هذا الكتاب
صدر هذا الكتاب لأول مرة عام 2015 عن دار ضفاف / قطر وبيع ووزع في العراق وأقطار عربية أخرى، واليوم يعاد نشره على شكل حلقات في موقع الگارينيا الذي يديره بكفاءة الصديق العزيز الأستاذ جلال جرمگا رفيق تجربة عشناها معاً في سجن أبو غريب قسم الأحكام الخاصة (السياسي) .
بعد ثلاثة سنوات من صدوره لأول مرة، لم أشأ أن أغير فيه كلمة واحدة، وهكذا سيصدر الكتاب بطبعته الثانية دون تعديل يذكر، إنها تجربة إنسان عراقي أراد خدمة بلاده وأمته، وبعد تجربة تناهز اليوم 61 عاماً كانت حافلة بكل شيئ، واليوم نتوجه للأجيال الجديدة أن تواصل خدمة الأمة، بالإخلاص والصبر .
وإذا كانت لي نصيحة أزجيها للقراء، فإن المرحلة دون أدنى ريب صعبة، وليس بمقدور إلا الرجال الشجعان على احتمال مصاعبها، ولكني أنصح من ليس بقدرته خوض هذا البحر الدامي، يريد أن ينأى بنفسه، وهذا خياره، لكن ..... لا يقترب من حدود لا يرضاها الوطن .. هناك أخطاء لا يصلحها الاعتذار، إذ تحدث ندبة لا تزول، وهي التعاون من الأجنبي، وأكثر تحديداً التعاون مع المحتل.
أتمنى للجميع قراءة ممتعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيرة ذاتية: د. ضرغام الدباغ
المعطيات الأساسية:
الاسم : ضرغام عبد الله الدباغ
الجنسية : ألمانيا الاتحادية
مكان وزمان الولادة : بغداد 1 / تموز / 1944
الدراسة الابتدائية : 1956 أربيل
الدراسة المتوسطة : 1959 كركوك
الدراسة الثانوية :1961 بغداد / ثانوية الأعظمية
كلية الأداب / جامعة دمشق : 1970 / 1974
دبلوم عالي/ ماجستير تاريخ معاصر : جامعة لايبزج / ألمانيا 1975 / 1977
دكتوراه / علوم سياسية : جامعة لايبزج / ألمانيا 1979 / 1982
تدريب وتأهيل في مؤسسة أكوا : برلين / ألمانيا 2003 / 2004
دورة تدريب اقتصاد العمل : برلين / أكاديمية اقتصاد العمل ومواصلة التعليم / 2004
العمل والوظائف:
1975 / 1983 : مستشار / وزير مفوض في وزارة الخارجية العراقية منها:
1975 / 1979 مستشار في سفارة الجمهورية العراقية / برلين
منذ 1986 : عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين
منذ 1986 : عضو الجمعية العراقية للعلوم السياسية
1986 / 2002 : مدرس في الجامعة المستنصرية / بغداد.
2003 / 2004 : مسؤول قسم الدراسات والبحوث/ المعهد الثقافي العربي / برلين.
2005 ــ 2010: أستاذ مساعد / أستاذ في الجامعة الحرة / لاهاي / هولندة.
منذ 2006 : مدير المركز الألماني العربي للدراسات والنشر والإعلام.
اللغات :
العربية، الألمانية، الإنكليزية، التركية، الكردية (بدرجة متوسطة)
آ / المؤلفات المنشورة :
* الكتب المنشورة :
1. المقدمات السياسية للاستقلال الوطني في العراق: (رسالة ماجستير باللغة الألمانية / لايبزغ / ألمانيا).
Die Politischen Voraussetzungen der Natinalen unabhängigkeit des Irak. Leipzig 1977.
2. سياسة التوسع الأمريكية في الشرق الأوسط: (أطروحة دكتوراه باللغة الألمانية / لايبزغ / ألمانيا).
Die Expansionspolitk der USA im Nahenosten, Leipzig .1981 .
3. لوحة وتاريخ (كراس باللغة الألمانية): د, ضرغام الدباغ، المعهد الثقافي العربي / برلين 2003
Ein Gemaelde und eine Geschichte, Dr. Dergham Aldabak, Arabisches Kulturinstitut, Berlin 2003
4. حرب فوكلاند: الأبعاد السياسية والاستراتيجية للصراع البريطاني الأرجنتيني حول جزر فوكلاند. بيروت ـ بغداد / 1985، المؤسسة العربي للدراسات والنشر.
5. قوة العمل الدبلوماسي في السياسة: دار آفاق عربية للصحافة والنشر، بغداد / 1985.
6. قضايا الأمن القومي والقرار السياسي: الدار الوطنية للنشر والتوزيع، بغداد / 1986.
7. تطور نظريات الحكم والسياسة العربية: جزءان: العصر القديم والوسيط، بغداد / 2006.
8. تطور نظريات الحكم والسياسة العربية: العصر القديم (نشر كمسلسل في مجلة البلاد)، تورنتو / كندا، 2007.
9. تطور نظريات الحكم والسياسة العربية: العصر القديم، دار نشر الشرق الأوسط / نشر ككتاب الكتروني، لندن / 2010
10. أشهر الخطابات في تاريخ العرب والإسلام: دار ضفاف / دبي / الأمارات المتحدة، 2013.
11. الاستهلال والاستكمال: دراسة مقارنة الفكر السياسي الرافديني / الاغريقي، دار ضفاف / دبي، 2014..
12. الاستهلال والاستكمال: دراسة في الفكر السياسي المقارن، العربي الإسلامي/ المسيحي الليبرالي. دار ضفاف، دبي، 2014
13. الحرب الأهلية الأسبانية: (ترجمة) تأليف زيجفريد كوكلفرانتز، دار ضفاف / دبي . 2014
14. قمر أبو غريب كان حزيناً: شهادة في التاريخ العراقي الحديث، دار ضفاف / دبي . 2014.
15. الإعلام والرأي العام: محاضرات، دار أكاديميون / عمان/ المملكة الأردنية الهاشمية 2015.
16. مباحث في الفكر السياسي الإسلامي: دار أكاديميون / عمان / المملكة الأردنية الهاشمية 2015.
17. محاضرات في العلوم السياسية: دار أكاديميون / عمان / المملكة الأردنية الهاشمية. 2015
18. الشرق في عيون الغرب: (ترجمة)، دار أكاديميون/ عمان/ المملكة الأردنية الهاشمية. 2015.
19. قلب الأشياء: (ترجمة)، دار أكاديميون / عمان / المملكة الأردنية الهاشمية. 2015.
20. نظام الخلافة العربي الإسلامي: دار أكاديميون/ عمان / المملكة الأردنية الهاشمية. 2015.
21. مذكرات تحت المقصلة : (ترجمة) يوليوس فوجيك الكتاب العراقيين، الولايات المتحدة / 2009
22. استخدام القوة المسلحة في العلاقات الدولية، طبعة 1: موقع البلاد، تورنتو / كندا / 2013.
23. طريق إلى الحرية. (ترجمة) رواية هانز كونزاليك : موقع الكاردينيا، زيوريخ / سويسرا 2015
24. لابد لنا من فجر، سيرة في النضال القومي الاشتراكي، دار ضفاف دبي / 2015
25. مقاتلو الشمس : (ترجمة)، رولاند كوربر، عمان/ المملكة الأردنية الهاشمية / 2017
26. ثلاث مسرحيات : د, ضرغام الدباغ، دار أكاديميون، عمان / المملكة الأردنية الهاشمية/ 2017
27. استخدام القوة المسلحة في العلاقات الدولية: دار أكاديميون، عمان/المملكة الأردنية الهاشمية/.2017
28. عضة الخفاش : رواية، ضرغام الدباغ، دار أكاديميون، عمان/ المملكة الأردنية الهاشمية/ 2017
29. سياسة التوسع الأمريكية: أطروحة دكتوراه، (ترجمة)، دار ضفاف / دولة قطر 2016
30. المقدمات السياسية للاستقلال الوطني في العراق، رسالة ماجستير (ترجمة)، دار ضفاف/ قطر2016
31. تغريد بلابل متعبة، مسرحية، دار ضفاف / دولة قطر 2016
32. كلمات لها قدرة المرايا، طبعة 1 رواية ضرغام الدباغ، مجلة كاردينيا / زوريخ / 2016
33. البروتكولات الدبلوماسية، د. ضرغام الدباغ (ترجمة)،
34. أياديكم مضرجة بالدماء، (ترجمة) روبرت هويزر، ضفاف / قطر 2016
35. تاريخ الثورة الكوبية، (ترجمة) ضفاف 2016
36. وثائق البعثة الدبلوماسية البريطانية في العراق، ضفاف / 2016
37. نشوء الولايات المتحدة الأمريكية، (ترجمة)، ضفاف 2017
38 الأهداف السياسية في مرمى النيران، ضفاف / 2017
39. كلمات لها قدرة المرايا، طبعة 2 رواية، ضفاف / 2017
40. الدفاع في قضايا الاستراتيجيات السياسية والعسكرية / ضفاف / 2017
41. العشرة أيام الاخيرة للهتلرية، ضفاف 2016
ب / الأعمال غير المنشورة(تحت الطبع) :
1 . الدروس الأساسية لتعلم اللغة الألمانية.
2 . تعلموا الألمانية..
3. حتى النبض الأخير : مذكرات
4. التاريخ ليس يوماً واحداً.
5. وميض في ظلام الليل. رواية
6. ولد مناضلأ : رواية (ترجمة) هارالد هاوزر.
7. عصيان على الزينورا : رواية (ترجمة)، جاك لندن.
8. مسرح الجبهة : رواية (ترجمة)، هاينز كونزاليك..
9. هروب إلى الأمام : رواية (ترجمة)، كلاوس مان.
10. عكس التيار : رواية (ترجمة)، هاينز كونزاليك.
11. مايكل أنجلو وعصر النهضة : (ترجمة)عمل فني.
12. موسوعة تاريخ العرب: 4 أجزاء (ترجمة)، مجموعة مؤلفين.
ج / عدد كبير من البحوث والمقالات باللغتين العربية والألمانية، منها:
1. السياسة والعمران في فكر أبن خلدون، المعهد الثقافي العربي برلين،
http://www.aki-ev.de/seiten_ar/index_ar.html
2. المعتزلة حركة ديمقراطية في فجر الإسلام ،المعهد الثقافي العربي / برلين،
http://www.aki-ev.de/seiten_ar/index_ar.html
3. إعادة تشكيل الثقافة الأوربية، المركز الألماني العربي للدراسات والبحوث
http://www.dazentrum.org/reports_and_research_a.html
4. تقرير عن الطاقة والنفط، المركز الألماني العربي للدراسات والبحوث
http://www.dazentrum.org/reports_and_research_a.html
5. الفكر السياسي الإغريقي، المركز الألماني العربي للدراسات والبحوث،
http://www.dazentrum.org/reports_and_research_a.html
6. الفكر السياسي العربي الإسلامي، المركز الألماني العربي للدراسات والبحوث
http://www.dazentrum.org/reports_and_research_a.html
.7لمحات من الفكر السياسي الرافديني، المركز العربي الألماني للدراسات والبحوث
http://www.dazentrum.org/reports_and_research_a.html
8. ميكافيلي، مفكر لا يأفل نجمه، المركز الألماني العربي للدراسات والبحوث
http://www.dazentrum.org/reports_and_research_a.html
9. الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في أفغانستان، المركز الألماني العربي للدراسات والبحوث
http://www.dazentrum.org/reports_and_research_a.html
10. لقاء الحضارات، مؤسسة أبن رشد للفكر الحر
www.ibn-rushd.org/forum/DabakAr.htm
و / مساهمات أخرى منها :
• ندوة نقاشية Seminar : عن أعمال رسام الكاريكاتور ناجي العلي 2003اتحاد المثقفين العرب/ برلين المانيا
• ندوة نقاشية Seminar : عن صراع الحضارات، اتحاد المثقفين العرب/ المانيا 2003
• ندوة نقاشية Seminar : العولمة وأثارها/ اتحاد المثقفين العرب/ ألمانيا2003
• مؤتمر دولي/ برلين: الآثار الاقتصادية للحرب على العراق. تحالف أحزاب ألمانيا2004
• مؤتمر دولي برلين: طرق القانون الدولي في الحرب على العراق.2004
• مؤتمر دولي باريس: الآثار السياسية للحرب على العراق.2004
• ندوة نقاشية Seminar : عن أعمال الرسام برهان كركوتلي
• ندوة نقاشية Seminar : في تلفزيون منار اللبناني: الحوار بين السنة والشيعة2004
• مؤتمر دولي/ برلين: التضامن مع الشعب العراقي مارس/2005
• المساهمة في امسية ثقافية رمضانية 2004
• المساهمة في أمسية ثقافية شبابية 2004
• المساهمة في تحرير info plat ألمانيا
• مقالة في صحيفة ألمانيا: الغرب في عيون الشرق
• مقالة في صحيفة ألمانيا: الشرق في عيون الغرب
• نشر أعمال سياسية/ أدبية على موقع: الحوار المتمدن
• نشر أعمال سياسية على موقع: المعهد الثقافي العربي/ ألمانيا
• نشر مقالة في صحيفة البلاد الكندية/ تورنتو
• مؤتمر دولي روما : موقف القانون الدولي من الحرب على العراق . أكتوبر / 2005
• مؤتمرات دولية وعلمية أخرى في: كوبنهاغن، باريس، لاهاي، ليدن، روما، مالمو، برلين، استامبول، زيوريخ، بروكسل.
• أعمال وبحوث كثيرة نشرت في المواقع الأختصاصية في أوربا والوطن العربي
• مساهمة بحثية في المؤتمر العلمي للجامعة الحرة / لاهاي ـ هولندة ، نوفمبر 2007
******
لابد لنا من فجر
سيرة ذاتية في النضال القومي الاشتراكي
د. ضرغام عبد الله الدباغ
برلين
2004
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الإهداء
لم أقع في حيرة في أمر ما كما حدث لي عندما قررت إهداء هذا الكتاب ....
ترى هل أقدمه لكل من كان مسئولا حزبياً لي خلال مسيرة النضال والعمل ؟ وبينهم شهداء، أو من فارقوا هذه الدنيا ...
إلى الأبطال والشهداء وعددهم كبير وقد نالوا في مناسبات كثيرة التنويه والإشادة...
إلى المناضل المجهول، شهداء قضوا في ساحات الوطن جنود مجهولين ...
إلى حراس أسوار الوطن والأمة ...
إلى كل هؤلاء !
هم مستحقوه، بعد أن احتضنوا المجد والمجد أحتضنهم في عناق ابدي ........
لابد من فجر، مهما طال الليل ...
ثوار الحق لا ييأسون !
ضرغام الدباغ / ياسين أحمد
تموز / 2004
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة
لم يكن يدور في خلدي يوم انتميت إلى حزب البعث العربي الاشتراكي في أول شهر أيلول/ سبتمبر من عام 1958، أني سأعمد إلى تدوين مذكراتي السياسية والنضالية، لذلك فأني لم أسجل أي شكل من أشكال اليوميات، أو خواطر حول بعض الأحداث، كما أن ذلك كان أمراً لا يتفق مع التقاليد الحزبية النضالية، لذلك فأني سأعتمد على ذاكرتي، أما حيال الأحداث التي تساورني بصددها الشكوك سألجأ إلى استخدام عبارات: أعتقد، أظن، حوالي، تقريباً، أرجح، أستبعد، وهي عبارات يستخدمها حتى أكثر المؤرخين نزاهة.
ثم أني واجهت مسألة أخرى، ففي خلال مسيرة امتدت إلى 46 سنة في النضال الوطني والقومي، في العراق، وفي ساحات نضال وطننا العربي الكبير، عملت في العديد من أقطارنا في مهام لصالح الحزب، وتعرفت على العديد من الرفاق من شتى منظمات الحزب داخل الوطن (العربي)وخارجه، ومن البديهي فأني سوف أحرص على تجنب كل ما يلحق الضرر بنضال الحزب، كما أني وبحكم إطلاعي على الكثير من الأحداث السياسية الهامة في الساحة العربية عامة، فمن البديهي أيضاً أني سأحرص على تجنب ما يسيء إلى الأمن القومي العربي. كما إني سوف أتجنب ما كان الحزب يعتبره أسراراً داخلية، فهذه أمور لا يحق لأي فرد الإدلاء بها بصرف النظر عن رأيه وموقفه من الحزب.
ولعل القارئ يتساءل ما لذي تبقى إذن ليدون كمذكرات؟
أنني سوف أتطرق بشكل كاف إلى الظروف الذاتية والموضوعية للعمل الحزبي، ضمن المراحل التاريخية التي أطلعت عليها، كما أرجو أن تكون إيضاحاتي كافية لبيان مراحل هامة تبلورت فيها اتجاهات نظرية / سياسية، ثم مرحلة تحولات هامة، وإلقاء الضوء على الكثير من الأحداث التي لا يعرف الناس عنها إلا معلومات سطحية أو خاطئة.
ولابد من القول أن عملي هذا لم يكن بقصد إضفاء هالة على الحزب وتاريخه، فالحزب أصبح ومنذ زمن بعيد موضع دراسات وأبحاث ربما بالمئات في البلاد العربية والأجنبية، وقد أطلعت شخصياً على العديد منها، وهذه الأمور ليست أسرار ليخفيها، أو لينشرها أحد، ولا أعتقد بأن أي محاولة ومهما وظفت فيها الجهود ستنجح للإساءة للحزب، كما لن يفيد إسناد انتصارات موهومة في أطار عمل دعائي، فهناك أعمال معادية للحزب نشرت معظمها في البلدان الرأسمالية (الولايات المتحدة وبريطانيا بصفة خاصة)، كما هناك أعمال نشرت في البلدان الاشتراكية، وفي بلدان في الشرق والغرب، وعدا ذلك أنما هي أعمال متهافتة لا يجوز اعتبارها في أطار التقييم العلمي سواء كانت مؤيدة أو معادية للحزب. ثم إني أعلم بحكم عملي الأكاديمي وتجاربي في البحث العلمي، أن محاولات كتلك أنما تسيء إلى العمل كما تسيء إلى الباحث أو الكاتب نفسه.
ومن المدهش، أنني كنت أستعيد الكثير من الأحداث والأسماء، حتى أني تذكرت أسماء العديد من الرفاق الذين رافقتهم في مطلع حياتي النضالية، ومن المؤسف أني لم ألتقي العديد منهم منذ سنوات طويلة ولا أدري ماذا حل بالعديد من هؤلاء الرفاق الأعزاء.
ولكن لابد في كل الأحوال من وقفة حزن وانحناءة احترام عميق أمام ذكرى عدد كبير من الرفاق في العراق والساحات العربية، الذين قضوا في سبيل مبادئهم وكانوا بحق أبطال حزبهم وأمتهم، فشهداء الحزب شواخص على امتداد مساحة الأمة من المحيط الأطلسي وحتى الخليج العربي، ومن جنوب اليمن حتى أقصى الشمال، وليس أبلغ مما قاله لي يوماً أحد كبار الرسميين من أحدى الأقطار العربية، إذ قال: أنه لا يحب البعث، وبلاده تحارب الحزب وتنظيماته، ولكنه يعترف أن البعث هو ضمير الأمة، والبعثيين هم حراس أسوارها.، وقائد في إحدى الحركات القومية أسرني أنه كان في موقع التنافس مع البعث، وعمل طويلاً على تقليص نفوذهم، إلا أنه أعترف بصراحة كبيرة، أنه يعتبر موقف البعث هو المقياس في الوطنية والقومية، وإن البعث ضمانة للنضال الوطني والقومي.
نعم حراس أسوار الأمة، وهم يفتدون أرواحهم بسرور من أجل أمتهم وقضاياها، ويتسابقون إلى ساحات النضال، فأولى دروس الانتماء إلى الحزب، هو مبدأ قبول التضحية بلا حدود، وأن أي شبهة في قطرية أو طائفية لأي رفيق حزبي مهما علت به المرتبة كانت كافية لتقذف بالحزبي خارج الحزب بلا رجعة، وشخصياً حضرت فصل أحد الرفاق الرائعين وكانت التهمة الموجهة إليه ( لديه نفس قطري ..!)، والأقدام والصمود في السجون وأمام المحققين كانت من الشروط المهمة والحاسمة في قبول الانتساب والتقدم في الحزب.
الحزب ومنذ تأسيسه، وهي مرحلة استغرقت ربما عقداً من السنوات(وتلك مسألة تستحق الإشارة إليها بصفة خاصة) كانت تتويج لنضال، دام في بعض مراحله سنوات عديدة مفعمة بالتضحيات. فالحزب في مرحلته التأسيسية تمثلت عندما تشكلت في سوريا جمعيات أطلق عليها (نصرة العراق) أبان حركة مايس التحررية في العراق عام 1941، والحرب العراقية ـ البريطانية. ومن تقاليد تلك المنظمة ما أستمر العمل فيه حتى الوقت الحاضر فأضحت من تقاليد الحزب، ألا وهو مشروع القرش، وهو عبارة عن تبرع بمبلغ زهيد يدفعه الحزبيون في ختام كل اجتماع حزبي وكان يجمع كتبرعات للعمل النضالي في العراق، كما كان البعثيون الأوائل في سوريا، يرددون عبارة (حي العراق) إلى جانب السلام عليكم، وتقاليد نضالية وثورية أخرى وجدت مكانها في الحزب في تقاليد العمل أو في العلاقات بين الحزبيين.
وهناك تجربة ثورية أخرى مهمة في تاريخ الحزب في المرحلة التأسيسية، ألا وهي تشكيلة لفصائل نضالية ساهمت في الصراع المسلح مع العدو في ختام المرحلة الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين، هذا عدا أن البعث ورموزه من الشخصيات السياسية والأدبية كان حتى قبل تأسيس الحزب رسمياً في نيسان/1947 حاضراً في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، فاعلاً ومتفاعلاً، بل يمكن القول أن تأسيس الحزب ما كان إلا تتويجاً لذلك النضال الصعب، واستجابة مادية للضرورات التاريخية. فالحزب لم يتشكل بمرسوم أو بقرار من جهة حاكمة محلية كانت أو أجنبية، ولذلك من نافلة الكلام القول أن قرار إلغاؤه أو حله أمر لم ولن يكون بقرار أو مرسوم، فذلك أمر يحتمل وقوعه مع جمعيات خيريه، وليس مع حزب، لاحظنا المسيرة التاريخية لقيامه، بل الضرورة التاريخية لقيامه.
حزب البعث العربي الاشتراكي، لم يكن نتيجة لإرهاصات فكرية، أو تتويجاً لدراسات سياسية أو اقتصادية وجهد قام به فلاسفة، أو نتيجة لموقف اجتماعي طبقي فحسب، بل أن نشوء الحزب كان ضرورة تاريخية، لاعتبارات مرحلة التحرر الوطني، إنجاز مهمات هذه المرحلة سياسياً باستكمال الاستقلال السياسي والاقتصادي في السيطرة على الثروات الوطنية وتقليص التبعية الأجنبية وصولاً إلى إلغائها، إزالة أثار مراحل الاستعمار والتبعية، التأكيد على المكونات الثقافية وتعميق المنجزات الحضارية ورفع درجة الإسهام ضمن مسيرة الحضارة العالمية، تلك كانت الضرورة التاريخية لنشوء الحزب، وحقاً كانت التجربتان (نصرة العراق ـ سلب فلسطين) مؤشران هامان يؤكدان ضرورة قيام تنظيم يأخذ على عاتقه تعبئة الجماهير صوب أهدافها المصيرية، وهذا ما تحقق فعلاً بعد أكثر من عشر سنوات من التجمع، والتباحث، واستطلاع للموقف، وشارك في هذه المرحلة العديد من المثقفين والمفكرين، بعضهم كان نتاج أزمة وطنية، عندما سلخ لواء الاسكندرون وفي المقدمة منهم الأستاذ زكي الأرسوزي وسليمان العيسى، وآخرون عايشوا الاصطدام المبكر مع الاستعمار في العراق وتفاعلوا مع ثورة العراق بقوة، ولكن ذلك التفاعل لم يدفعهم إلى الارتجال بعمل يفتقر إلى الرؤية الشاملة شاهدوا مأساة فلسطين تقع أمام أعينهم فأشتد وعيهم القومي، ومثقفين أدركوا أن هذا التدهور لن يوقفه ألا عمل منظم، وكانوا قد أطلعوا على تجارب أمم أخرى وفي مقدمة هؤلاء الأستاذان ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار.
ولهذه الأسباب مجتمعة ومتضافرة ومتفاعلة، تأسس الحزب عام 1947 ولم تكن أرادة شخص أو أشخاص، ولم تكن مزاجاً، بل كانت استجابة للضرورات التاريخية. وبرغم أهمية لا تنكر لدور عدد من الشخصيات التاريخية في المقدمة منهم بالطبع الأستاذ ميشيل عفلق، إلا أن مسيرة الحزب استمرت بالتصاعد رغم الصعاب والقمع الذي تعرضت له منظماته وجماهيره.لهذه الأسباب فان مصير الحزب هو أمر تقرره الجماهير ومستوى تطور النضال القومي والوطني وإمكان الحزب مواكبته للمراحل التاريخية وقدرته على تطوير أساليب النضال ومواصلته لدوره، أما القمع وتوجيه الحملات البوليسية أو الإعلامية والدعائية، فأنها قد تلحق بعض الأضرار والخسائر، ولكنها من المؤكد تعمق الخنادق النضالية للحزب، وتعيد طرح الحزب كأداة رئيسية لنضال الجماهير العربية، وتجدد الثقة فيه، لمواجه المخاطر التي تحيق بأقطارنا وبالأمة.
ولا بد من القول أن مسيرة الحزب الشاقة والمعقدة لم تكن لتخلو من الأخطاء أو الممارسات الخاطئة، بعض تلك الأخطاء ناجمة عن تعقيدات الواقع الموضوعي لضخامة وجسامة المهام التي تصدى لها الحزب، وأخرى بسبب عدم قدرة بعض القادة على الفصل بين المشروع السياسي وبين أهدافهم الشخصية، أو طغيان شخصياتهم القيادية على مفردات العمل ثم تتحول المفردات البسيطة إلى أخطاء كبيرة للأسف، وبعض تلك الأخطاء حدثت في غالبيتها العظمى بسبب أخطاء بشرية. وهذا شأن من يعمل، وليس معصوماً عن الخطأ إلا من لا يعمل. ولكن هذه الأخطاء لم تكن في صلب الأهداف أو في المبادئ العامة.
لقد ناضل حزب البعث العربي الاشتراكي بإخلاص في جميع الساحات العربية وقدم بسخاء قوافل من الشهداء وعمل مناضلوه بلا كلل أو ملل وواجهوا المخاطر واستهانوا بأرواحهم، وسعادة عائلاتهم وواجهوا ظروفاً بالغة الصعوبة، وإني أعتقد جازماً أن الحزب سيواصل دوره في المستقبل، أما الظروف الصعبة فأنها سوف تكسب الحزب المزيد من القوة وستفرز مناضلين وقادة جدد.
اليوم يواجه الحزب اعتى مؤامرة مرت عليه، بل على الأمة بأسرها، ولأن الحزب في مقدمة من يواجه هذه المؤامرة / الحرب / الغزو السياسي والعسكري والثقافي والاقتصادي، لهذه الأسباب، فقد غدا الحزب هدفاً لجهد دولي كبير لاقتلاعه، فالأعداء يدركون أن الحزب هو الأداة الأخطر لمقارعة هذا الغزو وما نتج عنه، ولهذا السبب قدم الحزب ما يقارب 160 ألف شهيد في هذه المعركة الخالدة التي يلوح تباشير النصر في أفقها، العدو لم ولن يتمكن من اقتلاع الحزب، فلذلك لابد من اقتلاع العراق والشعب العراقي والأمة العربية بأسرها وهذا ضرب من الخيال، وجبل تتكسر عليه قرون المتدخلين.
البعث العربي الاشتراكي اليوم موضوعياً ضرورة تاريخية أكثر بكثير من يوم تأسيسه في الأربعينات من القرن الماضي، لذلك فإنني أدعو مناضلي البعث العربي الاشتراكي إلى تكثيف العمل والأساليب الديمقراطية داخل الحزب، والالتزام بالتقاليد الحزبية الثورية، ودراسة معمقة وعلمية للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية قطرياً وقومياً ودولياً، وأن المؤتمرات الحزبية خير دليل وهادٍ للحزب في مسيرته النضالية. فالبعث العربي الاشتراكي اليوم الضمانة الأكيدة والوحيدة لعراق موحد، عراق عابر للتشرذم الطائفي، المناطقي، وسورية موحدة، وكل قطر عربي، والبعث العربي الاشتراكي من الحركات النادرة التي لم تدخل تحت أبط الاحتلال وأدواته. والبعث العربي الاشتراكي الضامن الوحيد النزيه لحقوق كل من يعيش على الأرض العراقية، ولذلك فإن البعث العربي الاشتراكي أستطاع أن يعبر خلال بحار الدم والإرهاب والاغتيالات والإعدامات والتصفيات والاجتثاث والإقصاء والسجون الأمريكية والإيرانية، وأتباعهم في العراق، في أعتى هجمة تنطوي على كل هذه الأبعاد ليس في تاريخ العراق والأمة العربية فحسب، بل ربما في تاريخ العالم.
تمر الأمم بمراحل صعبة، تستلزم التضحيات، وربما يتراءى للبعض أن النصر التام بعيد المنال، ولكن من يعرف التاريخ يعلم أنها زوابع، وأن الأمة باقية، والعراق باق، ومكوناتنا باقية فكما لم تهزمنا الهيلينية والغنوصية والشعوبية والاستعمار، سوف لن تهزمنا الإمبريالية الجديدة (العولمة)، وأن الأمة سوف تنتصر، وأعداءنا يستخدمون الآن أقصى قواهم، وهم بالكاد قادرون على مجالدة جزء من قوانا الغير معبأة !
سيذكر التاريخ من يقف إلى جانب شعبه وبلاده بالخير. أما عشاق الوطن فليس ليهم ما يفتدون غير الأمة وغير القضية المقدسة، وكل شيء زهيد مقابل حفنة واحدة من تراب الوطن.
ليس لي في حضرة الحزب إلا الوقوف باحترام، وسوف أردد حتى أخر لحظة من حياتي شعار الحزب، شعار البعث:
أمة عربية واحدة ..... ذات رسالة خالدة
إننا حتماً لمنتصرون !
ضرغام الدباغ
ياسين أحمد
أواسط / 2004
ــــــــــــــــــــــــــ
أولا ً
البدايات
في مطلع العام الدراسي 1959 – 1958 أيلول، بدأت دوامي في المتوسطة الغربية في كركوك، نقلاً من متوسطة المثنى في الموصل، وكانت أسرتي كثيرة التنقل في المحافظات العراقية، الشمالية بصفة خاصة(بسبب وظيفة الوالد)، فانتظمت في الصف الثالث المتوسط.
ومن نافلة الكلام القول، أن الجو السياسي كان ملتهباً تأثراً بأحداث المرحلة، والتيارات السياسية في البلاد كانت تعمل في كافة الاتجاهات، لاسيما في مدينة كركوك، ذات الأغلبية التركمانية الواضحة، وإلى جانب وجود عربي داخل المدينة وأطرافها، ووجود كردي ضعيف داخل المدينة، لكنه يتكاثف في أطرافها، وتحديداً الأطراف الشرقية، والشمالية الشرقية، فيما كانت مدن تركمانية تتناثر شمال المدينة، وأبرزها ألتون كوبري، وبلدات: تازه، وداقوق، وطوز، في النواحي الجنوبية، فيما تتمركز القبائل العربية من الجبور والعبيد والحديديين وأفخاذهم وعشائر أقل عدداً، إلى الغرب من المدينة(الحويجة)وتصل قراهم إلى الشارع العام كركوك ـ بغداد، وكركوك ـ أربيل، وتتعداها أحياناً ولكن بتواجد رقيق. وكان هذا الواقع يضيف إلى صورة الموقف السياسي تحديداً في مدينة كركوك، المزيد من السخونة، بل ويقترب من حدود الانفجار، وقد حدث ذلك لاحقاً فعلاً.
وفي صفنا في متوسطة الغربية (الصف الثالث ب) كان عدد الطلبة العرب قليلاً بالمقارنة إلى التركمان ويتساوى مع الطلبة الأكراد وقد يتفوق عليهم، والسبب هو اجتماعي قبل أن يكون شيئاً آخر، كان عددنا (الطلبة العرب)10 – 9 من مجموع حوالي 40 طالب. وكان من بين مدرسينا، الأستاذ الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد.
وفي ظل ظروف ذاتية ساخنة كهذه، و المتمثلةً موضوعيا بقيام ثورة تموز وما بلورته من اتجاهين: وطني وقومي، والآخر اجتماعي وتحالف في مواجهة التيار القومي الذي كان يتسيد الساحة في المشرق العربي بمؤشرات: ثورة يوليو المصرية ـ تأميم قناة السويس ـ العدوان الثلاثي ـ الوحدة المصرية السورية ـ ثورة الجزائر.
نقول أن التيار الوطني العراقي الذي ضم بين جناحيه حركات وأحزاب تقدمية وطنية ولكن أيضاً للأسف ولافتقادنا لتجربة تاريخية ولوعي سياسي وأساليب عمل سياسية عميقة، أنضم إلى هذا التيار عناصر شعوبية بما في ذلك شخصيات مثقفة، ساهموا إلى حد بعيد في أبعاد الشقة المصطنعة بين التيارات الوطنية والقومية، وأفتعال معارك لا معنى لها(دارت أحياناً على شعارات في الشارع). وبمقاييس اليوم، نؤكد أن لابد لأصابع أجنبية من حضور في هذه الصراعات التي دارت بين قوى وطنية لا تختلف كثيراً فيما بينها من حيث البرامج الاجتماعية، ولا تتناقض في التوجهات الوطنية. وكنت قد شرعت عام 1991، أبان وجودي في سجن أبو غريب، بكتابة مؤلف يحمل عنوان (الفرص الضائعة) يبحث في أسباب تعثر العمل الوطني المشترك، وابتداء انهيار جبهة الاتحاد الوطني، وتحديداً في تلك الظروف التي نشأت بعد ثورة تموز1958، ولكني مزقت تلك الصفحات، خشية تعرضي للتفتيش.
كنا إذن في قلب الفرن العراقي، في أشد مراحل وطننا العراقي وامتنا العربية سخونة، بل هي بؤرة أصطراع هذه التيارات وكنت قد تجاوزت سن الرابعة عشر ببضعة أشهر، ولكنني كنت دائماً طويل القامة، ظاهر الخشونة، مما يحمل على الاعتقاد بأني أكبر من سني الحقيقي. وكنت بالطبع لا أمتلك تجربة سياسية سابقة في العمل السياسي وهو أمر لا يتيحه سني، ولكن شقيقتي الكبرى التي كانت تدرس في الكلية الطبية / جامعة بغداد (فيما بعد، الدكتورة سهام عبد الله الدباغ ـ مدرسة التشريح في كلية الطب)، كانت قد تأثرت بالأجواء السياسية الملتهبة في بغداد، في أكثر مراحل الحياة البغدادية، في ظروف العدوان الثلاثي، تلك الظروف لم تكن التي لم تدع احداً خارج تيارها الجارف، وكانت الكلية الطبية العراقية تزخر بالعديد من نشطاء حزب البعث العربي الاشتراكي، وعلى رأسهم: د. عبد الكريم الشيخلي، د. حقي إسماعيل حقي، د. ثامر لطفي. بثقافتها الواسعة، تمكنت أن تكون أبرز الفتيات في المجال الطلابي، وكانت في زياراتها لنا 57 ـ 56 إذ كنا نسكن في مدينة الموصل، تروي لنا أحداث النضال القومي في جامعة بغداد فنتحلق حولها مفعمين حماساً. كما كان أولاد الخال(المهندس ناجي زين الدين المصرف) هلال وعامر ووجدي وصباح وعماد وصلاح، يشيعون فينا المزيد من الحماس والشعور بالواجبات الوطنية القومية, فيما كانت إذاعة صوت العرب من القاهرة تحدث تأثيراتها العميقة، فكنا أشبه ببرميل من الوقود السريع الاشتعال تكفيه شرارة صغيرة، لإشعال النار في هذه الطاقات الشابة التي لا حدود لها ولآمالها.
قلت في ذلك السن من العمر، لم أكن في تجربة أو خبرة في العمل السياسي، ولكني كنت أمتلك قلباً يفيض بالحب والولاء والتفاني من أجل الوطن والأمة وكنت أشعر أن لا حدود لطاقتي، وأنا من أسرة تقرأ كثيرا، الوالد والوالدة والأشقاء، وكانت تجربتي مع القراءة قد ابتدأت مبكرة جداً، منذ الصف الثالث ابتدائي بعمر10 ـ 11 سنة، ولا زلت أذكر أن أول رواية طويلة قرأتها كانت "رسول القيصر" للروسي لإيفان تورجينيف، كما لا بد من ذكر حقيقة أن روايات جرجي زيدان (وهي سلسلة روايات عن تاريخ العرب والإسلام)، التي قرأتها كلها قبل أن أبلغ الثانية عشرة، (على ما تنطوي من ملاحظات)، كانت في وقتها عميقة الفائدة للوعي بالتاريخ واللغة، وضعت بأسلوب جذاب للغاية، بلغة بسيطة ولكنها بليغة ورائعة وقوية في نفس الوقت، إلا أنه من المؤسف أن تضم مؤشرات غير إيجابية ومعلومات غير دقيقة أحياناً. وفي سن الرابعة عشر كانت ثروتي الأدبية ليست بسيطة، فقد كنت قرأت وبنهم أهم الأعمال في ذلك الوقت من كتاب عرب مثل نجيب محفوظ ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس، بل وأعمال أجنبية مترجمة. وكانت رواية همنغواي "لمن تقرع الأجراس"، قد أحدثت تأثيرها في الأسلوب والتفكير، كذلك وداعاً للسلاح. وكان والدي قد أهداني مجموعته من مسلسل "الحرب العالمية الثانية" 22 جزءاً لعمر أبو النصر.
إذن كنت على أهبة الاستعداد لتلقي ما يلائم الثورة في القلب والفكر، من يوظف هذا الحماس والطاقة. وأنا اليوم بعد 58 عاماَ، بوسعي أن أدرك بعمق لماذا لم أنضم إلى حركات وأحزاب اتصلت بي وحاولت كسبي إلى صفوفها.
كنت قد تعرفت على شاب عربي في كركوك (ربما في آب أو أيلول / 1958)، يدعى عدنان محسن، وكان عدنان قد أنضم إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وكنت على أتم الاستعداد لتقبل فكرة الأنضمام إلى الحزب، فلم أكن بحاجة إلا لحركة بسيطة لأنطلق في دروب هذا الحزب الذي آمنت به وبشعاراته وأفكاره، والنضال ضمن صفوفه. ومازلت مؤمناً أن شعارات الحزب وأفكاره الرئيسية هي أهداف الأمة حيال مشكلاتها، ولكن من المؤكد، أن الممارسة الكثيفة في الحياة السياسية في العديد من الأقطار العربية التي للحزب فيها حضوراً مهماً، تسببت في حدوث أخطاء، وهذه الأخطاء هي في الغالب الأعم في ممارسات لأفراد تجاه أفراد، أو أخطاء في التعامل حيال قضايا سياسية يومية أو ربما اجتماعية / اقتصادية، أو في التعامل مع قوى وحركات وأحزاب، ولكن ومن الضروري تأكيد ذلك، أن مواقف الحزب حيال النضال الوطني والقومي، كانت صائبة في التحرر السياسي والاقتصادي وكذلك حيال الوجود الأجنبي والاستعماري كالأحلاف والنفوذ الاقتصادي، وتحرير ثرواتنا القومية أو في السياسة العامة.
إذن انتظمت في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي، وكنت فخوراً بذلك، فالحزب كان، وما يزال عنواناً مهما في النضال الوطني والقومي سواء في العراق أو في الأقطار العربية الأخرى. وأول ما يترتب على المنظم حديثاً إلى الحزب بدرجة مؤيد، وبعد فترة، تطول أو تقصر بحسب قدرات واستعدادات يبديها الحزبي في مجرى نضال الحزب في المجتمع، ينتقل بعدها إلى درجة نصير، وهو ما يعني انتقال الحزبي إلى درجة تسمح له بحضور الاجتماعات الحزبية ضمن أصغر منظمة وتدعى (الحلقة) والإطلاع على مستوى معين من البيانات الحزبية الداخلية، وتنفيذ الأوامر والتعليمات والاشتراك بالفعاليات الحزبية، فالنصير درجة حزبية مهمة، وإن كان بالطبع لا يشارك في المؤتمرات والانتخابات الحزبية، كما أن هناك مستوى معين من التعليمات والبيانات الداخلية والنشاطات الحزبية الداخلية هي للأعضاء فقط، ولكن بالرغم من ذلك فالحياة الحزبية للنصير عريضة وحافلة بالنشاطات التي من خلالها يبرز الحزبي قدراته وامكاناته، ومنها ينتقل إلى درجة العضوية في الحزب. وقد لا تستغرق مرحلة المؤيد فترة طويلة، بل هي مرحلة لاختبار صحة المعلومات أو التزكية للمؤيد، فقد لا تستغرق إلا أشهراً معدودة، وإذا لم يثبت المؤيد ما يستحق نقله إلى درجة النصير، فهذا يعني (منطقياً) أنه غير مؤهل للعمل الحزبي، كما كانت التقاليد الحزبية تتحرى (كقاعدة عامة) عن المستوى الأخلاقي للمؤيد. ولكن ليست هناك فترة معينة لمرحلة النصير، وقد يبقى الحزبي في مرحلة النصير سنوات طويلة.
وأول ما يترتب على المنتظم حديثاً إلى الحزب الإطلاع على أعمال فكرية للحزب، وكان أشهر تلك الأعمال كراسات الأستاذ ميشيل عفلق: في ذكرى الرسول العربي، وأنقلابيتنا، بماذا تتسم حركتنا، وكتاب معالم الحياة العربية الجديدة للأستاذ د. منيف الرزاز، وبعض أعمال د. عبد الله عبد الدائم وكراسات كثيرة تلقي الضوء على الموقف الفكري والنضالي والسياسي للحزب حيال مشكلات عربية كثيرة وكانت أقطار المغرب العربي ما تزال تحت الاحتلال والجنوب العربي والخليج العربي، وقواعد عسكرية مهمة للاستعمار البريطاني والفرنسي والأمريكي، والنفط وقناة السويس، التبعية الاقتصادية والسياسية للمراكز الاستعمارية.
وفي عام 1958 انتشرت في العراق بعض الأعمال البعثية منها: في سبيل البعث، معركة المصير الواحد للأستاذ ميشيل عفلق، معالم الحياة العربية د. منيف الرزاز، وكان هذا الأخير قد ذاع صيته ونال جائزة الجامعة العربية، وطائفة من الكتب التي تعزز الثقافة القومية، ومنها مثلاً مذكرات العقيد الركن الشهيد صلاح الدين الصباغ أحد أبطال حركة مايس 1941 الوطنية التحررية. وكانت تلك المرحلة، وتحديداً الخمسينات، كان التركيز فيها على الثقافة القومية، وفيما بعد في الستينات، اعتبرناها يوماً أن تلك مثلبة مارستها القيادة، ولكني الآن أقول، أن ذلك كان أمراً طبيعياً، فقد كانت خارطة الوطن العربي السياسية مرعبة، فقد استعمرت فلسطين استيطانيا، والجزائر كانت مستعمرة فرنسية، واليمن الجنوبي تحت الاحتلال البريطاني، وكانت أمارات عمان وقطر والأمارات العربية مشيخات مبعثرة، وكذلك البحرين والكويت، كانت جميعها دولاً غير مستقلة، والسودان لم يستقل إلا عام 1956، ألا تحمل هذه المؤشرات الخطيرة على التركيز على الشؤون القومية ..؟
وكانت سائر الدول العربية تحت النفوذ الاستعماري. ولم تكن هناك سوى نقطة مضيئة واحدة هي مصر كدولة كانت تتقدم منذ ثورة يوليو 1952، وفيما بعد سوريا، أما على صعيد الحركات القومية، فلم يكن هناك سوى حزب البعث العربي الاشتراكي ، وحزب الاستقلال في العراق، الذي تقادم ولم يتمكن من أن يواكب حركة الثورة العربية، وأن يكون أداة جماهيرية, وفي ذلك تجربة أن الجماهير لا تمنح ولائها وتأييدها جزافاً، وفي مرحلة لاحقة حركة القوميين العرب، التي كانت أقل انتشارا وذلك موضوع آخر.
فالبعث كان محقاً في وضع الاهتمام القومي على رأس جدول النضال، بسبب الأهمية الواقعية للشأن القومي وكان سيبدو خيالياً بعض الشيء، أو في الدرجة الثانية من الاهتمام، التركيز على الشأن الاجتماعي / الطبقي أو على مشكلات فكرية فلسفية، فيما تشتعل النار في ثيابنا، وكان لوجود الأستاذ ميشيل عفلق على رأس الحزب بوصفه مسيحياً، أمراً يبعد المناضل البعثي عن التفكير في الانتماء الديني بين مسلم أو مسيحي، وحقاً لم تكن هذه القضية من اهتمامنا ولو بأدنى مقدار، والحزب كان يعتبر الانتماء الديني شأناَ شخصياً، ولم ألمس طيلة حياتي الحزبية من يشير إلى مسألة الالتزام الديني لا تصريحاً ولا تلميحاً، ناهيك بالطائفي وإني لأستغرب أشد الاستغراب عندما أقرأ مذكرات رفاق قدامى يشيرون إلى الشأن الطائفي بين المسلمين، فهذه مسألة أجزم بكل ثقة كانت غير معروفة، ومن المؤكد أن الحزب كان صارماً ضد طروحات بهذا الاتجاه، ففي اعتبار الحزب (وهذا ما أؤيده) أن الطائفية تمثل : تركيز على الثانوي بدلاً عن الرئيسي، والعارضي بدلاً عن الجوهري، وسياسة التميز الطائفي كانت دوماً سياسة مارسها المستعمرون والطامعون في بلادنا، وهي لعبة سياسية / أستخباريه، فالطائفية بهذا المعنى بلا جدال لعبة استعمارية / تحمل في ثناياها ذرائع التدخل والتفتيت، فالمسلمون يتفقون في الأساسيات كلها وهي تمثل الجزء الأكبر والأهم من الدين في الأركان الخمسة للإسلام، ويجتهدون في أمور لا تستحق سوى 5% أو أقل من الأساسيات، وهي أقل بكثير جداً من الفروق بين طوائف الديانات الأخرى، ولكن الاستعمار بأشكاله وأساليبه القديمة والحديثة سعى لأن يوسع هذه الثغرة ويمنحها 100% من الاهتمام لسبب بسيط جداً، إذ يكمن الاحتمال الأوحد في توسيع هذه الثغرة ليمرر منها أفكاره ثم سياسته ثم يدخل عبر هذه الثغرة طائراته ودباباته ثم احتكاراته وشركاته واستثماراته، ثم أنظمة عميلة وينتهي الأمر بالاستلاب التام. فالطائفية والتحريض الطائفي واستخدامها كأداة سياسية، تصب بشكل مباشر في طاحونة الاستعمار.
فالحزب الذي كان الأمين العام فيه مسيحي، وربما عدد من أعضاء القيادة فيه، كان يمثل الوحدة الوطنية والقومية أصدق تمثيل، ومثل هذا الحزب السياسي لا شك انه يقلق من يريد استخدام هذه الورقة للمناورات السياسية، فإذا كان حزب البعث العربي الاشتراكي لا يقيم اعتباراً لموضوعة مسلم/ مسيحي، فكيف يقيم اعتباراً للشأن الطائفي..؟ وأنا أؤكد أنني لم أسمع ولم ألمس يوماً لا تصريحاً ولا تلميحاً، أو إشارة ولو كانت عابرة إلى موضوعات كهذه، بل أن الحزب كان يدين حتى العقلية العشائرية وكل تصرف ينم عنها، ولا يستحسن حتى ألقاب المدن والعشائر، ليس في العراق بل وفي سائر الأقطار العربية. فقد عملت شخصياً في منظمات عديدة ومع أطياف مختلفة في العراق وفي عدة أقطار عربية، كنا نجهل الانتماء الديني أو الطائفي، وقد فوجئت يوماً بأن رفيقاً عملت معه لمدة ثلاث سنوات كاملة في منظمة واحدة لم أكن أعرف أنه على الديانة المسيحية. وما زلت أجهل حتى يومنا الانتماء الطائفي لعدد كبير من رفاقنا المقربين، ولا يهمني أن أعرف، فلندع هذه المهمة للآخرين، أما أنا فلدي أسس خاصة للتقييم، ليس من ضمنها الانتماء الطائفي، بل ولا حتى الديني، فنحن عندما نعمل في السياسة نطرح برنامجاً سياسياً، وطنياً / قومياً، ثقافياً / اجتماعياً، وعلى أساس القرب والبعد من هذا البرنامج نقيم الناس، ونحدد أسس التعامل معهم.
وفي الفترة الساخنة التي أعقبت ثورة 14 تموز/ 1958 وتلك كانت أيام تدور فيها أحداث متعاقبة عميقة، بل تحولات كبيرة، حتى بدا لنا بعد ثلاثة أشهر من زوال النظام الملكي، وكأنه قد زال منذ سنين، ولا أعني بذلك أن النظام الملكي كان سيئاً لا ينطوي على أية إيجابيات، ولكني أردت القول، أن ثورة تموز فتحت النوافذ والأبواب لرياح عاصفة وتطورات كان بعضها مهماً ولكن خلخلة البناء السياسي والاجتماعي أسفر عن خسائر أيضاً، ولكن عن نشاط سياسي متزايد في الشارع العراقي، في المدارس والكليات خاصة.
لذلك حاول أكثر من حزب وتيار، أن يكسبني للعمل في صفوفه، وأني أكن الاحترام لها، ولكني حقاً استجبت للتناقض الأكبر الذي كان مطروحاً بقوة على ساحة العمل الوطني والقومي، فقد كنا نتفاعل بقوة مع القضية الفلسطينية، تفاعلاً أفضى بتقديري إلى تطور مهم وبارز في مجرى حركة التحرر الوطني والقومي. وإذا شئنا استعراض ذلك على نحو سريع: كانت حرب فلسطين 1948 ونتائجها التي عبرت عن التآمر الاستعماري وعن عجز النظام العربي الحديث العهد بالاستقلال وبسبب عجز الحكومات العربية التي كانت خاضعة بشكل مباشر أو غير مباشر لنظم الإدارة الاستعمارية. ويكفي القول أن رئيس أركان أحد الجيوش العربية كان بريطانياً. ومن المؤكد أن ثورة 1952 في مصر كانت نتيجة مباشره للقضية الفلسطينية، وكذلك انقلابات سوريا، والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956. واليوم نفهم أن العدوان الثلاثي على مصر لم يكن عدواناً على قطر عربي يسعى للسيطرة على ثرواته فحسب، بل وتصدي مبكر للثورة العربية الاشتراكية والتي كانت مصر إحدى طلائعها.
إذن فالقضية الفلسطينية كانت في مقدمة المشروع السياسي الذي تقدمت به الوحدة المصرية / السورية، وكذلك ثورة تموز في العراق، وسبباً مباشراً أو غير مباشر للإنزال الأمريكي في بيروت 1958 . كما كانت النضالات المتصادمة مع الاستعمار في المغرب وتونس، ولا سيما ثورة الجزائر شعلة ملتهبة في وجدان العراقيين، فكانوا يتظاهرون متفاعلين مع أحداثها، ويجمعون التبرعات السخية لها، بل وكانوا يشجعون فريق كرة القدم الجزائري عندما لعبوا في العراق، وحملوا لاعبيه على الأعناق، وأشير أيضاً إلى الاستقبال الأسطوري لقائد ثورة الجزائر أحمد بن بللا لم تشهد له بغداد مثيلاً، كما تظاهرنا عندما ضربت فرنسا المدينة العربية التونسية بنزرت التي كانت تساند ثورة الجزائر العظيمة.
بعد كل هذه المؤشرات الحسية في النضال اليومي، غير تلك الراسخة في الوجدان والوعي، فكراً وعاطفة، فصحة المشروع القومي حاصل قبل ذلك، ولكننا عشنا مرحلة النضال القومي بكل قوة، ترى بعد هذه الأحداث التي تهز المرء من أعماقه، ألا يتفاعل المرء مع أحداث كهذه أم مع انتفاضة شعب كوستاريكا ..؟ نعم فلندرس انتفاضة شعب كوستاريكا فربما في ذلك ما يرفد ثورتنا بالتجربة والعبره، ولكن ثورتنا أولاً، ندرس حركتنا ومستلزماتها، ثم ندرس الظروف المحيطة ببلادنا إنني أعتقد الآن أن استجابتنا لنداء النضال الوطني والقومي لم تكن استجابة خاطئة، وتفاعلنا مع قضايا بلادنا كان هو الأرجح عقلاً وعاطفة.
في تلك السنوات الملتهبة، كنا إذن نسير فوق ألسنة اللهب. وما زلت أذكر وجوه رفاق تلك المرحلة الأولى، عدنان محسن، وهو أول مسئول حزبي لي، ثم رفاقي الأوائل: طلعت توفيق، وشوكت أدهام (وقد أستشهد بعد ذلك بحوالي ثلاثون عاماً) وسعيد حمادي الجميلي، وقاسم سريح وعبد النبي جاسم، وكاظم شمال وغيرهم من الرفاق، كنا فتية في مقتبل العمر، وأغلب الظن أن معظم هذه الأسماء واصلت المسيرة حتى زمن متأخر، كنا نشعر بالروح الرفاقية الحقيقية التي يعرفها الرفاق البعثيون القدامى، كانت علاقات فريدة من نوعها. ومع حداثة أعمارنا إلا إننا كنا نشعر بدقة وكأننا نقود الأمة العربية، مع أننا لم نكن سوى في مدخل الحزب، ولكن وبشعور عال بالمسؤولية والاستعداد الأكيد المؤكد للتضحية بكل سرور، وكنت أشعر وما زلت، أن هدف الوحدة العربية لوحده يستحق من أن أقدم حياتي في أي لحظة يكون فيها ذلك مطلوباً.
في تلك السنوات بدأنا نراكم ثقافة عامة، سياسية /حزبية، وسط حماسة غامرة، وكنا نرى في أنفسنا تشيئات كبيرة، بناء على الطاقة المتفجرة الكامنة والظاهرة في عقل وقلب كل منا، عبأت في العمل الحزبي، وكان كل واحد منا بجلال ما يفعله، ويعتقد(بالطبع شططاً) أن بوسعه تغير العالم، إذ أنه يرى أن المشكلة قد شخصت، والقوة اللازمة للتغير موجودة(الحزب) والطاقة اللازمة لتحقيقه موجودة، بناء على إخلاصنا التام الذي لا تشوبه أي شائبة، والجرأة والإقدام التي غرسها الحزب في أنفسنا، فهيا ننطلق في دروب النضال.
سيستغرق وقتاً طويلاً لكي نلمس نحن كأفراد، والحزب كتنظيم، أن الصعوبات والمعوقات الذاتية والموضوعية كانت متوفرة بحجم يهدد فعلاً مشروعنا الكبير(واليوم قد تضاعف معسكر أعداء الأمة)، وهناك من يناصب هذا المشروع العداء علناً، أو سراً بوضع العصي في عجلة المسيرة، وهذا المعسكر يتصاعد مع تصاعد حجم المخاطر التي يمثلها مشروعنا الوطني والقومي . ثم أن معسكرنا يضم للأسف تناقضات ثانوية، صغيرة، إلا أنها في تراكمها تجعل من حجم المعوقات كبيراً، وربما أن أورام سرطانية خبيثة، وألغام مبثوثة هنا وهناك. فالطريق يغدو محفوفاً بالمخاطر، وهناك من بيننا من يحمل عقد الطفولة وطموحات شخصية جامحة، وخيالات العظمة، فيتعين علينا خوض النضال الخارجي مع أعداء برامجنا من كافة الأطراف والاتجاهات، ونضالاً داخلياً يتمثل بكبح جماح مثل هذه العناصر التي تريد أن تستولي على الدفة عنوة، بل وأكثر من ذلك، تقمع كل رأي آخر، شخصيات قد تطلق النار على من ينتقد لون ربطة العنق التي يرتديها.
كان عملنا التنظيمي في البداية يتمثل في اتجاهين رئيسيين :ـ
الأول: ذاتـي داخـلي:
وذلك بقراءة الكراسات الحزبية، ولم يكن عددها كبيراً، وكذلك بضعة مصادر كانت مقررة كمادة للتثقيف منها: في سبيل البعث ومعركة المصير الواحد، للأستاذ ميشيل عفلق، وكتاب معالم الحياة العربية د. منيف الرزاز، بالإضافة إلى طائفة من الكتب والمراجع غير الرسمية التي كان يتداولها الحزبيون والتي تدور حول موضوعات النضال القومي والاجتماعي /الاشتراكي، وهذه مؤلفات موضوعة من قبل بعثيين عراقيين أو عرب، أو من شخصيات تفكر وتكتب وتعمل في هذا الاتجاه، وكان يطلق عليها الأدبيات الحزبية. ومع تقدم حركة الثقافة والكتابة والطبع والنشر في الوطن العربي، ولاسيما في لبنان ومصر وسوريا، وفي هذا الإطار تطور الأمر في مطلع الستينات فوقعت بين أيدينا كتب على سبيل المثال لا الحصر: الثورة والجماهير، لناجي علوش، وروايتان اشتهرتا في ذلك الحين جيل القدر، ثائر محترف، للكاتب البعثي مطاع صفدي. هذا قبل أن يبرز جيل من الأدباء والكتاب البعثيين منهم: سليمان العيسى، صدقي إسماعيل، شفيق الكمالي، شاذل طاقة، محمد جميل شلش، هلال ناجي، مطاع الصفدي، ناجي علوش، وغيرهم.
كما مثلت النشرات الحزبية التي كانت تصدرها القيادة القطرية، ومكاتبها: العمالي، والطلابي، والفلاحي، المهني، مثلت معيناً آخر للثقافة الحزبية وموقف الحزب حيال قضايا ومشكلات، عراقية وعربية، وكانت هذه النشرات تنزل من القيادة إلى القواعد ولكن بتدرج، فقد تكون النشرة مختصة بمستوى قيادات الفرق، أو للأعضاء فقط، أو للجهاز الحزبي، وذلك يعني أن يطلع الأنصار عليها، أو النشرات الجماهيرية التي كانت توزع على نطاق واسع في المدارس والبيوت أو تلصق على الجدران.
وكانت الاجتماعات الحزبية تهتم بالموضوعين الرئيسين معاً :
آ / القضايا التنظيمية: أي مناقشة الوضع التنظيمي لهذه الحلقة أو الخلية وفعاليات الكسب الحزبي، والعمل بين الجماهير في المحلة والشارع أو في المدرسة والفعاليات النضالية في توزيع النشرات الحزبية على البيوت ليلاً ووضعها في صناديق البريد أو إلصاقها على الجدران، والمشاركة في التظاهرات، وتلك كانت ممارسات نضالية عالية تزيد من التصاق المناضلين بحزبهم وعاملاً مهماً في شعبية الحزب، التصدي للعناصر المعادية للحزب، إفشال مخططات السلطة أو الجهات المعادية للحزب، القيام باجتماعات جماهيرية في المدارس في المناسبات القومية، تداول الكتب القومية وترويجها.
ب/ الوضع الثقافي: وكان الاجتماع يخصص وقتاً لقراءة ومناقشة كراس حزبي، أو نشرة داخلية، فتلك كانت من مصادر الثراء الثقافي للحزبيين.
الثاني: العمـل النضـالي :
والعمل النضالي كما أسلفنا كان يعني الانخراط في الفعاليات النضالية التي كان الحزب يتصدى لها في مجرى نضاله الرئيسي من أجل تحقيق أهدافه. فالحزب كان في العهد الملكي طرفاً مهماً في جبهة الاتحاد الوطني مع الحزب الشيوعي والوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال. وكان حزب الاستقلال قد بدأ بالاضمحلال التدريجي، وتواجده كان مقتصراً على الساحة العراقية، وكان لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا عام 1947 وتقدمه السريع في العراق والأردن وفلسطين ولبنان، له مغزاه العضوي، أما أفكار البعث العربي، فقد كانت متداولة قبل ذلك التاريخ بما لا يقل عن عقد من السنوات كما أسلفنا، حتى غدا تياراً رئيسياً للعمل القومي، أكثر وضوحاً من فكر حزب الاستقلال، الذي لم يكن يستبعد من صفوفه عناصر أرستقراطية وربما أقطاعية. وفي مرحلة الخمسينات كانت أهميته تقتصر على القيمة الاعتبارية لشخصياته ورموزه الوطنية ذات الماضي الوطني المشرف فحسب، من أمثال محمد مهدي كبه، ومحمد صديق شنشل وفائق السامرائي، وغيرهم.
وقد تواجدت على الساحة في مطلع الستينات حركة القوميين العرب، التي لم تستطع أن تتطور إلى منظمة جماهيرية فاعلة ومهمة في العراق على الأقل، بمؤشرات: لم يكن حضورها الجماهيري يؤهلها القيام بتظاهرات شعبية كبيرة، فيما كان البعث يعبأ مئات الألوف في تظاهرات جماهيرية عارمة، كتظاهرة تشييع الرفيق عبد الجبار عسل الذي أغتاله الشيوعيون(وكانت تلك غلطة لا معنى لها)، وكذلك التظاهرات الشعبية المؤيدة للثورة الجزائرية، وفي استقبال الوزير المصري كمال الدين حسين، واستقبال القائد الجزائري أحمد بن بللا، أما تظاهرات إضراب سواق السيارات، وإضراب الطلبة، فكانت مظاهرات، استخدمت فيها السلطات السلاح وأطلقت النيران على الجماهير، وقدم الحزب تضحيات غالية من الرفاق، فكانت فعاليات جماهيرية واسعة عبرت عن قوة الحزب في الشارع العراقي، لذلك كان الحزب يستقطب الشباب القومي بصفة شبه مطلقة.
ثم أن هناك أمراً جوهرياً في غاية الأهمية، ذلك أن الحزب كان يطرح الاشتراكية بوصفها من الشعارات الرئيسية، وكان هذا الشعار يمنح الحزب البعد الشامل للرؤية الاجتماعية والموقف حيال الإقطاع والأرستقراطية والفئات العليا للبورجوازية، فيما كانت حركة القوميين العرب تقف عند الشأن القومي، وبدقة أكبر الفلسطيني الذي تطور لاحقاً إلى منظمة شباب الثأر والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. بقيادة مؤسس الحركة (القوميين العرب والجبهة الشعبية) القائد التاريخي الكبير د. جورج حبش.
وفي المراحل اللاحقة اتخذت الأبعاد الاجتماعية / الطبقية اهتماماً أوسع عند حركة القوميين العرب، فتم تأسيس حزب العمل الاشتراكي ساهم فيه القائد العمالي العراقي هاشم علي محسن، ولكن هذا الحزب واجه عواصف ما بعد نكسة 1967 وتعرض إلى انشقاق تمخض عن قيام حزب جديد، هو منظمة العمل الشيوعي، بقيادة الشخصية اللبنانية السياسية والفكرية المهمة السيد محسن إبراهيم، فيما مضى جناح حركة القوميين العرب في اليمن إلى خوض الكفاح المسلح ضد الوجود الاستعماري البريطاني، وطور تجربته الخاصة إلى حزب الجبهة القومية، ومن ثم إلى الحزب الاشتراكي اليمني الماركسي اللينيني، وهذه التجربة بدورها تعرضت إلى تناقضات فجرت تصفيات دموية حادة أدت إلى مقتل أبرز قياداته: سالم ربيع على، وعلي عنتر، وعلى ناصر محمد وأخيراً الخسارة الفادحة التي لا تعوض بمصرع القائد الاشتراكي البارز عبد الفتاح إسماعيل، الذي مثلت وفاته خسارة لا تعوض ليس لليمن فحسب بل وعلى صعيد النضال الوطني والقومي والاشتراكي في الوطن العربي بأسره، فقد كان هذا القائد يمثل أمكانية كبيرة في الرؤية والتحليل والنهج. وما أكثر الخسائر العزيزة التي خسرناها دون سبب وأخطاء لا معنى لها.
أما حزب البعث العربي الاشتراكي، فقد كانت أهدافه وشعاراته القومية / الاشتراكية تلبي أسئلة ملحة وتوضح الهدف وأساليبه، وإن لا بد من الاعتراف، أن الجانب القومي كان قد استولى على اهتمام الحزب الرئيسي، ذلك أن الشأن القومي ومفرداته كما أسلفنا، كانت الجرح النازف في الأمة، ففي الأربعينات: كانت القواعد العسكرية البريطانية تملاْ العراق ومصر والأردن وأقطار الخليج تحت الهيمنة البريطانية المباشرة واليمن والسودان تحت الاحتلال البريطاني، وليبيا تحت الهيمنة الأجنبية فيما كانت تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا تحت الاحتلال الفرنسي، ولم يكن استقلال العراق ومصر واليمن الشمالي والسعودية وسورية ولبنان إلا استقلالاً شكلياً، ليس من الغريب والحالة هذه أن يركز الحزب على العمل القومي التحرري ويعتبره الفقرة الأساس في نضاله ؟
لم يكن الحزب قد مارس تجربة السلطة بعد، لذلك كانت الجوانب الاجتماعية / الطبقية لا تدل على العمق، ولكن أجد من الضروري الإشارة، أن هذا الجانب، بدأ يشهد تحركاً ما لبث أن تحول إلى صخب، وإلى تبلورات جديدة. ففي عام 1960 كان الحزب على تماس مع التأثيرات الثقافية للحزب الشيوعي، وهو حزب نشيط على الساحة العراقية، ويمتلك خبرات وقدرات عالية، وكان الوضع الاجتماعي في العراق يستحق مثل هذا الاهتمام، وقد تأثر بذلك عدد من أفضل المناضلين البعثيين، واستطاعوا بذكائهم تبين نقاط الضعف في البرنامج الاجتماعي، وأرادوا تجاوز العموميات، والغوص إلى أعماق الشأن الاجتماعي / الطبقي، ثم أنهم طرحوا هذا الأمر بقوة في منظماتهم الحزبية (الأعضاء منهم)، ربما أنهم تجاوزوا بهذا القدر أو ذاك التقاليد الحزبية في الانضباط مما تسبب في نشوء قضية (مشكلة) وكان هؤلاء المتكتلون(حتى ذلك الوقت) يتمركزون في تنظيمات بغداد الحزبية، وأبرزهم: قيس عبد الكريم(القائد في النضال الفلسطيني لاحقاً)، محمد حسين رؤوف، عبد الإله البياتي، محمد الزيدي، ريا عبد الكريم، هناء الشيباني(القيادية في العمل الفلسطيني المسلح والشهيدة في الكفاح الفلسطيني المسلح فيما بعد).
وما لبث أن أتخذ الحزب قراراً بأبعاد هذه العناصر (لم أعد أذكر إن كان ذلك تجميداً من العمل أو فصلاً من الحزب)، فقام هؤلاء بتشكيل منظمة أطلقت على نفسها (حركة الكادحين العرب)، إلا أنها لم تتمكن(لأسباب عديدة) من التوسع، بيد أنني أعتبرها من الفعاليات الريادية في محاولات تعميق الفكر الاشتراكي في الحزب، وأن شخصيات هذا الاتجاه ظلت موجودة بقوة في الحياة السياسية العراقية والعربية، منهم من عاد إلى الحزب فيما بعد مثل الرفيق محمد الزيدي، وأستمر موجوداً في أي تحرك يساري، ومساهماً بفعالية في يسار حزب البعث العربي الاشتراكي، وحتى بعد تركه العمل الحزبي، كرس نفسه وحياته في خدمة القضايا العمالية، وغدا شخصية نقابية وعمالية مهمة في العراق وعلى الصعيد العربي مدافعاً عن قضايا العمال وحقوقهم، وكان رفيقاً وصديقاً حميماً وأخاً لي، وبكل أسف توفي هذا المناضل ورحل عنا قبل أوانه.
وأيضاً واصل الآخرون نضالهم الوطني : محمد حسين رؤوف قائداً في الحركة الاشتراكية العربية، ثم في حركة القوميين العرب، وقد اغتيل هذا القائد الكبير الذي كان صديقاً وأخاً لي ويا للأسف في حملات التصفيات الطائفية بعد الاحتلال في العراق، أما عبد الإله البياتي الصديق الرائع فبعد تجربة معارك أيلول / 1970/ الأردن، أختار الرحيل إلى فرنسا، وما زال يعيش هناك، ونلتقي أحياناً ونتراسل كثيراً ... هكذا عبثت الأقدار بمناضلين أفذاذ ...!
ومن المؤسف أيضاً الإشارة أيضاً إلى تلك الصراعات الثانوية التي نشبت بين حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي العراقي، صراعات لم تكن مهمة في سياق التطور التاريخي للحركة الوطنية العراقية، ولكنها أضرت ضرراً بالغاً في التطور التاريخي اللاحق. فبعد أن كان الحزبان شريكان في جبهة الاتحاد الوطني، أخذت مواقفهما بالتباعد عن بعضهما بعد قيام ثورة تموز فيما فرط عقد الجبهة، ودفنت دون شهادة وفاة توضح سبب هذا الانهيار.
كانت الثورة التي قادها الجيش في 14 / تموز / 1958، تفتقر إلى برنامج تتقدم به إلى الشعب، كما كانت تفتقر إلى التنظيم، فلم يكن هناك قيادة أو مجلس أو تنظيم سياسي. وكان قائدي الثورة عبد الكريم وعبد السلام صديقان مقربان من بعضهما، عبد الكريم الأكبر رتبة وعبد السلام الأكثر جرأة وشعبية. ومنذ الأيام الأولى للثورة ذر الخلاف قرنه بين القائدان، فكان أن التجأ عبد السلام إلى الشارع القومي الذي كان معبئاً بأن سقوط النظام الملكي لابد أن يعقبه الالتحام مع التيار التحرري في المنطقة المتمثل بقيادة جمال عبد الناصر القومية المعادية للاستعمار، فيما التجأ عبد الكريم قاسم إلى تشكيل معسكره الذي لم يكن سوى الحزب الشيوعي الذي تولى قيادة هذا التحالف الذي كان يضم أيضاً الحزب الوطني الديمقراطي (الذي غادر التحالف فيما بعد) إلى جانب منظمات مثل: المقاومة الشعبية، منظمة الشبيبة الديمقراطية، منظمات أنصار السلام، لجان الدفاع عن الجمهورية وكان الحزب الشيوعي العراقي قد استوعب هذه المنظمات، ودخلت معطفه، لذلك كان على الحزب أن يتحمل أيضاً وزر الأخطاء اليومية الكثيرة التي كان أعضاء هذه المنظمات يرتكبونها مسجلة على رصيد الحزب الشيوعي. فيما كانت قوى شعوبية تنفخ في كير الصراع فتزيده التهابا (كما هي اليوم في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي). كما أن الشارع القومي بدوره أتسع وأنتفخ حتى غدا يضم عناصر يمينية وربما رجعية سرها أصطراع أطراف التحالف الوطني الذي أسقط النظام الملكي سياسياً قبل أن يتهاوى على أيدي الجيش العراقي.
وفي مجتمع كالمجتمع العراقي، بسماته وعلاماته الفارقة المميزة، فأن الكثير من التصرفات البريئة أو شبه البريئة(في المقصد) تعد من الكبائر(في ذلك الوقت على الأقل)، مثل تفتيش البيوت والنساء، أو خدش حياء النساء، أو الإخلال والإساءة للدين، تصرفات حتى لو بدت عفوية أو غير مقصودة، إلا أنها كانت تحدث يومياً وبحجم غير بسيط، لذلك ففي غضون فترة وجيزة، أضحى تراكم هذه الأخطاء أمراً لابد من معالجته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فأن عبد الكريم قاسم الذي أعتمد على الحزب الشيوعي فعل ذلك ريثما يتمكن من تصفية خصومه، لذلك كان الحزب الشيوعي ملزماً بتحمل وزر الأخطاء التي يقوم بها أعضاؤه أو منظماته الواجهية، ولكن قاسماً ما أن أحكم قبضته (أو هكذا بدا له) حتى بدأت الشكوك والحساسيات تتسلل إلى حتى إلى العلاقة بين قاسم والشيوعيين.
وإن كنت لا أعتبر نفسي الجهة الأكثر إطلاعاً على تفاصيل ودقائق العلاقة بين قاسم والشيوعيين، فتلك لوحدها قضية مهمة تستحق وقفة دراسة عميقة من الشيوعيين قبل كل شيئ، إلا أن من الواضح أن هذه المعسكرات المتشابكة والعلاقات غير الواضحة بين أطرافها سبباً في فوضى سادت الشارع العراقي. فكل ما هو معاد لقاسم والشيوعيين والشعوبية، صار محسوباً على المعسكر القومي، هكذا ... دخول دون استئذان وبحسابات تفتقر إلى الدقة، وبالمقابل فكل ما هو معاد لشعارات الوحدة العربية والعمل القومي والدين، صار محسوباً على معسكر الشيوعيين، وفي هذا خسر البعثيون والشيوعيون على السواء، إذ حسبت عليهم شخصيات واتجاهات هم لا يريدونها في خضم هذه الفوضى.
واليوم وبعد مرور أكثر من أربعين عاماً على تلك الأحداث، ينظر المرء بأسى إلى تلك التفاصيل، يحار المرء في إيجاد الكلمات والتفسيرات الدقيقة بحقها، ومن المؤسف أن الفوران والهياج ما يزال يشوب تحليل الكثير من الأفراد والقوى، فيأتي بعيداً عن التحليل العلمي الصائب، كما يبدو من المحال أن تعترف الجهات بخطأها مهما كان جسيماً وبارزاً للعيان، وتلك ممارسة سياسية لها نكهة شرقية مميزة، خلطة من عدة عناصر ومكونات تحفل بالمتناقضات ....!
كما لابد من القول أن شارعنا السياسي العراقي لم يكن بمستوى من الوعي لكي يفرز بين الشعارات والأشخاص، على أن عبد الكريم قاسم ما لبث أن قلب للشيوعيين ظهر المجن، فاعتقل الكثيرين منهم وطارد آخرين، ولكنه كان قد ثبت حكمه مدة لا تتجاوز أشهراً، كما ثبت أيضاً أن هذه التحالفات كانت قائمة على أسس هشة، والأمر الثاني هو أن هذه الصراعات لا سيما بين البعث والشيوعي كانت غير مبررة وتنطوي على قدر كبير من العبثية النهلستية السياسية، وعلى أنقاض هذا الصراع عشعشت قوى عسكرية ديكتاتورية ويمينية ورجعية، فلم تجن هذه الأحزاب من صراعها سوى الخسائر لها سواء كأحزاب أو للوطن والشعب.
في لقاء عقد مرة في جامعة لايبزج بألمانيا الديمقراطية، وكنت حاضراً فيه، أثبتت أحدى الشخصيات العلمية الألمانية بصورة دقيقة وأمام قياديين من الحزب الشيوعي العراقي، أن الحزب الشيوعي العراقي أرتكب خطاً فادحاً في تقديمه طرح قضايا الصراع الطبقي، والإفراط في ذلك، فيما كانت بلادكم العراق(والحديث للعالم الشيوعي الألماني) تخوض معركة تحرر وطني من الاستعمار والرجعية والصهيونية. وكان ذلك تشخيصاً دقيقاً من تلك الشخصية العلمية الرفيعة والتي كانت على إطلاع وثيق بالتاريخ السياسي العراقي المعاصر ومفرداته وتفاصيله بل وخفاياه أيضاً. ولكن ذلك كان بعد 25 عاماً على ثورة تموز...!
ترى ما هي الفائدة من سرد أحداث الماضي غير استخلاص دروس وعبر للمستقبل... فرغم كل الجراح التي تبدو عميقة، إلا إنني أعتقد أن الإنسان يشفى من جروحه، تساعده التجربة والبلاسم، والإخلاص للوطن والشعب يهدي الجميع. وطالما هناك عراق، فالكل مطالب بموقف، وهذا الموقف لابد أن يكون في خدمة المرحلة التي نعيش، وهل هناك خطب أكبر من أن يكون وطنك محتلاً ومهدداً بالتقسيم ..! والأحزاب والقوى والحركات الوطنية والقومية والتقدمية واليسارية مطالبة دائماً بتجاوز ذكرياتها، لقد أخطأ الجميع بحق الجميع ولحق بالوطن الشيء الكثير من هذه الأخطاء. لننظر إلى الأمام متمسكين بالثوابت والأساسيات، وما سواها قضايا ثانوية، هذا ما يريده الوطن، أما إذا كنا نسعى وراء مواقف ومكاسب ضيقة، فلنقبض إذن الريح..!
هكذا كان طابع الأحداث في الشهور الأولى التي تلت ثورة تموز 1958، وكنا قد أزلنا نظاماً، كان لكل العراقيين، ولما نبدأ بعد بتأسيس نظامنا الجديد، بل سيستغرق ذلك وقتاً طويلاً ... وطويلاً جداً ...! كانت الأحداث سريعة الإيقاع كثيرة الأحداث، ساخنة، وكأننا في مطبخ والقدر يغلي والناس بانتظار ما ستسفر عنه هذه الطبخة الرهيبة، وكانت هناك سحابة، أو قل غيمة سوداء ثقيلة تنبئ أن هناك أمطاراً مدرارة قادمة ... قادمة .... قادمة، كان النظام الملكي قد مضى، وكأننا نسيناه بعد مرور بضعة أشهر فحسب بسبب تسارع الأحداث. كان هناك زحام في الشعارات وأكتضاض في المواقف، وصار النظام الملكي في طي النسيان، نعم أزلنا نظاماُ كان ينطوي على الكثير أو القليل من الخلل، ولكن المشكلة أننا لم نكن قد هيئنا بديلاً عنه، لا على الورق، ولا حتى في أذهاننا، وربما بوسعنا أن نتبين ذلك اليوم فقط، ولكن مثل هذا البديل لم يكن ولم يوجد أبداً، وحتى أحزابنا الجماهيرية العريقة كانت حديثة العهد (نسبياً)... وبصفة عامة كنا لا نملك رؤيا عميقة شاملة إلى المشكلات، ولكننا كنا نمتلك ردود أفعال رائعة ضد الاستعمار والصهيونية والإقطاع، مفعمة بالحماس الوطني والقومي، ربما بعضها كانت عاطفية وعفوية ومخلصة، لكن دون دراسة للبدائل أو الوسائط التي سوف تأخذنا إلى تلك الأهداف.
ربما أن إزالة النظام الملكي لم يكن خطاً جسيماُ بحد ذاته، (وإن كنت اليوم أتسائل إن كنا سنقود انقلابات عسكرية دموية على سياسات حكومية كلما توفرت لدينا القدرة)، ولكن ثبت لنا بعد بضعة أشهر فقط أن نظام الثورة كان يفسح المجال رحباً والأبواب على مصراعيها، لتمزقات طولية وعرضية. وكذلك لم يكن إزالة الإقطاع (بالطبع)خطاً بعينه، ولكن الإصلاح الزراعي بدا وكأنه هبّة وجدانية وتوق للعدالة أكثر من كونه نظاماً اقتصادياً، لذلك كانت النتائج كارثية ولم نهتد إلى يومنا هذا إلى نظام زراعي مفيد، ذلك لأننا كنا في معظم الأحيان أسرى الشعارات، ونعمل حرفياً (كما هو مكتوب في الكتاب ـ وهذا مثل ألماني) أكثر مما نعمل للهدف الحقيقي، كنا نسعى إلى العدالة، وهو هدف رائع دون شك، ربما تحقق بصورة جزئية، أي أنه لم يكن تاماً. ولكن الجزء الثاني إلى جانب العدالة، نجاح المشروع، زيادة الإنتاج، وهو الأهم الذي لم يتحقق أطلاقاً. الأمر الذي أحال الإصلاح الزراعي إلى أنجاز سياسي / إعلامي ليس إلا. وتضاعف الخطاً موضوعياً، ففي حين كان الإنتاج الزراعي يتراجع على الأرجح، كانت الزيادة السكانية ماضية في التصاعد، فالفجوة في كمية الإنتاج الغذائي المطلوبة كانت تتسع بصفة مطردة، والموضوعات الاقتصادية المهمة(التنمية) لم تتناولها الإدارات في الغالب، إلا بشحنة مضاعفة في السياسة، الجانب العلمي فيه كان ضئيلاً مقابل علو صوت ونبرة الخطاب السياسي الذي كان يهدف بدرجة رئيسية إلى شحن الشارع وتعبئته وكسب التأييد السياسي، عبر مشروعات تستجدي التأييد الجماهيري، ومشروعات فخامة (Luxurious procect) في أحسن الأحوال لا تسمن ولا تغني من جوع، ومن المؤسف أن الإدارات لا تنصت إلا قليلاً لأراء الخبراء والعلماء، فيما تتأثر وتعمل برأي محرضي الشارع ومروجي الشعارات الملتهبة وإحراز المكاسب السياسية السريعة لتمجيد الزعيم الأوحد، وقائد المسيرة.
كان النظام الملكي، نظاماً ..... يوفر استقراراً سياسياً واقتصادياً في البلاد، وسير تدريجي هادئ، ربما كان بطيئاً في عمليات التنمية، ولكن لا بد من الاعتراف أنها كانت خطط مدروسة، ولا بد من الاعتراف بأسف ثانية، أن العراق لم يشهد نظاماً غير النظام الملكي: يمتلك رؤية عميقة إلى حاضر العراق ومستقبله. ومجلس الأعمار الذي أستقطب الخبرات والكفاءات العراقية الشابة، كان يضع خططاً تفصيلية ومشاريع مدروسة سواء في البناء الأرتكازي أو في المجالات الاستثمارية، رغم أن الميزانية العراقية كانت هزيلة للغاية لسببين: الأول، هو قلة الموارد وعائدات النفط من العملات الصعبة، إذ كان النفط يباع بأسعار زهيدة. والثاني: الاعتماد المطلق في الموارد الحكومية على النفط، يضاف إلى ذلك كله عوامل موضوعية هو ضعف إمكانات الأفراد العاملين في الاقتصاد الوطني تأهيلاً وتدريباً وندرة الكوادر المتخصصة، برغم ذلك كله كان الوضع الاقتصادي يتقدم بصورة مقنعة.
بتقديري أن العراق لم يشهد سوى ثلاث مراحل شهد فيها عمليات إقلاع تستحق الذكر. الأولى في الثلاثينات، ثم قطعت لوفاة فيصل الأول والملك غازي، ثم لحلول الحرب العالمية الثانية، ثم مرحلة مجلس الإعمار. والمرحلة الثانية كانت قصيرة في عهد وزير الاقتصاد إبراهيم كبة ومشروعاته، والمرحلة الثالثة بين 1075 / 1980 التي شهدت تنمية علمية مدروسة.
عندما أستقل العراق عام 1921 (تحت الانتداب حتى عام 1932) لم يكن في العراق شارع واحد مبلط (معبد) ولم يكن هناك الكهرباء أو إسالة المياه، وعدد المدارس بعد الابتدائية على الأربعة فقط..! أما التعليم العالي، فكانت هناك مدرسة حقوق فقط ...! ويشير الجدول التالي إلى حجم التعليم بصفة شاملة في العراق في مرحلة الأستقلال والانتداب(أنظر الجدول رقم 1 رجاء).
الجدول(1): معاهد التعليم الرسمية في العراق أبان العهد العثماني أوائل الحرب العالمية الأولى
(المصدر : د. اسماعيل نوري الربيعي : تاريخ التربية والتعليم في العراق)
فيما يعكس الجدول الثاني تطور التعليم خلال خمسة عشرة سنة فقط أي حتى بلوغ الانتداب، التقدم الكبير رغم الافتقار إلى كل شيئ : بنى أساسية، موارد، كوادر إدارية، كوادر تعليمية. ولكن كان هناك نظام دولة.
الجدول (2) :عن نمو التعليم في العراق
(المصدر : د. اسماعيل نوري الربيعي : تاريخ التربية والتعليم في العراق)
ولكننا نقيم هذه الأحداث بعقل اليوم، كنا مفعمين بآمال كبيرة.. وكنا نعتقد أن الوصول إلى أهدافنا هو أمر يسير وسهل، ولكن للأسف أن تلك الآمال لم تكن في محلها من القياس الدقيق، وأول خطوة صوب الخسارة تمثلت في انهيار جبهة الاتحاد الوطني التي مر ذكرها وغياب الجبهة التي مثلت الإرادة السياسية الأكثر وعياً، أتاح الفرصة لبروز شخصيات عسكرية لا جدال في وطنيتها، شخصيات كانت إلى الأمس القريب عناصر عسكرية لا علاقة لها البتة في الحياة السياسية. ينحصر عملها ونشاطها في المعسكرات في ظل نظام وانضباط عسكري، فإذا بها تتحول إلى نجوم لامعة في سماء العراق، شخصيات تاريخية، على يدها سيكتب الفصل الأول من تاريخ العراق الجمهوري، فأخذ كل طرف يحاول أن يعبأ ورائه قوى وحركات وجماهير، وهكذا وبدلاً من أن تتحول الجبهة أو الأحزاب المؤتلفة إلى قائدة للجماهير، أضحت تقاد من قبل شخصيات عسكرية. وإذ تمترس عبد السلام عارف في الخنادق القومية الإسلامية، كان لابد لعبد الكريم قاسم أن يتمترس في الخنادق المقابلة، وهكذا اكتسبت الخنادق سماتها، ربما رغماً عنها، ووضعت عليها الرايات، وابتدأت أولى المناوشات.
هذه المناوشات لم تستغرق زمناً طويلاً، وكانت عملية احتدام المواقف والاحتقان تمضي بسرعة، تتدحرج كرة الثلج وتكبر وهي تتجه صوب الهاوية، واحتمالات الصدام تبدو دموية أكثر مما هي سلميه، لذلك كان ما أسهل أن يتفجر الموقف في ثورة الشواف في الموصل، شباط / 1959، ولم تكن المشكلة في نزف الدماء التي أريقت بغزارة في الموصل فحسب، بل وأحداث سوف تؤدي فعلها السلبي في ذاكرة العراقيين من قتل حسب الهوية لنساء وشيوخ وأطفال وسحل وتعليق ونهب وسلب، بل أن الدماء سترسم حدوداً يصعب محوها، ونحن كشرقيين نضع اعتبارات مهمة في هذه القضية السياسية ونفسرها، ثم نتخذ منها موقفاً شخصياً، وهكذا تشتبك القضايا السياسية بالقضايا الذاتية لتخلق نسيجاً عجيباً غريباً يبدو كلغز أو طلسم يصعب فك حروفه وأسراره.
في تلك الفترة الصعبة التي أعقبت حركة الشواف، وتصاعدت فيها درجة الاحتدام والمواجهة، حيال ذلك أقدم الحزب على خطوة حكيمة بتهدأة عناصره تلافياً لإشتباكات غير مقصودة، ولكن هيهات أن يمضي ذلك بسلام. فذات يوم وكنت أدرس في المتوسطة الغربية بكركوك، وكان مدرس الرسم شيوعياً(من معسكر السلطة) قد رسم ثلاثة بوسترات كبيرة الحجم، أقرب ما تكون إلى الكاريكاتير منها إلى الرسم، تتضمن موضوعات سياسية بالطبع، تظهر الرئيس جمال عبد الناصر وعفلق والبعثيين في مشاهد مثيرة للسخرية والهزل والإهانة ... وبالطبع أغاظ ذلك البعثيين ومعسكرهم. فقررعبد النبي جاسم وهو من رفاقنا الرائعين، أن يمزق البوسترات، فاتفق معي أن نركن دراجتينا الهوائية على الجدار ونعتليهما لتطول أيادينا اللوحات الثلاثة ونمزقها وعلى أن يكون ذلك في الصباح الباكر وقبل حضور الطلبة، وهكذا كان، ومزقنا البوسترات الثلاثة، ولكن وخلال عملية الانسحاب، وكنت أقود دراجتي في المقدمة ودراجة عبد النبي ورائي، حدث أن هجم عليه فراش المدرسة وضج المكان صياحاً وصخباً تجمع على أثرها بعض الطلاب وعددهم كبير، انهالوا ضرباً على عبد النبي الذي لم ينقذ نفسه من أياديهم إلا بصعوبة، وبعد آثار واضحة على وجهه وبدنه.
وحتى تموز / 1959كان العمل الحزبي يمر بمرحلة صعبة، وفعالياتنا محفوفة بالمخاطر، ولكننا مع ذلك كنا نقوم بواجباتنا الحزبية بجرأة وانضباط. وكان للأحداث المؤلمة التي وقعت في مدينة كركوك والتي وصفت بالمجزرة، ذهب ضحيتها العشرات على أساس الأصطراع العرقي والأيديولوجي، والحقيقة أن الجمهور في مدينة كركوك بموجب هذه المعطيات كان مؤيداً لنا، على الرغم من أن البعث كان تشكيلاَ صغيراً، وفعالياتنا في تلك المرحلة كانت مقتصرة على توزيع النشرات والعمل الطلابي والجماهيري والعمالي، ولابد من الإقرار أن منظمة كركوك وقيادتها كانت كفوءة، رغم أنها كانت منظمة حديثة نسبياً، وقد تواجد في تلك المرحلة الهامة عناصر بعثية كفوءة في هذه المدينة مثل: د. فؤاد شاكر، المهندس منذر حسين، والقائد النقابي المناضل يحي يونس والمدرس طارق فضل، وإبراهيم غانم، أعطت هذه الشخصيات للمنظمة زخماً مهماً، ولسوف تبقى منظمة كركوك دائماً في طليعة منظمات الحزب حتى في المستقبل، وقد عدت بعد سنوات (في أواسط الستينات) للعمل في هذه المنظمة.
ومحاولة اغتيال القائد عبد الكريم قاسم التي جاءت في أعقاب إعدام القادة والضباط العسكريين القوميين(وبينهم عدد من البعثيين)، كانت قد ألهبت الشارع العراقي إلى أقصى درجة. واندلعت تظاهرات عارمة في معظم المحافظات العراقية، وأنخرط ألاف الشباب في فعاليات معادية لنظام قاسم، وكان الكثير من أوساط الشعب تشعر أن إسرافاً في القتل قد حصل وأن الوجبات الأخيرة من الضباط الذين أعدموا لم ينالوا محاكمة عادلة، وكانت تلك غلطة قاتلة أرتكبها عبد الكريم قاسم.
وهذا الشعور كان عاماً، فقد روى لي فيما بعد اللواء الركن إسماعيل العارف الذي كان من ضباط ثورة تموز، ووزيراً للتربية والصديق المقرب لعبد الكريم قاسم (السفير فيما بعد/ دكتور في الفلسفة)، روى لي الكثير من ملاحظاته عن عبد الكريم قاسم، وهو رجل موثوق دقيق الرأي لا يخفي تأييده ومحبته لعبد الكريم قاسم، إلا أنه يقر بأن عبد الكريم قاسم يصلح أن يكون قائداً عسكرياً لامعاً، ولكن ليس لمنصب رئيس وزراء، واتفقنا في الرأي أن تلك الغلطة كانت السبب الرئيسي في نهاية نظام قاسم وبعدها ابتدأ العد العكسي لأنهيار نظامه، ويبدو لي أن قاسماً أرتكب ذلك الخطأ الفادح في شبه غيبوبة من الوعي أو الإرادة، أو كليهما، أو ربما أنه خضع في لحظة الضعف تلك إلى ضغوط شتى في مقدمتها ضغوط الضباط الشيوعيين، الأمر الذي دفع الشارع العراقي إلى حدود الثورة، وصارت الناس تتطلع إلى إيقاف هذا الطغيان الدموي.
وأضاف اللواء الركن العارف، أنه كان في سفرة رسمية خارج العراق، إلا أنه قبيل سفره بساعات قابل القائد عبد الكريم قاسم، واستحلفه على المصحف أن لا يعدم الضباط القادة، فوعده بذلك، إلا أنه فوجئ بتنفيذ أحكام الإعدام قبيل وصوله بغداد بيوم واحد، في بيروت، فكانت صدمة كبيرة له، وأخبرني أن قاسماً كان في حالة شرود بعدها وكأنه أدرك أنه أرتكب غلطة فادحة.
كان الحزب قد ناقش فكرة اغتيال قاسم (في مجرى تصاعد العداء وربما كان هذا في النصف الأول من عام 1959)، إلا أنه سرعان ما تخلى عنها، فقد كانت عملية الاغتيال تبدو غير مقنعة في جوهرها كتصرف سياسي، فصرف النظر عنها بصورة تامة، بعد أن كان قد حدد أسماء العناصر التي ستقوم بالتنفيذ، وكانت: عبد الكريم الشيخلي، عبد الوهاب الغريري، حاتم حمدان العزاوي، سليم عيسى الزئبق، أحمد طه العزوز، شاكر حليوه. وكانت قيادة الحزب قد أوكلت المهمة بأسرها إلى عضو القيادة أياد سعيد ثابت، الذي كان العنصر المحرك في القيادة وفرع بغداد للحزب. ولكن العملية ألغيت، وبالطبع ألغيت المهام. ولكن وبعد إعدام الضباط الأحرار واشتعال الشارع على نحو ما ذكرناه، أستعاد الحزب فكرة اغتيال قاسم في أطار عملية استيلاء على السلطة، فكرة كان يعوزها التخطيط الدقيق، فاستعيدت بالطبع الأسماء السابقة نفسها تقريباً، إذ كان شاكر حليوه قد أستبعد لأسباب تنظيمية، فاقترح عضو زمرة التنفيذ أحمد طه العزوز أسم صدام حسين على أساس المعرفة، كونه شاب قوي الشكيمة، قادم من الريف ويتمتع بخصال تؤهله لهذه المهمة الصعبة، ولا بد من القول أيضاً أن هذه النخبة من الشباب نفذت أوامر الحزب بصرف النظر عن التقييم النهائي للعملية، وكان غيرهم المئات من مناضلي الحزب من هم على استعداد لتنفيذ هذه المهمة فيما لو طلبت منهم.
على أية حال أستقبل الشارع العراقي تنفيذ تلك العملية التي بدت بطولية وجسدت شجاعة شباب يتحدون رئيس النظام بالرصاص في وسط شارع الرشيد وفي رابعة النهار، على أنه عمل ينطوي على الشجاعة والبطولة والجرأة ودقة في التنفيذ على الرغم من أنها لم تسفر عن مقتل قاسم، ثم كان لشجاعة موقف الرفاق في المحكمة يدل على الثبات في المبدأ والإخلاص، وتلك معاني يقدرها الشارع العراقي ويتعاطف معها.
ونالت منظمة الحزب في كركوك نصيبها من الاعتقالات والمحاكمات، حيث أعتقل الرفاق القياديون: د. فؤاد شاكر(فيما بعد عضو قيادة قطريه وقوميه) والمهندس منذرحسين، والنقابي يحي يونس والمدرس طارق فضل وإبراهيم غانم، كما تعرض للاعتقال أحد الرفاق قاسم دحام العبيدي وكان طالباً في كلية الشرطة(اللواء فيما بعد)، وهذه الاعتقالات والمحكمات كانت أفضل دعاية للحزب الذي أثبت للجماهير صلابته وشجاعته وإخلاص مناضليه ومتانة بناء الحزب.
1414 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع