وثائق عراقية صادرة عن المركز الوطني لنقل الدم ملقاة على الأرض بعد أن تعرض للسرقة في 6 مايو 2003 (أ ف ب)
اندبيندت/ غفران يونس:يتطلب حفظ الذاكرة التاريخية للشعوب توثيق الأحداث السياسية والاجتماعية عبر مؤسسات تعنى بأرشفتها، فلا يمكن لشعب أن يعيش من دون ذاكرة تكون شاهداً على كل الجوانب التي مر بها عبر العصور، وقوة فاعلة في الحاضر، كما أن الأمر لا يتعلق بتجميع الوثائق وتكديسها في مؤسسات متخصصة فحسب، بل يتعلق بتحليلها وتقديمها للباحثين.
عانى العراق ولفترات طويلة تداعيات الاحتلال والانقلابات السياسية والحروب التي فرضت وجود أعداد لا حصر لها من الوثائق، لكنها غالباً ما كانت تتعرض للإهمال أو السرقة فتندثر وتخفتي معها أحداث تاريخية مهمة، فتتحول مراحل سياسية واجتماعية إلى تاريخ شفاهي يتعرض للحذف والإضافة، فعند تصفح موقع دار الكتب والوثائق الوطنية نجد أنه خصص رابطاً يتضمن التراث الوثائقي المفقود بعد عام 2003، وهو ملف يقع في 470 صفحة ويتضمن أكثر من 3 آلاف كتاب نادر ووثيقة تاريخية فقدت بعد تعرض دار الكتب والوثائق إلى التخريب والسرقة إبان الأحداث التي رافقت الاحتلال الأميركي في أبريل (نيسان) 2003.
سياسة وكراهية
يرى المؤرخ رشيد الخيون أن "معضلة التوثيق في العراق تتمثل بكونه خاضعاً للسياسة، فإذا لم تتلف وثائق النظام القديم من الجديد تدرج في أحسن الأحول تحت بند الممنوعات"، منوهاً بأن "حنا بطاطو صاحب كتاب (العراق)، وجد وثائق أمنية خطرة تخص العهد الملكي والجمهوري الأول مخزونة كأنها نفايات، كما أنه طمس قيد النفوس لأشهر رئيس وزراء العراق وهو نوري السعيد، فبعد قتله لم يعد عراقياً".
الخيون يوضح أن "التوثيق في العراق خضع للسياسة والحزبية والكراهية ولم يتحول إلى ثقافة، فالتوثيق هو ثقافة وفن وصناعة وجميعها بحاجة إلى التخلي عن الموقف السياسي"، مردفاً "اختفت وثائق الأحزاب والجماعات، فأية جماعة تصبح مغضوباً عليها تدمر وثائقها بينما هي جزء من تاريخ العراق، فكم من دوريات مهمة لأحزاب سياسية اختفت نهائياً أو تسربت إلى الخارج، كما أن المهتم بالتوثيق ربما يعرض نفسه للمساءلة، فعلى سبيل المثال من يهتم بجمع وثائق النظام السابق يحاسب على أنه من مروجي ذلك النظام الذي تعرض للاجتثاث".
قانون الحفاظ على الوثائق
حدد قانون الحفاظ على الوثائق رقم (70) لعام 1983 طريقة تنظيم حفظ الوثائق، وهي التي تضم المراسلات والسجلات والمحررات الرسمية والمستندات وكل وعاء لحفظ المعلومات التي يتم تثبيتها بالحرف أو الرقم أو الصورة أو الرسم أو التخطيط، سواء أكان على شكل ورقة أو صورة أو خريطة أو فيلم أو شريحة فيلمية (سلايد) أو ختم أو شريط ممغنط أو أي وعاء آخر".
كما حدد القانون مجموعة من الإجراءات التي تضمن الحفاظ على الوثائق عن طريق إيداع أصولها لدى المركز الوطني للوثائق الذي يعرف حالياً بدار الكتب والوثائق "إذا كانت ذات أهمية تاريخية أو تراثية أو علمية أو فنية بتقدير الدائرة التي تعود لها تلك الوثائق وذلك بالتنسيق مع المركز"، واستثنى القانون من ذلك الوثائق الأمنية والعسكرية والسياسية بحسب تقدير الجهة المتخصصة.
ضياع الوثائق
على رغم وجود قانون يلزم وزارات الدولة بتسليم وثائقها إلى دار الكتب والوثائق وهي الجهة المعنية بحفظ وتصنيف وأرشفة الوثائق، إلا أن كل الدوائر تمتنع أو لا تهتم بتسليم تلك الوثائق للجهة المتخصصة.
يرى أستاذ التاريخ المعاصر ستار الجابري أن ضياع الوثائق العراقية جرى على مرحلتين، الأولى من تأسيس الدولة العراقية وحتى عام 2003 بسبب عدم إدراك أهمية الوثيقة في الدراسات العلمية والأكاديمية، والثانية ما بعد 2003 وهي المرحلة التي شهدت عملية إتلاف الوثائق وحرقها فضلاً عن عدم المعرفة بأهميتها، مما يعد "جريمة كبرى"، بحسب تعبيره.
يوضح الجابري "بعد الاحتلال الأميركي تعرضت الوثائق لجريمة ذات وجهين، تمثل الأول بإتلافها وحرقها أثناء عملية السلب والنهب التي أعقبت سقوط النظام، أما الوجه الثاني فتمثل بسيطرة الجهات الحزبية على بعض الوثائق المهمة والمتاجرة بها وممارسة الابتزاز"، وتابع "كما سيطرت القوات الأميركية على وثائق مهمة نقلت للولايات المتحدة وجرى تصويرها والاحتفاظ بنسخ منها، وعلى رغم إعادة كثير منها إلا أن الجهات المتخصصة في العراق لم تعمل على تصنيفها لكي تكون متاحة أمام الباحثين".
شرط النزاهة
كثيراً ما تعرض وثائق تتماهى مع أيديولوجيات النظام السياسي في حين تتوارى أخرى لا تتفق مع توجهاته، مما يعرض كثيراً من الوثائق لعملية الانتقاء فتختفي كثير منها بحجة أنها تمس أمن البلاد، في هذا السياق يرى أستاذ الوثائق والمخطوطات التاريخية محمد الجميلي، أن "من يتعامل مع الوثائق التاريخية لا بد أن تتوفر فيه شرط النزاهة والأمانة في النقل، فضلاً عن الشجاعة في عرض الوثيقة كما هي من دون تغيير أو تحريف حتى إذا لم تتوافق مع هواه".
يوضح الجميلي أنه "لا خشية من تحريف الوثائق، إذ سرعان ما تنكشف الحقائق بسبب حفظ النسخة الأصلية لها أو صور عنها في دور متخصصة بحفظها"، مشيراً إلى أن "إتاحة عرض الوثائق للباحثين والمهتمين يعتمد على محتواها، فمثلاً إذا كانت تمس الأمن القومي للبلد كعقد اتفاق مع بلد آخر من دون أن يطلع الجمهور على كل تفاصيلها، فربما تؤثر سلباً في الاستقرار المجتمعي، فمثل تلك الوثائق لا يمكن أن تكون متاحة للقراءة إلا بعد مرور ما لا يقل عن 25 أو 50 سنة حتى تنتهي صلاحيتها الزمنية".
وفي السياق نفسه يوضح المؤرخ فايز الخفاجي أن "الوثائق لها عمر افتراضي في النشر، فمنها السرية ومنها العامة، والأولى تحتاج إلى مدة زمنية لكي يكشف عنها ومنها ما يبقى سرياً ولا يكشف عن مضمونه"، مشيراً إلى أن كثيراً من الوثائق العراقية عادت في زمن حكومة مصطفى الكاظمي، إلا أنها لم تتح أمام الباحثين بسبب المحظور الأمني.
خط أحمر
يعتبر أستاذ التاريخ المعاصر ستار الجابري أن حق الحصول على المعلومة في العراق بمثابة "خطر أحمر" فلا يمكن أن تكون الوثائق متاحة أمام الجميع حتى إن كثيراً من الباحثين يلجأون إلى الاطلاع على الوثائق الأجنبية التي تتحدث عن الشأن العراقي لكي تسد الفراغ في المعلومات التي يسببها انعدام أو قلة الوثائق الرسمية العراقية.
أما أستاذ الوثائق والمخطوطات التاريخية محمد الجميلي فيرى أن هناك كثيراً من الصعوبات التي تواجه الباحث الذي يسعى إلى الحصول على الوثائق، أبرزها عدم تعاون المسؤول عن الأرشيف الوثائقي خشية تعرضه للمساءلة القانونية إذا ما أثار الكشف عن محتوى الوثيقة تفاعلاً كبيراً مع الجمهور سلباً أو إيجاباً.
وعلى رغم وجود قانون ينظم حفظ الوثائق ويتمثل بضرورة أن تقوم الوزارات بتزويد دار الكتب والوثائق بنسخ عن الوثائق الخاصة بها، إلا أن العراق لم يتقدم في هذا المجال، إذ يوضح الجابري أنه "على رغم الجهود الكبيرة لدار الكتب والوثائق في تصنيف وتوثيق الوثائق العراقية الرسمية إلا أنها ما زالت تحبو في هذا المجال بسبب عدم تعاون الوزارات المعنية".
الموروث الوطني
تعد دار الكتب والوثائق الوطنية (المركز الوطني للوثائق) الجهة الرسمية الوحيدة في العراق المعنية بحفظ الأرشيف الوطني بحسب القوانين الخاصة بالحفظ ومنها قانون حفظ الوثائق رقم 37 لعام 1983 وقانون 37 لعام 2016 الذي يلزم المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني، وكذلك الأشخاص بتسليم الوثائق إلى دار الكتب والوثائق بوصفها المؤسسة المعنية بحفظ الأرشيف والموروث العراقي.
يوضح المدير العام لدار الكتب والوثائق إشراق عبدالعادل أن الوثائق الموجودة في الدار متاحة للباحثين بموجب كتاب رسمي لتسهيل مهمة الباحث، يرسل من الجامعة أو الجهة المعنية التي يعمل بها الباحث ويحدد عنوان البحث والفترة الزمنية المطلوبة، مشيرة إلى أن آلية البحث عن الوثائق تكون عن طريق قاعدة البيانات الموجودة على الموقع الإلكتروني لدار الكتب والوثائق، إذ يزود الباحث بـ"جاكيت مايكروفيش" ويقرأ بجهاز "قارئ المايكروفيش ليدر" ويزود الباحثين بقرص مدمج بالوثائق التي تكون مدار بحثه، ويحق للباحث أن يحصل على 50 وثيقة باليوم الواحد، وكجزء من الحفاظ على الموروث الوطني يوقع الباحث الذي حصل على نسخة من الوثائق على تعهد يلزمه بمنع تداولها أو المتاجرة بها.
951 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع