا الأمر. والآن لدينا خطة الإمساك بهؤلاء المتسولين وإيداعهم دور رعاية المسنين ودور رعاية الأحداث والأيتام، وقد نجحنا في تعيين أماكنهم،وفي العام 2012 نجحنا في إيداع 140 من المسنين من الرجال والنساء دور المسنين و140 من الأطفال من البنين والبنات وإيداعهم دور الأيتام والأحداث، وقد كانت هناك جهود وزارة العمل في دراسة أوضاع هؤلاء من خلال باحثين اجتماعيين والسعي لإبعادهم عن ممارسة التسول ،وحاولنا أن نحصل لهم على راتب الرعاية الاجتماعية،ولكن هذه المحاولة لم تفلح لأن المبالغ التي تخصصها شبكة الحماية الاجتماعية قليلة جدا ،وفي المحافظة لدينا خطة معالجة هؤلاء بشكل علمي مدروس بعد أن نوفر لهم كل ما يحتاجونه ودمجهم بالمجتمع، ولدينا خطة لمعالجة هذه المشكلة تعتمد على محاور عدة ، منها تجفيف منابع هذه الظاهرة والتفريق بين الطارئين وبين المحترفين ، فبالنسبة للطارئين نؤمن أن السبب المادي أو الاقتصادي وراء جنوح هؤلاء، لذا نحن دائما نطالب البرلمان بالإسراع في تشريع قانون الضمان الاجتماعي الذي يوفر حياة كريمة لكل عائلة لتمنع أبناءها من ممارسة التسوّل أو غيره .
صندوق رعاية
كما أنّ لدينا الآن قانوناً مهماً جدا هو قانون صندوق رعاية اليتيم، وقد وصل إلى مراحله الأخيرة بموجبه يمنح مبلغ 150 ألف دينار لكل يتيم ،إضافة إلى كسوة شتوية وأخرى صيفية وفي المناسبات الدينية تحد إلى درجة كبيرة من هذه الظاهرة . والمحافظة خصصت هذا العام 2013 نصف ميزانية البترودولار لدعم ترميم دور الأيتام وصرف رواتب لمساعدة الأسر الفقيرة ولأصحاب الأمراض المزمنة ،كما أن هناك قوانين مهمة ،منها تعويض المتضررين، كما هناك قانون يعطي للأسر التي فقدت معيلها راتبا. كما يجب أن يكون هناك دور فاعل للمجتمع في كل الفعاليات الاجتماعية لمكافحة هذه الظاهرة .
717 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع