موروث يذبل.. هوية المطبخ العراقي تُصارع "شبح المناخ

 شفق نيوز/بغداد - صفا الطائي:لم يعد تغيّر المناخ في العراق قضية بيئية فحسب، بل تحوّل إلى تهديد مباشر للموروث الغذائي الذي ميّز المائدة العراقية لعقود طويلة؛ من تراجع زراعة الأرز العنبر الشهير بنكهته ورائحته المميزة، إلى انحسار إنتاج التمور التي طالما ارتبطت بالهوية العراقية.

يُعد العراق من أوائل الحضارات الزراعية في التاريخ، لكنه اليوم يواجه واقعا مختلفا بفعل شحّ المياه نتيجة التغيرات المناخية وبناء السدود على منابع دجلة والفرات، فضلا عن ارتفاع درجات الحرارة وتكرار العواصف الرملية، إلى جانب زيادة ملوحة التربة، خصوصا في جنوب البلاد.

هذه العوامل دفعت الحكومة في فترات سابقة إلى وقف زراعة الأرز بشكل كامل، قبل أن تعود الزراعة بمساحات محدودة. كما تقلّصت أعداد النخيل وتراجع تصدير التمور.

في هذا الصدد، كان فلاح الشمري "أبو حسين" - مزارع من الديوانية - يزرع الرز العنبر في مساحات واسعة، لكن اليوم حُرم من المياه تماماً، لتتحول أرضه إلى جرداء لا تصلح حتى للرعي.

أما أبو خضر، - مزارع من بابل – فلم يكد يتحدث إلا مع كثير من الحسرة، قائلاً: "نخيلنا الذي ورثناه عن آبائنا يموت أمام أعيننا بسبب الملوحة والجفاف. أشجار عمرها عشرات السنين جفّت ولم يعد لها ثمرة. وهذا يقطع مصدر رزقنا ورزق أولادنا".

في ذلك الزمان، قبل أكثر من 20 عاما، كانت موائد الأرياف عامرة بخيرات الأرض، كما تتحدث أم حسين، لافتة إلى أنها كانت تزرع العنبر وتحصد تمورا تكفي العام كله، وفي مواسم الخير كانت توزع الرز والتمر على الجار والأقارب، وكان البيت لا يخلو من اللبن والجبن الذي يصنع من حليب الجاموس، وفق قولها.

وتأكيداً لما ورد على لسان المزارعين، لفت المهندس الزراعي علي الجبوري - من ميسان - إلى أن الكثير من المزارعين تركوا زراعة الأرز واستبدلوه بمحاصيل أقل استهلاكا للماء مثل الذرة البيضاء أو أشجار السدر.

وذكر أن "هناك عائلات كاملة كانت تعيش من زراعة أرضها، لكنها اليوم هجرت الأرض أو تحوّلت إلى زراعات أخرى لا تحمل القيمة الثقافية ذاتها، ولكنها فقط تتحمّل الحر والجفاف".

في مقابل ذلك، رأى الخبير في الاقتصاد الزراعي، كريم الحمداني، أن تغيّر المناخ يضرب اليوم أهم ما يميز المائدة العراقية، "الأرز العراقي"، الذي كان يُزرع على مساحات واسعة في النجف والديوانية وبابل، بات إنتاجه لا يغطي حتى حاجة السوق المحلية، والسبب هو استهلاكه الكبير للمياه، في وقت يعاني فيه العراق من عجز مائي سنوي يُقدّر بأكثر من 10 مليارات متر مكعب".

وأضاف الحمداني، أن "الأمر لا يقتصر على الأرز، وإنما حتى إنتاج التمور انخفض بشكل ملحوظ بسبب الحرارة الشديدة وملوحة المياه، ما جعل حجم الثمار أصغر وجودتها أقل، وهذا يهدد صادرات العراق التي كانت تصل إلى عشرات الدول".

بدوره، أفاد أستاذ البيئة في جامعة بغداد، الدكتور فاضل الكعبي، بأن "الأزمة لم تعد محصورة في الزراعة فقط، بل لها انعكاسات اجتماعية واقتصادية واضحة"، مردفاً: "اليوم خسرنا جزءا من نكهة أكلاتنا التراثية بعدما اضطررنا للاعتماد على الأرز المستورد منخفض الجودة.. آلاف المزارعين هجروا أراضيهم بسبب شحّ المياه، وهذا أدى إلى تراجع دخل عائلات كاملة وارتفاع أسعار الأطعمة التقليدية في الأسواق. الأخطر من ذلك أن الأمن الغذائي بات مهددا مع زيادة الاعتماد على الاستيراد".

وطبقاً للكعبي، فإن "المعالجة ممكنة لكنها تحتاج إلى رؤية استراتيجية. يجب الاستثمار في البحوث الزراعية لتطوير أصناف من الأرز والتمور تتحمل الجفاف والملوحة، واعتماد تقنيات ري حديثة مثل التنقيط والرش بدلا من الري بالغمر التقليدي. كذلك من المهم تقديم دعم مباشر للمزارعين عبر قروض ومساعدات فنية، إلى جانب تعزيز التفاهمات الإقليمية حول حصص العراق المائية".

وزاد: "الأهم من هذا هو إطلاق برامج وطنية لحماية الموروث الغذائي، سواء الأرز العنبر أو التمور أو منتجات الأهوار، لأنها ليست مجرد منتجات زراعية، بل جزء من هوية العراق الثقافية".

من جانبه، نبه المتحدث باسم وزارة الزراعة العراقية، محمد الخزاعي، إلى أن "الجفاف وتراجع مناسيب الأنهار أثّرا بشكل مباشر على الخطط الزراعية في السنوات الأخيرة، خصوصا في محاصيل استراتيجية مثل الرز العنبر والتمور"، مبينا أن "الوزارة اضطرت إلى تقليص المساحات المزروعة بالرز في النجف والديوانية لتوفير المياه للمحاصيل الأخرى، كما أن ملوحة المياه في البصرة أثّرت على بساتين النخيل وأدت إلى موت أعداد كبيرة من الأشجار".

ووفق الخزاعي، فإن الوزارة تعمل حاليا على دعم المزارعين عبر توفير بذور وأصناف محسّنة أكثر تحمّلا للجفاف، وتشجيع استخدام أنظمة الري الحديثة بدلا من الري التقليدي بالغمر، كما أن الوزارة تتابع مع وزارة الموارد المائية والجهات المعنية ملف الحصص المائية مع دول الجوار، لضمان حصة عادلة للعراق. هدفنا حماية الإنتاج المحلي والحفاظ على الموروث الزراعي والغذائي الذي يشكل جزءا من هوية البلاد".

أما وزارة الموارد المائية، فهي تواجه تحديات كبيرة بسبب قلّة الإيرادات من دول الجوار وتغير المناخ الذي أدى إلى انخفاض معدلات الأمطار والجفاف المتكرر.

وبحسب المتحدث باسم الوزارة، خالد شمال، فإن "الوزارة تعمل على عدة مسارات لمعالجة الأزمة، من بينها التفاوض مع دول الجوار لتأمين حصص عادلة من نهري دجلة والفرات، فضلا عن تنفيذ مشاريع خزن وصيانة السدود لمواجهة موجات الجفاف".

وختم شمال، حديثه بالتشديد على أهمية، التركيز على ترشيد الاستهلاك المائي عبر إدخال أنظمة الري الحديثة كالري بالرش والتنقيط بدلا من الري بالغمر، الذي يهدر كميات كبيرة من المياه. كما يجري العمل على إطلاق حملات توعية للمزارعين والمواطنين بضرورة الاقتصاد في استخدام المياه، هذه الإجراءات، إلى جانب التعاون الإقليمي والدولي، هي السبيل لضمان أمن العراق المائي وحماية موارده الزراعية والغذائية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

930 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع