سياسة النأي بالنفس: مفهوم لم يعد مفهوماً
العربية نت/عبد الرحمن الجديع:يتردد في السنوات الأخيرة مصطلح "النأي بالنفس" الذي تبلور حول مفهوم سياسي هو الابتعاد عما تعانيه بعض الدول العربية من أزمات وصراعات نتيجة لتداعيات الربيع العربي، أو سواه من خلافات طائفية وعرقية في تقاسم السلطة والنفوذ، وإكراهات الغلبة.
يعطي هذا المصطلح، فضلاً عن ذلك، انطباعاً بأنّ الدولة التي تتبنى هذا المفهوم قد اتخذت موقفاً متميزاً على مسرح السياسة الإقليمية والدولية، وأنّ مثل هذا الانطباع تظهره الرغبة في انتهاج الاستقلالية في ممارساتها السياسية إزاء قضايا المنطقة. إنّ اعتماد مثل هذه السياسة يرتبط بسيادة الدول التي تكفل لها، في الأصل، الحرية الكاملة بالتصرّف على الساحة الإقليمية والدولية وفقاً لمقتضيات المصالح الوطنية، بعيداً عن الاعتبارات القانونية بين الدول، أي إنّ مثل هذه الممارسات تتجاوز المفاهيم البنيوية للنظام الدولي، كالتكتلات السياسية والتحالفات العسكرية ومدى شرعية هذه الممارسات وفقاً لنصوص القانون الدولي والمواثيق والاتفاقات الدولية، كقرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة.
إنّ ممارسة سياسة النأي بالنفس، ببساطة، تعني قيام الدولة التي أعلنت هذه السياسة باعتماد نهج مستقل يمنحها المرونة للتعامل مع الفرقاء في الصراعات أو الأزمات، من غير الميل لجانب دون آخر، أو التدخل في الشؤون الداخلية للدول المعنية، من حيث مدّها بالسلاح، أو غير ذلك من المواقف التي تعكس الانحياز لهذه الدولة أو تلك. هذا السلوك هو موقف سياسي تتخذه الدول في مثل هذه الحالات بمحض إرادتها وطوعياً، بحيث تلزم نفسها بسياسة خارجية عمادها الاستقلالية في قراراتها، بعيداً عن الأزمات في المنطقة. فعلى سبيل المثال؛ اتخذت الحكومة اللبنانية في عهد رئيس الوزراء الأسبق صائب سلام في بيانها الوزاري سياسة النأي بالنفس، وعدم الانزلاق في أتون الأزمة السورية، وكان من المفترض من مختلف مكوّنات الحكومة التقيد بشرف الالتزام بما ورد في البيان الوزاري؛ بحكم أنّ تلك سياسة الدولة، علاوة على أنّ سياسة كهذه، هي وحدها الكفيلة بإبعاد لبنان عن صراعات المنطقة وتحميله تداعيات لا قبل له بها. وتزداد هذه الاستدراكات أهمية، إذا علمنا أنّ هذه الممارسات أصبحت من قبل بعض أعضاء الحكومة أمراً يُشعل التجاذبات السياسية بين القوى اللبنانية حتى أصبح يطلق على تلك الممارسات موقف اللاموقف.
واستطراداً، فإنّ مفهوم النأي بالنفس يختلف عن مفهوم الحياد الذي يمثل موقفاً قانونياً تلتزم فيه الدولة بعدم المشاركة والوقوف على مسافة واحدة من الأطراف المتنازعة، ويترتب على ذلك التزامات وحقوق. والجدير بالذكر هنا أنّ هذا الموقف لا بد أن يكون معترفاً به من قبل المجتمع الدولي، وخصوصاً الأطراف المتنازعة، من حيث النزاهة والمصداقية والحيادية في المواقف، كما كان حال سويسرا في السابق إزاء الصراعات بين الدول الأوروبية. وبالمقارنة يختلف "النأي بالنفس" أيضاً عن مفهوم عدم الانحياز، الذي برز في مؤتمر باندونج في اندونسيا١٩٥٥، وإن كان هذا الموقف يعد اتجاهاً سياسياً الآن، إذ إنه يشمل في السياسة الانحياز لفريق كتلوي من الدول اتخذت نهجاً جديداً في العلاقات، من حيث مناهضة الاستعمار، ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، ورفض سياسات التكتلات والأحلاف العسكرية بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة وبين الاتحاد السوفييتي - روسيا - حالياً، بعد الحرب العالمية الثانية، واستعار الحرب الباردة بينهما.
مرونة مصطلح النأي بالنفس يمكّن الدولة من الحفاظ على استقلالية قرارها السياسي، ويجنّبها من التورط والانزلاق في مستنقعات النزاعات والصراعات المسلحة، وتفادي سلبياتها، بما يخدم مصالحها الوطنية، خصوصاً وأنّ المجتمع الدولي حالياً يتسم سلوكه بالمعيارية والازدواجية الواضحة في التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية، وفقاً لمقتضيات مصالح الدول الكبرى.
964 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع