الفصل السادس عشر – الفرهود ١٩٤١ من كتاب: تاريخ يهود العراق المعاصر
نستمر بنشر فصول من كتاب تاريخ يهود العراق المعاصر للباحث الإسرائيلي المعروف د. نسيم قزاز والذي أصدرته رابطة الجامعيين المنحدرين من العراق في إسرائيل في 2020. وكنا قد نشرنا الفصول الأربعة الأولى وسنقفز اليوم الى الفصل السادس عشر الموسوم "الفرهود"، بمناسبة الذكرى الثمانين لمجزرة الفرهود في 1و2 حزيران 1941 والتي راح ضحيتها نحو 180 قتيلا من أبناء الطائفة اليهودية الوادعين (هناك تقارير ان العدد أكبر بكثير) وأكثر من ألفي جريح وما يقارب 40 ألفا من الذين نُهبت أموالهم وفُرهدت بيوتهم.
يتطرق المؤلف الى حركة رشيد عالي الگيلاني والى ماعرف عند يهود العراق بشهر رشيد عالي (شهر أيار) والى لجنة الامن الداخلي التي عينت في 28 أيار، الى اخراج محمد يونس السبعاوي وكتائب الشباب التي لعبت دور في حوادث الفرهود. ثم يذكر المؤلف تقرير لجنة التحقيق في هذه الحوادث وعن اتهامها للسبعاوي بوجود خطة لإبادة اليهود العراقيين وبعض الاستنتاجات.
جزء كبير ومهم من هذا الفصل بعنوان "يوميات ابراهام توينا" كان قد نشر في الكاردينيا بثلاثة أجزاء ولفائدة القارئ ننشر هنا الفصل بأكمله بما في ذلك اليوميات.
والجدير بالذكر ان المرحوم ناحوم قزاز والد المؤلف كان من ضحايا الفرهود
الفصل السادس عشر - الفرهود
شهر رشيد عالي
في شهر نيسان/أبريل من عام 1941 استولى رشيد عالي الكيلاني على مقاليد الحكم بحركة تمردية أزاح بها حكومة طه الهاشمي الشرعية وألف وزارة مناهضة لبريطانيا العظمى. اضطر الأمير عبد الإله إلى مغادرة البلاد مع أعوانه الموالين لبريطانيا. أما أعوان رشيد عالي فكانوا من المؤيدين لألمانيا ومتشبعين بالأيديولوجية النازية وعلى رأسهم العقداء الأربعة (المربع الذهبي) ومحمد يونس السبعاوي ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني الذي التف حوله أكثرية الضالعين في حكومة رشيد عالي وقادة الجيش العراقي.
وفي اليوم الثاني من شهر أيار/مايس 1941 اندلعت الحرب بين بريطانيا والعراق ودامت حتى التاسع والعشرين منه، اندحر الجيش العراقي في آخرها، ولاذ رشيد عالي ووزراؤه وقواده بالفرار نحو إيران وعلى رأسهم مفتي القدس المحرض الأكبر.
عُرف شهر أيار/مايس من عام 1941 عند أبناء الطائفة اليهودية في العراق ﺒ -"شهر رشيد عالي" وفي هذا الشهر تدهور وضع اليهود من سيء إلى أسوأ، وسادت الفوضى في بغداد وتصاعدت الدعاية النازية والتحريض ضدهم ومعها الاعتداءات عليهم في الشوارع وفي الأسواق، وسيق البعض منهم إلى مراكز الشرطة بتهم واهية كاتصالات لاسلكية مشبوهة مع العدو الإنكليزي أو الادعاء بأنهم صهاينة وإلى غير ذلك من الاتهامات التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي لا أساس لها من الصحة. ولاقى البعض من هؤلاء اليهود حتفهم من جراء الضرب والطعن بالخناجر والسكاكين قبل الوصول بهم إلى مراكز الشرطة.
إنكمش اليهود على أنفسهم وقبعوا في بيوتهم ولم يباشروا أعمالهم ومحلات تجارتهم في الأسواق، وانحصر خروجهم طيلة هذا الشهر إلى الأماكن القريبة من ديارهم لقضاء حاجات وأمور ضرورية.
أعلنت إذاعة بغداد في 31 من الشهر عن مغادرة رشيد عالي، ومن لفَّ لفَّه وانتهاء المواجهة بين الجيش العراقي والجيش البريطاني وعن قدوم الوصي على العرش، الأمير عبد الإله، إلى بغداد في اليوم التالي، ودعت وجهاء البلد وسكان المدينة إلى الخروج لاستقباله والاحتفاء به.
تنفس اليهود الصعداء وخرجوا، بعد فترة طويلة من العزلة والانطواء، إلى التنزه وارتياد محلات التسلية والترفيه. وصادف أن كان 1 حزيران/يونيو لديهم يوم عيد نزول التوراة بيد النبي موسى كليم الله، مما أضاف إلى سرورهم وانشراحهم من زوال المحنة وحلول الفرج، دون أن يدركوا ما كان يبيته لهم القدر.
وفي ذلك اليوم المشؤوم واليوم الذي تلاه وقعت أحداث "مجزرة الفرهود" التي راح ضحيتها نحو 180 قتيلا من أبناء الطائفة اليهودية الوادعين وأكثر من ألفي جريح وما يقارب 40 ألفا من الذين نُهبت أموالهم وفُرهدت بيوتهم.
ولم يكن هناك رادع من قانون ولا وازع من ضمير، فالمؤتمنون على حفظ الأمن من أفراد الشرطة والجيش وكتائب الشباب كانوا من الضالعين في تلك الأعمال الشنيعة. بينما رابطت قوات الجيش البريطاني في مشارف العاصمة وامتنعت من الدخول إليها. وكان بإمكان لجنة الأمن برئاسة أرشد العمري إيقاف القتل والنهب وقمع أعمال الشغب ولكنها لم تحرك ساكناً. واستمرت أعمال القتل والنهب واغتصاب النساء حتى ضحى اليوم الثاني حين أصدر الأمير عبد الإله أمراً بإطلاق النار الحي على القائمين بأعمال الشغب، وكان باستطاعته ان يضع حدا لسفك دماء الأبرياء حال وصوله إلى العاصمة في صباح يوم الأحد، 1 حزيران/يونيو قبل أن تتدهور الأوضاع، ولكن هو الآخر لم يحرك ساكنا إلا بعد يوم من وصوله إلى العاصمة (ولكن بعد خراب البصرة).
لجنة الأمن الداخلي
قررت حكومة رشيد عالي الكيلاني في 28 أيار/مايس 1941، قبل مغادرتها العراق تشكيل لجنة باسم "لجنة الأمن الداخلي" مكوّنة من -:
أمين العاصمة أرشد العمري، متصرف لواء بغداد خالد الزهاوي، مدير الشرطة العام حسام الدين جمعة، وممثل وزارة الدفاع الزعيم الركن حميد نصرت، ووضع تحت إمرتها قوات من شرطة بغداد ومن الانضباط العسكري.
كان من مهمات هذه اللجنة اتخاذ التدابير اللازمة ووضع خطة لسلامة سكان العاصمة وممتلكاتهم وتنظيم حياتهم في حال انسحاب الجيش أو في حال انتقال الحكومة القائمة من بغداد. فوضعت اللجنة خطة تحتوي على اثني عشر بندا، منها :-
البند (أ) : عند حدوث انسحاب الجيش من العاصمة على متصرف لواء بغداد أن يصدر أمراً بمنع التجول داخل العاصمة ويحتم على السكان الإقامة في بيوتهم.
البند (ط) : على ضباط الشرطة إصدار الأوامر إلى مرؤوسيهم باستعمال الشدة عند اللزوم في حالة حصول اجتماعات أو الشروع بالنهب من قبل الرعاع وغيرهم.
إخراج محمد يونس السبعاوي
عيّن محمد يونس السبعاوي نفسه، إثر مغادرة حكومة رشيد عالي والمفتي العراق، حاكماً عسكرياً على بغداد وأطرافها وذلك في بلاغ رسمي أذاعه صهره، مدير الدعاية العام محمد صديق شنشل، مدعياً أن تعيينه تم بأمر من رشيد عالي الكيلاني. وعلمت "لجنة الأمن الداخلي" أن الكيلاني لم يوكل أحداً، فبادر عضو اللجنة الزعيم الركن حميد نصرت وجرّد اتباعه الثمانية عشر شاباً من سلاحهم، فخشي السبعاوي أن يتم تسليمه إلى الإنكليز، غير أن رئيس اللجنة أرشد العمري أمّنه على حياته وما يملكه وأمن تسفيره إلى خانقين فإيران بسيارات الشرطة المسلحة، كما أمن تسفير صهره محمد صديق شنشل مدير الدعاية العام.
كتائب الشباب
إثر اندلاع الحرب بين القوات البريطانية والجيش البريطاني في 2 أيار/مايس 1941 قررت الحكومة العراقية إقامة جمعية "كتائب الشباب" من طلاب "دار المعلمين العالية" وكليتي "الطب" و"الحقوق" للمساهمة في العمل على توطيد النظام العام ومواساة الجرحى الذين اخلوا من ساحات القتال ومساعدة المنكوبين ونحو ذلك من الأعمال الإنسانية. وانتخب مجلسٌ أعلى لإدارتها برئاسة درويش المقدادي (فلسطيني). وما كاد ينت
شر خبر تأليف هذه الجمعية حتى أخذ الشباب يتسابق إلى الانتماء إليها فتجاوز عددهم ألف شاب. وخصص السبعاوي من الكتائب ثمانية عشر شاباً وضعوا تحت إمرته أسماهم "حرس السبعاوي الفدائيون". وعندما أنيطت بالكتائب مهمة محافظة بغداد بادروا بالقيام بأعمال عدوانية ضد اليهود، فكانوا يقبضون على اليهود بشتى الوشايات والتهم الكاذبة ويسوقونهم إلى مراكز الشرطة، وكانوا يقتلون بعضهم قبل الوصول بهم إلى المراكز.
وجه صهر السبعاوي محمد صديق شنشل، في 29 أيار/مايس 1941، نداءً من محطة الإذاعة دعا فيه كتائب الشباب كافة إلى الحضور في مقر وزارة الاقتصاد في الساعة الرابعة من صباح يوم الجمعة 30 أيار/مايس 1941 وذلك "بأمر من زعيم كتائب الشباب"(ترأس وزارة الاقتصاد حينذاك يونس السبعاوي)، فلما اجتمعت الكتائب في الزمان والمكان المعيّن وُزعت عليهم 400 بندقية وأُعطيت 100 خرطوشة مع كل بندقية، ثم جري توزيعهم على مداخل ومفترقات الطرق الرئيسية في العاصمة.
بعد تسفير السبعاوي أصدرت "لجنة الأمن الداخلي" بلاغاً رسمياً حلت بموجبه "كتائب الشباب" وطلبت من جميع المنتمين لهذه المنظمة أن يسلموا ما لديهم من الأسلحة والعتاد إلى أقرب مركز شرطة لقاء وصل، وان يعودوا إلى ارتداء ألبستهم المدنية. وبات من غير الواضح إن كانت الأسلحة قد أُعيدت أم لا.
تقرير لجنة التحقيق
تشكلت في اليوم الثاني من حزيران/يونيو وزارة برئاسة جميل المدفعي التي اتخذت في السادس منه قرارا بتشكيل لجنة تحقيق حول "الفرهود". وبعد مضي شهر على عملها أصدرت هذه اللجنة تقريراً لخصت في أخره الأسباب الأساسية التي أدت لهذه الفاجعة:
1. المفوضية الألمانية.
2. مفتي القدس السيد أمين الحسيني وحاشيته الذي دخلت العراق معه.
3. المعلمون الفلسطينيون والسوريون.
4. محطة الإذاعة الألمانية باللغة العربية
5. الإذاعة العراقية.
6. الفتوّة وكتائب الشباب.
وتجدر الإشارة هنا إلى عدة نقاط ذكرتها "لجنة التحقيق" في تقريرها وهي -:
- "خرج لفيف من اليهود إلى المطار للتفرج على مهرجان استقبال الأمير عبد الإله فحدثت مشادة كلامية. أسفرت عن جرح سبعة عشر يهودياً ووفاة اثنين من المصابين وحدث هذا عندما وصلوا "جسر الخر" وصادفهم بعض الجنود...فانهالوا عليهم ضرباً ولكماً وجرحاً بالسكاكين...ووقع هذا الاعتداء على مرأى من رجال الشرطة والانضباط العسكري، وقد بلغ عدد الجرحى ستة عشر شخصاً وقتيلاً واحداً. ثم أخذت الشرطة تجمع المجروحين وتنقلهم إلى "مستشفى الكرخ". فتجمهر الناس أمام المستشفى بغية الهجوم على المستشفى، والفتك بالممرضين والممرضات اليهود. فخرج عليهم مدير المستشفى السيد جميل دلالي ورجاهم أن يتفرقوا، فطلبوا أن يسلمهم اليهود من رجال ونساء...وبالأخص اليهودي حسقيل المضمد، فوعدهم وذهب وأخبر الشرطة، فحضر فصيل من القوة السيارة وبدد ذلك الجمهور وقبض على عدة أشخاص منهم ".
- "علمت الشرطة بوجود عدة قتلى في محلة "أبو سيفين"...وكان عددهم ثمانية. وتبين أن الفاعلين هم بعض أفراد الجنود وشاركهم بعض الأهلين".
- "حصل تجمهر في شارع الأمير غازي، وأرادت الشرطة أن تفرق الجمهور فلم تستطع، فاستدعت سيارة مسلحة وأخذت السيارة تطلق نيرانها في الهواء فتفرق الجمهور في بادئ الأمر ظناً منه بأن النار تطلق عليه ولما علم بأن النار تطلق في الهواء بادر إلى دور اليهود فهجم عليها، وصار يجرح ويقتل وينهب، وكانت الشرطة تحضر إلى محلات الحوادث فتقابلها الجماهير بالتصفيق وتهتف لها بحياتها باعتبارها تساعدها على النهب والسلب".
- بتأييد من رئيس "لجنة الأمن الداخلي" أرشد العمري، رفض كل من خالد حجازي متصرف لواء بغداد، ومدير الشرطة العام حسام الدين جمعة والزعيم الركن حميد رفعت إعطاء الأمر بإطلاق النار على القائمين بأعمال القتل والسلب بحجج واهية ".
- "استدعى [محمد يونس السبعاوي] رئيس الطائفة وكلفه بأن يخبر أفراد الطائفة بأن لا يخرج أحد منهم من داره في أيام الجمعة والسبت والأحد المصادفة 30، 31 أيار/مايس و1جزيران/يونيو 1941 وأن لا يتخابر أحد منهم مع الاخر تلفونياً، وقد ظهر لنا [للجنة] من الحوادث التي وقعت أن قصده من ذلك أن يأمر جنده وحراسه في مداهمة اليهود في دورهم، والقضاء عليهم. ومما يؤيد ذلك أنه قد أعد خطاباً نارياً لأحداث ثورة داخل بغداد لا تبقي ولا تذر. إلا أن الظروف قد حالت بينه وبين ما أزمع عليه حيث قبضت عليه "لجنة الأمن الداخلي"، ولم تسمح له بإلقاء خطابه، وإن هذا الخطاب محفوظ لدى أمين العاصمة السيد أرشد العمري وحسب ما أخبرنا أنه محرر بخط يده [بخط يد السبعاوي] ".
استنتاجات
إن أحداث "الفرهود" لم تنشب عفواً بل كانت مدبرة وخطط لها مُسبقاً من قبل الأوساط القومية المتطرفة وتواطئٌ مع " لجنة الأمن الداخلي" وأعقبها امتناع الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله من إصدار أوامره للقوات المسلحة بإطلاق النار على القائمين بأعمال الشغب، ولم يقم بذلك إلا بعد مضي أكثر من اربع وعشرين ساعة على قدومه إلى العاصمة. والأدلة على ذلك :
• لم تنفذ "لجنة الأمن الداخلي" شيئا من بنود الخطة التي وضعتها لاستتباب الأمن في العاصمة، وخاصة البند (أ) الذي أوجب على متصرف لواء بغداد عند حدوث انسحاب الجيش من العاصمة أن يصدر أمراً بمنع التجول داخل العاصمة ويحتم على السكان الإقامة في بيوتهم. والبند (ط) الذي يحتم على ضباط الشرطة إصدار الأوامر إلى مرؤوسيهم باستعمال الشدة عند اللزوم في حالة حصول اجتماعات أو الشروع بالنهب من قبل الرعاع وغيرهم.
• وعدت السلطات العراقية جماهير العاصمة، في بيان أذاعته من محطة راديو بغداد في 8 أيار/مايس 1941، أنها بعد النصر على الإنكليز ستنتقم من "العدو الداخلي" وتسلمه إليهم للقضاء عليه.
• دبّر محمد يونس السبعاوي خطة لمداهمة اليهود في دورهم وذلك بإيعازه لرئيس الطائفة اليهودية وتكليفه بأن يخبر أبناء طائفته بأن لا يخرج أحد منهم من داره في أيام الجمعة والسبت والأحد المصادفة 30، 31 أيار/مايس و1جزيران/يونيو 1949 والا يتخابر أحد منهم مع الثاني تلفونياً.
• تزامن الخطاب الناري الذي أعده السبعاوي بغية الإخلال بأمن بالعاصمة، مع توزيع 400 بندقية "لكتائب الشباب" في اليوم التالي من تهيئة الخطاب.
• تواطئ أعضاء "لجنة الأمن الداخلي" مع القتلة والسفاحين بامتناعهم من إصدار الأوامر بإطلاق النار على القائمين بأعمال القتل والسلب والنهب. وكل منهم يتحجج بحجج واهية.
• إن لجنة الأمن الداخلي عُينت من قبل حكومة رشيد عالي الكيلاني الموالية لألمانيا النازية، ومن المنطقي الافتراض أنها كانت متعاطفة مع حكومة الكيلاني الموالية لألمانيا النازية. وتجدر الإشارة هنا أن رئيس اللجنة أرشد العمري كان من أشد المعادين لليهود من منطلق أيديولوجي، كما جاء على لسان المؤرخ العراقي كاظم حبيب.
• كان الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله قد وصل العاصمة بغداد صباح يوم الأول من حزيران/يونيو 1941، أي قبل اندلاع أعمال الشغب بنحو 8 ساعات، ولكنه هو الآخر لم يحرك ساكناً ولم يوعز بإطلاق النار طالما الضحايا هم من اليهود. ولكن عند ما اتضح في اليوم الثاني أن الأعراب المتواجدين خارج العاصمة انضموا إلى القائمين بأعمال الشغب وأخذوا يهاجمون بيوت ومحلات سكان العاصمة مبتغين النهب والحصول على الغنائم، من دون التمييز بين يهودي ومسلم، فعند ذلك أصدر أوامره، في الساعة الحادية عشر والنصف، بإطلاق النار وإخماد الفتنة في البلد وضرب العابثين والمعتدين على الأهلين، وأعطى مطلق الحرية في استعمال السلاح. فشرعت القوات المسلحة بإطلاق النار بعد وصوله العاصمة بأكثر من 24 ساعة ، مما يثير الشك أنه كان متواطئاً مع العمري ولجنته في إباحة دم اليهود.
الأمر بإطلاق النار الذي أصدره ولي عرش العراق، الأمير عبد الإله، في اليوم الثاني من عودته إلى العاصمة، ولكن بعد "خراب البصرة" بالنسبة للمواطنين اليهود
يوميات أبراهام توينا
دوّن أبراهام توينا في يومياته أحداث ومعاناة يهود بغداد في شهر أيار/مايس 1941 وهو الشهر الذي دارت فيه الحرب بين القوات العراقية والجيش البريطاني، والذي عرف عند يهود العراق بـ "شهر رشيد عالي". ودون أيضاً وقائع مذبحة الفرهود في يومي في 1-2 حزيران/يونيو 1941 والأحداث التي تلتها.
قدم لنا توينا، وهو من علية القوم ووجهائهم، سرداً قيماً وتسلسلاً يومياً لمجريات وأحداث فاجعة الفرهود، كُتب بيد شخصية مرموقة عاصرت صميم الأحداث وسلطت الأضواء على جوانب شتى من حيثيات تلك المجزرة الرهيبة التي لم يتطرق إليها كاتب أو باحث من قبل.
3 أيار/مايس
تم تحويل "مدرسة شماش" إلى مخزن لأغراض "جمعية الهلال الأحمر" بأمر من أمين العاصمة أرشد العمري الذي كان رئيس هيأتها. وترتب على لجنة شكلت من وجهاء يهود برئاسة يوسف الكبير بجمع التبرعات نقداً، وإذا لم يتيسر للتجار اليهود سحب مبالغ من البنوك فعليهم التبرع ببضائع.
4 أيار/مايس
أتى إلى المدرسة طبيب يدعى مظفر الزهاوي وهدد أعضاء اللجنة يريد ابتزازهم ولكنهم، بعد تردد، رفضوا الاستجابة، وبعدها حام في الأسواق ودار على التجار اليهود وابتزهم.
5 إيار/مايس
دُعيتُ إلى مدرسة "راحيل شحمون" وطُلب مني تسليم البناية إلى "كتائب الشباب"، وكذلك طلبوا مني تسليمهم مكتب المدير والخزينة. وخلال عدة ساعات تواجد في البناية ما يزيد على مائة فرد من الكتائب.
ويقول توينا: إن مدرسة "راحيل شحمون" تقع في قلب محلات سكن اليهود، بينما تقع "مدرسة شماش" في شارع رئيسي بمنطقة يسكنها يهود ومسلمون.
6 أيار/مايس
في هذا اليوم حلقت طائرات بريطانية في أجواء بغداد، وأخذت جهات معادية تتهم اليهود بالتأشير والتلويح للطيارات، وفي هذا اليوم كانت معاناة اليهود صعبة، فقد ألقي القبض على كثيرين منهم وأودعوا التوقيف ورهن التحقيق، ومن بين هؤلاء كان التاجر مراد جوري، ولما علم بالأمر أخوه سليم أبراهام جوري توجه فوراً إلى محمد يونس السبعاوي وكان زميلاً له وساعده (ساعد السبعاوي) في الدراسة، فاستجاب السبعاوي واطلق سراح جميع الموقوفين.
مستشفى مئير الياس
في هذا اليوم، 6 إيار، عندما حلقت الطائرات البريطانية في سماء بغداد تجمع رعاع خارج المستشفى اليهودي "مئير الياس"، وتقدموا نحوه مدعين أن في داخله لجأ طياران بريطانيان يقومان بتوجيه الطائرات المقاتلة، وكذلك ادعوا أن هناك مواطناً بريطانياً يقوم بتوجيه الطائرات إلى أهدافها.
داهم الرعاع المستشفى من خلال بوابتيه مُدججين بانواع ألاسلحة ودخلوا أقسامه المختلفة مطلقين النار عشوائياً وتحول المستشفى خلال بضعة دقائق إلى ساحة حرب، وتفاجأ العاملون داخل المستشفى وتعالت أصوات الخوف والهلع من كل صوب، وطلب المرضى المذعورون النجاة وأخذوا يفتشون عن مخبأ يقيهم شر الويلات، وأصيب مدقق الحسابات موشي بجرح بالغ في رأسه جراء ضربة فأس. وصادف أن أتى إلى المستشفى المدرس في مدرسة راحيل شحمون يوسف كوهين، وكان مرتدياً البزة العسكرية (ملابس الفتوة)، فحافظ على خزانة المستشفى وبدأ بإعطاء تعليماته إلى الأطباء. وتوجهت الممرضة الرئيسة في المستشفى إلى الرعاع وقالت لهم تفضلوا فتشوا عن بريطانيين في المستشفى. ثم أوعز يوسف كوهين إلى الممرضة الرئيسة أن تتصل هاتفياً برئيس الطائفة ولكن مع مزيد الأسف كان الخط عاطلاً، لذلك ارتدت الممرضة عباءة وغطت وجهها "بݒوشي" فخرجت من المستشفى واتصلت برئيس الطائفة.
وفي تلك الأثناء اقتحم الرعاع جميع أقسام المستشفى ونهبوا وضربوا المرضى رجالاً، نساءً وأطفالاً، وخلفوا وراءهم خراباً في كل ناحية، ولم يردعهم رادعٍ.
القى الرعاع القبض على الأطباء وعلى مدير المستشفى وعلى الممرضين والممرضات وخرجوا بهم إلى مخفر الشرطة، وفي طريقهم أطلقوا النار على الصيدلي معتوق حتينة وأردوه قتيلاً.
أما يوسف كوهين، فقد انجلت هويته اليهودية لدى الرعاع ولكنه استطاع النجاة هارباً بالسيارة التي جلبت الثلج إلى المستشفى.
اتصل رئيس الطائفة بمدير الشرطة حسام الدين جمعة طالباً الإنقاذ، فارسل قوة من الشرطة، والقت القبض على بعض الرعاع، وأطلقوا سراح المخفورين من مركز الشرطة، وغادر المرضى المستشفى إلى بيوتهم، وأُغلق المستشفى. وأرادت السلطات أن تحوله تحت رعاية "جمعية الهلال الأحمر" لكن وجهاء الطائفة تمكنوا من إجهاض هذه المحاولة.
7 أيار/مايس
في هذا اليوم أجريت مراسيم حفل ختان في بيت يعقوب شالوم الواقع في "سوق الشورجة" التي يمر منها الكثير من السابلة. فأقبل الرعاع وكسروا الباب واقتحموا البيت والسكاكين بأيديهم وقتلوا شاباً يدعى شينا الياهو (شينا هو اسمه الخاص)، وجرحوا أخا نسيبه عابد شالوم جراحاً بالغة.
وفي اليوم ذاته حاولوا البطش بمدراء محطات السكك الحديدية، وكانوا جميعهم من اليهود. فأصاب المدراء خوف وهلع وأردوا مغادرة محطات السكك، ولكن في حالة الطوارئ السائدة في البلاد يُعد إجراء كهذا مضراً بالمجهود الحربي وعقابه الموت. وفي ساعات الظهر تم لقاء وفد برئاسة رئيس الطائفة الحاخام ساسون خضوري مع رئيس الحكومة رشيد عالي الكيلاني، وكان شلومو ومراد كوهين، اللذان كانا يديران الشئون المالية والتجارية لرئيس الوزراء، قد سبقوا الوفد وشرحوا لرئيس الحكومة الوضع.
قرر رشيد عالي كبح جماح الأوساط التي تتآمر لإيذاء اليهود، فأصدر أوامره بحماية محطات السكك الحديدية، وكذاك أتاح لكل من يريد أخذ إجازة، أن يفعل، شريطة أن يجد بديلاً له. وقال لأعضاء الوفد بصراحة، إن كل هذا ليس لصالح المجهود الحربي، ووعدهم أنه طالما هو في السلطة لن يلحق أي ضرر باليهود.
8 أيار/مايس
بدأت دار الإذاعة العراقية منذ بداية الشهر تبث أناشيد حماسية واخبار انتصارات على جميع الجبهات وأخباراً مهمة أخرى، من الساعة العاشرة والنصف صباحاً وحتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. وفي يوم الجمعة هذا (8 بالشهر) عادت ونشرت هذا الإعلان مرات عديدة -:
"نحن نريد أن يعلم الجمهور أنه من كثرة فرحه على النصر يسيء استعمال السلاح ويتلف الذخيرة سدىً ومن دون فائدة. إننا نريد أن يسود الهدوء في كل مكان، وبعد النصر على الإنكليز سننتقم من "العدو الداخلي" ونسلمه إليكم للقضاء عليه".
17 أيار/مايس
دخل اليوم إلى مكتبي الضابط طاهر يحي (الذي أصبح لاحقاً رئيساً للحكومة العراقية) ومعه يوسف عبودي، وكان في الدائرة آنذاك حوالي عشرة أشخاص، وبدأ الضابط المهذب يتكلم عن بطولة الجيش العراقي وجبن الإنكليز، واخرج مسدسه ووضعه على المنضدة واقسم بالله ثلاث مرات أنه أسقط بهذا المسدس وحده خمس طائرات بريطانية. وبعد أن غادر المكان أخذنا نحصي عدد الطائرات التي أسقطت على غرار ما كنا نحصي في عيد الفصح عدد الضربات التي تلقاها المصريون أيام النبي موسى.
22 أيار/مابس
بلغنا اليوم أنه قد ألقي القبض على طالب يهودي كان بحوزته كتابُ باللغة الإنكليزية، فاتهم بالتجسس، اتصلنا بالحاخام ساسون خضوري، وتمكن من الإفراج عنه بعد دفع الرشوة لمدير مركز الشرطة.
28 أيار/مابس
بلغنا أن الحكومة ستغادر المدينة مساءً، الوضع متوتر، اليهود أغلقوا حوانيتهم بعد الظهر. تلقينا أوامر لإرسال كميات كبيرة من المواد لرجال الجيش المندحر في المعركة، فاشتغلنا حتى الساعات المتأخرة، وعلمنا بعد ذلك أن المواد لم تصل إلى أماكن وجهتها بل إلى منازل وبيوت خاصة.
29 أيار/مايس
استُدعي موشي يتح في ساعات الصباح إلى جلسة خاصة مع "لجنة الأمن" وعاد في الساعة 12 ظهراً. وقال إن أعضاء اللجنة وعدوه سوف لا يلحق باليهود أي أذى وأضاف: "كلنا في خطر ولا ينجينا سوى معجزة".
في الساعات المبكرة من هذا الصباح هرب أعضاء الحكومة والمفتي قبل أن تأخذ "لجنة الأمن" بزمام الأمور. وأعلن محمد يونس السبعاوي عن نفسه حاكماً عسكرياً على بغداد.
30 أيار/مايس
اليوم جمعة والمدينة هادئة، كنا جالسين في الدائرة، زارنا الحاخام ساسون خضوري وأخبرنا أنه استُدعي من قبل محمد يونس السبعاوي في الساعة العاشرة. وعاد إلينا قائلاً من الأحسن أن تذهبوا إلى محلات سكناكم، لقد أوعز لي يونس أن أخبر جميع اليهود أن عليهم إعداد طعام لمدة ثلاثة أيام وأن لا يخرجوا من بيوتهم. وأضاف :
عند نزولي في الدرج رأيت مدير الشرطة حسام الدين جمعة صاعداً إلى مكتب يونس والمبنى محاطاً بالشرطة، فسألني ما الخبر؟ فأجبته بما أمر يونس أن أُخبر أبناء الطائفة.
وفي الساعة 12 أبلغ الحاخام جميع يهود المدينة أن لا يغادروا منازلهم (ولكن في الساعة الثانية بعد الظهر عاد ثانية وقال إنه تلقى خبراً آخر)، كنا حينها في "مدرسة شماش" وأردنا مغادرة المحل بعد خروج الحاخام، وفي تلك اللحظة وصلتنا مكالمة من سكرتير أرشد العمري يريد منا البقاء في انتظاره. في الساعة 12 جاءنا أرشد العمري وقال لموشي يتح ما يلي -: "قبل ساعة تقريباً كنتم في خطر، وقد زال الخطر، لقد استلمنا السلطة ولن يستطع أحد أن يمسكم بسوء. وممنوع إخراج مواد من المخزن إلا بأمر مني.
علمنا أنه عندما كانت الشرطة تحاصر مبنى وزارة محمد يونس السبعاوي، اقتحمت قوة من الشرطة مبنى "المدرسة الإعدادية الأهلية" (مدرسة تابعة للطائفة اليهودية) وطردت من داخلها "كتائب الشباب" والقت القبض على عدد منهم وسفّرتهم إلى إيران. وداهمت قوة أخرى "مدرسة راحيل شحمون" والقت القبض على بعض من أفراد الفرع الآخر "لكتائب الشباب" وغادرت بقيتهم المكان.
وعلمنا فيما بعد أن محمد يونس السبعاوي أوعز إلى دار الإذاعة أن تنادي الجماهير لمهاجمة اليهود والغدر بهم، ولكن أرشد العمري منع ذلك.
وفي الساعة الخامسة بعد الظهر أذاع الراديو خبر هروب الحكومة وطرد يونس. وأن الحرب مع الإنكليز في مرحلة الانتهاء، وأن "لجنة الأمن الداخلي" أخذت على عاتقها التوصل إلى اتفاقية محترمة مع الإنكليز لا تمس بكرامة الدولة وهيبتها، وأنها ستحيط الجمهور علماً بالاتفاقية.
31 أيار/مايس
اليوم السبت، في المدينة يسود هدوء متوتر، هنا وهناك يتجول أفراد الشرطة وبأيديهم البنادق...في الساعة الخامسة والنصف أعلن الراديو أنه تم التوقيع على اتفاقية وأن الأمور عادت إلى مجراها الطبيعي. وفي الساعة السادسة أعلن الراديو أن الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله عائد، وسيصل إلى الميناء الجوي في الساعة العاشرة من صباح الغد، ودعي الجمهور لاستقباله استقبالاً حافلاً.
امتلأت كنس اليهود بالمصلين في ليل "عيد الأسابيع" (חג השבועות)، عيد نزول التوراة على يد كليم الله النبي موسى، ثم عاودوا بعد الصلاة إلى منازلهم حيث تتلى الصلوات ترحماً على أرواح الموتى (תיקון שבועות)، وكنا في حالة خوف ومتأملين أن يكون الأسوء قد غادرنا وتخلف عنا.
كانت الطائفة اليهودية، على مر الأجيال، تحتفل بزيارة قبور الصدّيقين، النبي حزقيال في الكفل وعزرا الكاتب خارج العاصمة، ومرقد يهوشع الكاهن الكبير في جانب الكرخ، وفي هذه السنة لم تتم هذه الزيارات.
أحداث يومي الفرهود وما بعدها في يوميات توينا
1 حزيران/يونيو
اليوم الأحد، هو اليوم الأول من "عيد الأسابيع"، في الساعة العاشرة صباحاً تجمع شباب لاستقبال الوصي عبد الإله، ووصل بعضهم الميناء الجوي وعادوا منه، بينما لم يصله آخرون. وكانوا جميعهم مرتدين ملابس العيد وسحنات وجوههم تدل علي الاغتباط والفرح، فتعرض لهم رعاع مسلمون ورجموهم بالحجارة وجرح أحدهم بجروح خطيرة، ثم تدخلت الشرطة وقضت على أعمال الشغب.
في الساعة الثانية بعد الظهر بدأ اليهود يخرجون من محلات سكناهم القديمة إلى الأحياء الجديدة لزيارة أقاربهم أو للتنزه في المقاهي للتخفيف من التوتر. ولم يطرأ على مسامعهم شيئ مما حدث في الصباح بجانب الكرخ. وتجمع عند باب الشيخ محرضون ورعاع من صفوف "كتائب الشباب" وجنود مندحرون وطلاب متهوسون، وأوقفوا سيارات الباص وجرّوا الركاب اليهود منها وأردوهم قتلى.
عُدتُ من المخزن إلى البيت في الساعة الثانية ورأيت شارع الرشيد هادئاً ولم تصلنا أية معلومة.
في الساعة الرابعة خرجت من الدار ورأيت مدير الشرطة حسام الدين جمعة مع أحد أعضاء "لجنة الأمن" نازلاً من سيارته ويأمر أفراد الشرطة بمنع الناس من التجمهر. ومن بعيد سمعت أًصوات اطلاق عيارات نارية. وصلت "محلة البتاوين" ورأيت المقاهي مليئة باليهود، فنزل أحد اليهود من سيارة باص وملامح الخوف على سماته وأخبرنا عن الذي يحدث في "باب الشيخ"، فأوصلنا الخبر بهدوء لكل رواد المقاهي محذرين إياهم أن لا يركبوا الباصات وأن لا يسيروا مجتمعين مع بعضهم ويتجنبوا سلك شارع غازي بطريق العودة. وعند الساعة الخامسة والنصف خلت المقاهي من روادها، ومن لم يتمكن من العودة إلى منزله لقي حتفه في شوارع المدينة. وفي الليل سمعنا الصراخ يتصاعد من الأحياء اليهودية القديمة. ولم يستتب الهدوء إلا بعد الساعة الثانية من منتصف الليل.
عاد الرعاع في اليوم التالي في الساعة الثامنة والنصف للبدء بالمجزرة مجدداً.
2 حزيران/يونيو
أبلغتني الشرطة يوم أمس بوجوب حضوري في "مدرسة راحيل شحمون" في الساعة السابعة من صباح اليوم بغية فتح الخزانات والخزنة الحديدية التي كانت تحت تصرف "كتائب الشباب". خرجت من الدار في الساعة السادسة صباحاً، ورأيت في الشوارع آثار دماء. وعند وصولي إلى المدرسة وجدتها مغلقة. وتطلعتْ إلي أحدى الجارات من الشباك وسألتني، كيف تجرأت على الخروج من الدار والمجيء إلى هنا؟، وأضافت، لقد تجمهر هنا أثناء الليل شباب وبيدهم البنادق والمسدسات ومد لهم يد العون الحارس المسلم... فلم أرَ بداً إلا الرجوع إلى منزلي بالسرعة الممكنة... وفي الطريق رأيت موظفين يهوداً في طريقهم إلى محلات عملهم (عيد الأسابيع ليس من الأعياد الرسمية).
يقع محل سكناي في حي مختلط في "شارع النهر"... وعندما اقتربت نحو 400 متر من منزلي لمحني جاري...واتجه نحوي قائلاً إنه سيرافقني حتى الدار ونصحني أن نوصد الباب ولا نفتحه لأي كان.
وفي تلك الأثناء جاءنا أقارب تركوا منازلهم وطلبوا اللجوء عندنا. وفي الساعة الثامنة هرب ثلاثة موظفين يهوداً من محلات أعمالهم القريبة منا ولجأوا إلينا. وكنا نسمع أزيز إطلاق النار في الخارج، فجلسنا مرتجفين من الخوف. وفي الساعة التاسعة جاءنا أحد الجيران ونصحنا بأن نفتح باب الدرج المؤدي إلى سطح الدار، كي نتمكن من الصعود إلى سطح الدار والعبور إلى منزله في حال لم يتسنَ لنا منع الرعاع من اقتحام الدار.
كان في زقاقنا أربع عائلات يهودية واربع مسلمة، وكانت أحداها تكره اليهود وشبابها كانوا يهددوننا طيلة الشهر.
في الساعة العاشرة والنصف صباحاً اقتحم الزقاق نحو 50 رجلاً، وانتصب أمامهم جاري، المختار البالغ من العمر 65 عاماً مخاطباً إياهم : "لن تمروا من هنا إلا على جثتي الهامدة"، وانضمت العائلات الأخرى إلى جانبه وخاطبوا الرعاع مرة بالترغيب وأُخرى بالتهديد إلى أن غادروا الزقاق. وتبين لنا فيما بعد أن الجيران المناوئين لليهود هم الذين وجهوا الرعاع نحونا.
جاءنا، في الساعة الحادية عشر، جاري وأخبرني -: "حتى هذه الساعة كنتم انتم الوحيدين في خطر ومن الأن وصاعداً جميعنا في خطر، إذ أن البدو المتواجدين حول المدينة بدأوا بالدخول إليها باغين النهب والسلب وهم لا يعرفون التمييز بين يهودي ومسلم".
بدأت في الساعة الثامنة صباحاً جماعات الشغب تتوافد، وكانت أعمالهم في غاية التنظيم، وأزال أفراد الشرطة الأرقام والرتب من على أكتافهم وبدأوا بإطلاق النار واقتحام البيوت. وكانت تعليماتهم تشير بالقتل فقط، وهذا ما حصل في الشوارع التي يقطنها اليهود. وكان اليهود على علم بتلك التعليمات فتهيأوا طيلة الليل للدفاع عن النفس، وجمعوا الاحجار الثقيلة وحملوها إلى سطوح ديارهم، وكذلك هيأوا زفتاً وزيوتاً ساخنة وأعدوا أسلحة يدوية بسيطة...وفرح بعض اليهود السذج عندما رأوا أفراد الشرطة، ففتحوا لهم الأبواب ولم يدركوا أنهم من الضالعين بالجريمة.
انتظمت "كتائب الشباب" طيلة الليل مع أفراد الجيش الفارين من جبهة القتال، وقابلهم اليهود بمقاومة ما، ووفر نمط بناء البيوت البغدادية وسطوحها المتلاصقة والمسطحة النجاة للكثير من اليهود ومنعت سقوط ضحايا أكثر، إذ مكنتهم تلك السطوح من الفرار والعبور من سطح إلى آخر والحفاظ على حياتهم.
كان حافز النهب قد حدّ لدرجة ما من أعمال القتل، لأن المجرمين أخذوا بالدرجة الأولى يفتشون في الخزانات قبل التفرغ للقتل. ثم اتجهوا إلى "شارع الرشيد" بغية النهب، قبل أن يسبقهم آخرون.
كانت محلات اليهود وحوانيتهم في شارع الرشيد قد وسمت طيلة شهر أيار بعلامة حمراء. ونهبت في هذا الشارع جميع المحلات والحوانيت العائدة لليهود، ما عدا محليين منع نهبهما جيران لهم، ربما أرادوا أن يحظوا بهما لأنفسهم. استمرت أعمال النهب أربع ساعات، حتى الساعة الثانية بعد الظهر تقريباً، حين دخل الجيش ورابط في أماكن عديدة.
في الساعة الثانية عشر أذاع الراديو أن الجيش دخل المدينة مزوداً بصلاحيات إطلاق النار على كل من يحاول اقتحام بيت أو حانوت. فلاذ المشاغبون بالفرار والتستر.
في الساعة الخامسة أعلنت دار الإذاعة أن الوصي قد عيّن جميل المدفعي رئيساً للوزارة، وبدوره أعلن المدفعي أن الحكومة ستعاقب، من دون رحمة، كل من يمس الآخرين بسوء أو يتعرض للأموال، وفرض منع التجوال من الساعة الخامسة بعد الظهر حتى الساعة السابعة صباحاً. وفرح اليهود بخبر تعيين المدفعي رئيساً للوزارة لأنه كان رجلاً إنسانيا لا يكره اليهود.
3 حزيران/يونيو
في الساعة السابعة والنصف صباحاً حضرني رسول من الحاخام ساسون خضوري برفقة شرطي وطلب مني أن انتظر موشي يتح في الشارع للطواف بالمدينة... التقيت يتح في نقطة اللقاء وكان معه مدير وزارة الصحة إبراهيم عاكف الألوسي، ومهندس بلدية بغداد، وسكرتير "جمعية الهلال الأحمر". ذهبنا إلى المخزن وأرسلنا الدقيق والتمور والبرتقال الموجودة في المخزن إلى مراكز الشرطة التي تواجد فيها يهود. وصلنا في الساعة التاسعة إلى "مركز شرطة إمام طه" حيث تبقى هناك نحو الف يهودي، وسألناهم هل وصلت إليهم المؤونة؟ فأجابوا لم يصلنا شيء...في الساعة التاسعة والنصف وصلنا "مركز شرطة بني سعيد" حيث تواجد نحو450 شخصاً. واتضح لنا أنه في تلك الليلة بات بالمركز ما يقارب ألفي شخص، غادرت غالبيتهم في الصباح متوجهين إلى بيوتهم.
في الساعة العاشرة والنصف وصلنا إلى "المستشفى الملكي" حيث المصابين، وأقبلت نحونا ممرضة يهودية والدموع في عينيها وقالت : إذا لم تتخذوا إجراءً فوريا فسيموت جميع المصابين، إذ أن مدير المستشفى صائب شوكت غير معني بمعالجتهم وهناك خوف من تسميمهم. أسرعنا وأبلغنا الحاخام ساسون خضوري الخبر، فاتصل فوراً برئيس الحكومة جميل المدفعي وأعلمه بما يجري. وعد المدفعي الحاخام إنه سيعالج الوضع، وفي الساعة الحادية والنصف أتى إلى المستشفى ومعه حاشية من الأطباء وطلب منهم أن يعملوا جهدهم كي يتلقى المصابون العلاج اللازم. وأصدر أمراً بفتح "مستشفى مئير الياس" العائد للطائفة اليهودية، فنُقل إليه أغلبية الجرحى بعد معالجتهم في المستشفى الملكي. والحق يقال، إن الفضل في إنقاذ حياة المصابين بجروح بالغة يعود إلى المدفعي باستجابته السريعة، وإلى حاشية الأطباء الذين أتى بهم...بقيت الأسواق مغلقة، اليهود مكثوا في بيوتهم وإن خرجوا فلِمَدِّ يد المساعدة إلى أقاربهم المفجوعين.
4 حزيران/يونيو
في الساعة الثامنة صباحاً أرسل أرشد العمري إلى يوسف الكبير طالباً الاجتماع مع وجهاء اليهود، فحضر كل من يوسف الكبير، يوسف عبودي، أبراهام حييم معلم نسيم، العين عزرا مناحيم دانيال، وكان بين المدعوين الحاخام ساسون خضوري ولكنه اعتذر لكون بيته مليئاً بالناس يطلبون النجدة وليس باستطاعته أن يتركهم. (الحاخام لم يخرج من عقر داره منذ ثمانية أيام عالج خلالها أموراً جمة وحوله مساعدون ورسل يقومون بالمهمات المختلفة). وبينما كان الحاضرون بانتظار أرشد العمري دار الحديث بينهم عن ما آلت إليه الأوضاع، فقال يوسف الكبير : "لقد أجمعت كل الجهات على القيام بالمذبحة، وأنا أعرف أن أرشد العمري شخصية قوية، ومن المستحيل أن تقع أحداث كهذه عندما تكون السلطة بيده، لقد طلب مدير الشرطة، وهو عضو في "لجنة الأمن الداخلي"، أن يعلن "حالة طوارئ" ولكن أرشد رفض...كل الدلائل تشير أنهم أرادوا أن يصب الشعب العراقي جام غضبه ويتنفس عن كربه بذبح اليهود"...وقال أبراهام حييم معلم: "لقد بدأ التحضير والتنظيم في مساء يوم السبت، وكانت الشرطة ودوائر الأمن على علم بذلك، وطلبوا فرض منع تجوال واعتقال بعض الأشخاص، بيد أن المسؤولين من وراء الستار قالوا إن إجراء كهذا سيولد هيجاناً...لقد مضى 18 ساعة بين بدء التحضير والتنظيم وقدوم الوصي. وأنا متأكد أن المشاغبين في استقبال الوصي ليسوا من الضالعين "بالفرهود" لأن الضالعين تجمعوا "بباب الشيخ".
جاء أرشد العمري في الساعة التاسعة والنصف وبدأ يؤنب نفسه قائلاً "البداية كانت جيدة ولكن النهاية كانت وخيمة" وأضاف "إن الدولة الآن في أيادٍ آمنة، وأنا اليوم كأمين العاصمة ورئيس "جمعية الهلال الأحمر" لالبي احتياجاتكم...وقال إن عدد اليهود الذين لاقوا حتفهم 100 وعدد الجرحى 2000 وتقدر قيمة المنهوبات 1.500.000 دينار، وعدد القتلى المسلمين 800 وجرح منهم كثيرون.
9 حزيران/يونيو
استدعتني الشرطة للحضور في مدرسة "راحيل شحمون" لفتح خزانة المدرسة، فشّ خبير الشرطة الخزانة ووجدنا فيها ثلاثة دنانير، وخارطة شوارع الأحياء اليهودية، وقائمة تحتوي على أسماء "كتائب الشباب" وألقابهم السرية. ومقابل كل شارع اسم المسؤول وأسماء مساعديه...طلبت من الضابط أن يعطيني نسخة من الخارطة فأجاب أن هذا ليس من صلاحيته وعليّ التوجه إلى المسؤولين.
على إثر ذلك تم تحقيق مع الحارس (مسلم) واتضح أن جماعة من "كتائب الشباب" أتت في 1 حزيران/يونيو ليلاً، ومكثوا طيلة الليل تقريباً في المحل وأخذوا السلاح معهم، ولم يكن في حوزتهم مفتاح الخزانة لأن قائدهم فرّ إلى إيران مع المفتاح.
22 حزيران/يونيو
بعث خبر اقتحام الجيش الألماني روسيا السوفيتية روحاً جديدة. وفي هذا اليوم أجرى جميل المدفعي مكالمة مع الحاخام ساسون خضوري وطلب منه أن يوعز لأبناء طائفته بفتح محلات عملهم وحوانيتهم وألا يعطلوا الحركة التجارية في المدينة، وتكفل كرئيس للحكومة ألا يحلقّ بهم ضرر. فنشر الحاخام طلب المدفعي، واستجاب التجار للطلب لا سيما أن أغلبيتهم ملّـت البطالة، ففتحوا محلات أعمالهم ورمموها، وبدأ البعض في إجراء معاملات مع البنوك وبعد أمد قصير عادت الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها.
عائلة المرحوم ناحوم يوسف قزاز (1925)، والد المؤلف، قتل في الفرهود.
لاحظ السيدارة أو الفيصلية، غطاء الرأس الذي اتخذه الملك فيصل الأول لنفسه، فأصبح رمزاً خاصاً يرتديه الكثير من اليهود والمثقفين في العراق.
1051 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع