رووداو ديجيتال:كانت منطقة، أو محلة الوزيرية، بجانب الرصافة من بغداد، وإلى الجنوب من مدينة الأعظمية، قرب منطقة الكسرة، تُصنف باعتبارها واحدة من أجمل المناطق السكنية وأكثرها ترفاً من حيث مساحات البيوت والحدائق وأساليب عمارتها الباذخة باستخدام الطابوق البغدادي والشبابيك العالية والأبواب العريضة.
كنا عندما ننظر إليها من الطابق السادس في جريدة الجمهورية القريبة منها، نراها عبارة عن بستان أو مجموعة حدائق مزدحمة بأشجار الحمضيات والتين التي تتدلى للمارة من حدائق ذات أسيجة ناصية، تمكن المارة من جني الثمار دون ممانعة أهل الدار، بينما شوارعها مؤثثة بأشجار اليوكالبتوس المعمرة والتي كان العشاق يحتمون بأغصانها وهم يحفرون أسماءهم على جذوعها.
في زيارتي الأخيرة لبغداد تعمدت زيارة الوزيرية التي عشت فيها أكثر من خمس سنوات حيث درست في أكاديمية الفنون الجميلة، أحد أبرز معالم هذا الحي، كانت بناية الأكاديمية منزل السياسي العراقي الشهير نوري السعيد (الباشا)، رئيس الوزراء في العهد الملكي. بحثت عن أسماء العشاق التي لم تمحها عوامل الطبيعة أو غابت بفعل فاعل، بل الأشجار ذاتها غابت والحدائق اختفت لتحل مكانها بيوت صغيرة (مشتملات) بمساحات لا تزيد عن 100 متر مربع، بعد أن كانت بيوت الوزيرية تبلغ مع مساحات حدائقها ما بين 3 آلاف إلى 5 آلاف متر مربع.
لنعد إلى البداية.. حيث تقول المصادر التاريخية إن تسميتها بالوزيرية نسبة إلى والي بغداد العثماني رشيد باشا الكوزلكلي، الذي حكم بغداد ما بين 1851 حتى 1856 وكان لقبهُ الوزير، وكانت تسمى بالمشيرية سابقاً.
بقايا بيت تراثي في الوزيرية..تصوير معد فياض
لكن المعروف بغدادياً أنها سُميت بالوزيرية لكثرة الوزراء الذين سكنوا فيها، حيث كان الملك غازي قد وزع أراضي الوزيرية الموروثة منذ العهد العثماني إلى الوزراء والقادة العسكريين، حدث ذلك في وقت عرفت العمارة البغدادية فيه وجود المعماريين الأكاديميين، وبعضهم كان قد درس تواً في إنجلترا ودول أوروبية أخرى، وصار صاحب الأرض يشرح للمعمار احتياجاته ليضع المهندس تصميمه. إضافة إلى ذلك تم وضع تصاميم لبيوت وفيلات قريبة من فيلات لندن أو روما أو باريس أو إسطنبول مع مراعاة الوضع الاجتماعي والبيئي في بغداد، وشكلت هذه الفيلات أسلوباً معمارياً حداثوياً بالنسبة للعمارة البغدادية.
سكنت الوزيرية شخصيات سياسية وعسكرية وثقافية معروفة، أبرزهم: الباشا نوري السعيد قبل أن ينتقل إلى كرادة مريم، وأصبح داره مقراً للسفارة المصرية ثم إلى أكاديمية الفنون الجميلة.
وبيت السياسي العراقي ياسين الهاشمي، رئيس وزراء في العهد الملكي، والذي تقدر مساحته بخمسة دونمات، يتوسطه حديقة كبيرة مع حوض سباحة. شهد هذا البيت التراثي عمليات تأجير لجهات أجنبية استخدمته كسفارات، كما تم تأجيره من قبل الورثة إلى نقابة الصحفيين العراقيين ليكون نادياً اجتماعياً للصحفيين لغاية عام 2003.
وسكن الوزيرية جعفر العسكري، وزير الدفاع ومؤسس الجيش العراقي، ثم ورث بيته نجله نزار جعفر العسكري وزوجته سلوى ابنة ساطع الحصري، وهو والد الكاتبة الراحلة ميادة العسكري.
كما سكن الوزيرية الشاعر العراقي الكبير جميل صدقي الزهاوي عام 1937، الذي صممه المهندس العراقي شريف يوسف، وكان يسكن فيه خالد الزهاوي، متصرف لواء بغداد، وفي عام 1971 ولغاية عام 1986 تم استئجار البيت ليكون معهد الدراسات الموسيقية (النغمية)، وتم هدم هذه الدار، مما أثار ضجة وجدلًا في الأوساط الفنية والثقافية، باعتبار هذه البناية معلماً تراثياً يمثل عمارة حقبة الثلاثينيات. ومن الشخصيات السياسية البارزة التي سكنت في الوزيرية: نجيب الربيعي، رئيس مجلس الرئاسة في العهد الجمهوري، والضباط ناظم الطبقجلي، صلاح الدين الصباغ، فهمي سعيد، ومحمود سلمان.
ومن أبرز المبدعين الذين أقاموا في الوزيرية الفنان التشكيلي جواد سليم صاحب نصب الحرية في الباب الشرقي، وشقيقته نزيهة سليم حيث كان بيتهم قريباً من أكاديمية الفنون الجميلة، والشاعر محمد مهدي البصير، كما سكنها القاص المعروف عبد الملك نوري.
ومن أبرز المعالم الثقافية والتعليمية في الوزيرية وجود المدرسة المأمونية والتي درس فيها الملك فيصل الثاني، وأكاديمية (كلية الفنون) الجميلة التي ما زالت قائمة وتستقبل دارسي المسرح والسينما والفنون التشكيلية.
في زيارتي الأخيرة لحي الوزيرية، لم أتعرف عليها لاختفاء معالمها المعمارية، وغياب أهلها الأصليين. تهدمت قصورها وفيلاتها الفارهة التي بنيت بأسلوب معماري مترف، وحلت مكانها كتل كونكريتية مغلفة بالزجاج والمرمر وفق أسلوب معماري هجين ومشوه، وجفت حدائقها وغابت أشجار اليوكالبتوس من شوارعها الخربة بفعل المطبات وعدم الاهتمام بها.
489 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع