رحلات / مصاطب الرمل .. خمس سنوات في ليبيا - الفصل الثالث محمد سهيل احمد
بحكم ظروف الحصار الذي فرضته قوى الاستعمار الكبرى على العراق ، قررت السفر الى ليبيا للعمل في التدريس بناء على عقد ابرم في السفارة الليبية ببغداد . وكانت فرصة للقاء بشقيقتي واسرتها والتي اقامت في ليبيا منذ عام 1979 حتى شبعت غربة ومن هنا كان اللقاء بمثابة عيد كرنفال لكلينا . غير انني علمت بضرورة الذهاب الى مدينة سرت من اجل تفعيل العقد وتنسيبي في احدى مدارس الجماهيرية العربية الليبية المترامية الاطراف . وهكذا وجدتني منسبا لاحدى مدارس وادي جارف الذي يبعد حوالي ثلاثين كيلومترا عن مدينة سرت الساحلية :
الفصل الثالث
في مدينة سرت
تتميز المدن الليبية ،بحكم المساحة الشاسعة للبلاد بتباعد المسافات فيما بينها . فعلى سبيل المثال تناهز المسافة بين بنغازي وطرابلس ما يزيد عن الالف كيلومترا . اما المسافة بين العاصمة القديمة طرابلس والعاصمة الجديدة سرت والتي حاول العقيد القذافي فرضها على الواقع الجيوسياسي للبلد فتتجاوز الـ 370 كيلومترا . ودعت شقيقتي وزوجها والانجال حاملا حقيبتي المتوسطة الحجم الى كراج حافلات طرابلس . وهو خط المواصلات الذي سأستخدمه مستقبلا بعد استقراري في عملي الجديد . كما ان هنالك سيارات البيجو التي يقودها سواق من بدو الواحات الليبية تنطلق من سوق قلعة طرابلس القديمة . كان اغلب الطريق صحراويا تتخلله مزارع متفرقة للزيتون ومرورا بمدن تعانق سواحل البحر الابيض المتوسط مثل تاجوراء والقرة بوللي والخمس ومصراتة وزليطن وتاورغاء والسدادة حتى دخول سرت التي انتقلت اليها العديد من ( الوزارات ) داخل مجمع كبير كان من بينها ما يسمى بوزارة التربية والتعليم العامة وهو المرفق الذي كان علي ان اتوجه اليه لغرض تحديد موقع العمل في اية مدرسة من مدارس الجماهيرية . وهو المصير الذي واجهه المئات من المدرسين المتعاقدين مثلي من بغداد حيث سيتم توزيعهم في أصقاع الجماهيرية فمنهم من نسب الى الجنوب المحاذي للصحراء الكبرى ومنهم من كان محظوظا فنسب الى إحدى مدارس الساحل .
غادرت الحافلة التي توقفت بالقرب من احدى الاستراحات ( المقاهي ) . أركنت حقيبتي وطلبت شطيرة مقليات سريعة مع مشروب يدعى ( الميرادا ) تشبها بالمشروب العالمي الميرندا . وكان المشروب ليبيا طعما وتسمية ويقلّ جودة عن المشروب العالمي الذي لم اكن أحبذه اصلا، في كل الأحوال ، بسبب ارتفاع نسبة السكر والسكرين فيه . كنت موزعا بين الجوع والرغبة في النوم في مدينة لم يكن لدي أدنى فكرة عنها . ويبدو ان تلك الساندويتشة قد أعادت لي قسطا من نشاطي المفتقد . ثم استأجرت سيارة تاكسي او ( ركوبة ) على حد تسمية الليبيين طالبا منه ايصالي الى اقرب فندق . وسوف اعرف لاحقا ان سرت مدينة صغيرة المساحة جلّ سكانها من مواطنين من اصول قبلية كالقذاذفة والاورفللة والفرجان وقلة قليلة من المصريين والتوانسة والسودانيين والجزائريين لا يتعدون في اعلى تقدير بضع مئات يعمل معظمهم في مزارع الزيتون وآبار الواحات والبناء وإدارة الكازينوهات القليلة عددا والمنتشرة على الشارع الرئيسي الوحيد في المدينة والذي يعد جزءاَ لا يتجزأ من الطريق الدولي الرابط بين العاصمة وبنغازي وما بعدها من مدن الساحٍل الشرقي كالمرج والبيضاء ( العاصمة الملكية الملغاة ) ودرنة وطبرق والبطنان المحاذية لمصر وغيرها .
دلفت لفندق السلام وبعد استراحة لدقائق جاءت نادلة مغربية وطلبت مني مرافقتها الى غرفتي المطلة على الشارع . وقد لاحظت وجودا ملموسا لبنات المغرب ممن كن يعملن كنادلات في الفنادق والكازينوهات ، غير ان أعدادهن كانت قليلة قياسا بنظيراتهن في طرابلس ممن استجلبهن النظام القذافي لأغراض اخرى ! الخطوة التي يبدو ان القذافي نفسه قد تبناها ، لا سيما بعد اشتداد حملات التضييق الدولي بقيادة أمريكا على النظام ، من واقع قناعة شخصية من لدنه بأنها ستوفر مئات الألوف من العملة الصعبة التي كان المسافر الليبي الشاب ينفقها على السفر الى أوربا وتركيا وسواها من البلاد بحثا عن النساء والشراب .
في صبيحة اليوم التالي عنّ لي التوجه الى ساحل البحر الذي كان يتراءى لي عبر نافذة غرفتي . وهناك التقيت بثلاثة من العراقيين يحتسون الشاي على مصطبة مهشمة الأضلاع غائرة الأرجل في رمال شاطئ البحر . وحين اخبرتهم بنيتي مراجعة مجمع الوزارات ، رسموا لي خارطة الطريق مضيفين بأنه من الأفضل الالتقاء بأحد المدرسين العراقيين وهو من البصرة أيضا يتمتع بحظوة لدى اللجان الليبية وين سألتهم عن اسمه اعلموني بأنه مدرس اللغة الانكليزية الأستاذ سعد ناصر .قالوا مضيفين ان بإمكانه المساعدة في امر تنسيبي من اجل ان لا اقذف الى جالو او غدامس او احدى الواحات المترامية الأطراف المطوقة بالرمال من كل حدب وصوب ولحد الاختناق . همست بيني وبين نفسي : أتكون الصحراء قدري المحتوم ، فمن حافات الصيهد في الكويت الى .... ؟ !
كنت متلهفا للمباشرة بعملي من واقع خشيتي من خسارته ، بسبب فقداني لعملي عام 1990 كمحصلة لقيامة الاجتياح العراقي للكويت حيث كنت اعمل في التدريس . والواقع ان اللقاء بالأستاذ سعد كان في كل الأحوال فرصة كبرى فقد كان زميلا لي ايام الكلية . كان من خريجي الدفعة الثالثة وكان الاول على دفعته مثلما كنت من خريجي الدفعة الثانية وكنت الأول على دفعتي ، كما إننا التقينا معا كزميلين لعام دراسي كامل في اعدادية العشار المركزية أواسط السبعينات ، لكنني وجدت حرجا في التماسه فلعلي سأسبب له نوعا من الإحراج ، غاضا النظر عن حقيقة انه ، كما اخبرني فيما بعد ، انه سيكون في غاية السرور لمساعدتي ذلك لأنه قام بمساعدة العديد من المتعاقدين مع الجانب الليبي ، ولكنني لهذا السبب او ذاك عدلت عن فكرة الذهاب اليه لتوهمي ان الوصول الى سكنه سيتطلب مني عملية بحث مضنية لأدرك في وقت متأخر ان عنوانه كان من السهولة بحيث كان في مقدوري الذهاب اليه سيرا على الأقدام في مدينة لا تتجاوز في المساحة مدينة الزبير او ربما أضيق مساحة .
ولدى استفساري عن مدرس لمادة الرياضيات يعمل في التدريس بسرت ، وحين ذكرت لهم اسمه قالوا بأنهم يعرفونه معرفة جيدة وانه يسكن في عمارة قريبة جدا من الساحل . وفور كتابة العنوان قررت التوجه الى الشقة التي يسكن فيها .استغرقت رحلتي ثلاث دقائق لا اكثر لأجد نفسي امام باب تلك الشقة . قرعت الباب لبعض الوقت دونما رد حتى عزمت على مبارحة المكان من يأس من اللقاء ، وإذا بباب الشقة يفتح لأجد نفسي وجها لوجه مع الصديق الشاعر يحيى البطاط . وبعد الترحيب الحار ناولني قدحا من الشاي فأخبرته بقدومي الى ليبيا من اجل العمل . طلب مني الذهاب الى الفندق لإحضار حقيبتي والمبيت في الغرفة وهكذا كان . قضينا الليل نقلب الأحاديث لكنني لاحظت ارتسام قلق خفي ممزوج بحذر على وجهه .
في اليوم التالي توجهت الى مجمع سرت الذي يضم إدارة التعليم لعموم ليبيا وقدمت أوراقي . وبعد انتظار ساعة تلقيت امر تنسيبي في واحة من واحات سرت بينها وبين ساحل البحر بضعة كيلومترات تدعى ( وادي جارف ) !
عدت الى شقة يحيى وأخبرته بالأمر، فقدم لي فكرة أولية عن المكان وهكذا صار الاتفاق ان أتوجه الى موقع عملي في اليوم التالي .
في صبيحة اليوم التالي نهضت مبكرا وتناولت طعام الإفطار مع يحيى وشريكه في السكن محمد ثم التقطت حقيبة سفري وقمت بتوديعهما متوجها الى سوق الخضار القريب والذي تتوقف عنده كوسترات التويوتا المتوجهة الى ضواحي المدينة . تذكرت انني وفي الأمس واثر تسلمي لكتاب التنسيب أردت استئجار سيارة اجرة توصلني الى وادي جارف غير ان السائق المح الى ان المسافة تناهز الثلاثين كيلومترا تقريبا وانه يكتفي بمبلغ عشرة دنانير ليبية من اجل إيصالي للوادي . لكنني استكثرت المبلغ وقررت تأجيل الأمر الى الغد حيث يتوفر ، وكما أسلفت يوجد خط للباصات .
وصلت الى كراج الحافلات القريب من سوق للخضار كان متواضعا في معروضاته وتناولت ثمرة موز ثم ركبت الكوستر الذي كان سيوصلني الى مبتغاي . انشغلت بتقليب كتاب التعيين فوجدته يخاطب ادارة تعليم جارف حول أمر تعييني في احدى مدارس الوادي غير ان اسم المدرسة لم يكن مذكورا في امر التعيين ! جلست بالقرب من السائق متبادلا معه حديثا وديا حول الحياة في الوادي وحين علم بأنني عراقي الجنسية رحب بي بلهجته الليبية البدوية التي بدت مفهومة نسبيا قياسا بتونس والجزائر والمغرب لولا تطعيمها بمفردات ذات خصوصية محلية .
شارفت الساعة على منتصف النهار دون ان يمتلئ الباص بركابه الموعودين وحين سألت سائقنا عن تفسير ذلك التأخير أوضح بأن خط سرت جارف ــ سرت من الخطوط الضعيفة وهو يعتمد على أهالي الوادي ممن يفدون للمدينة في الصباح الباكر لقضاء بعض الأشغال ثم يقضون بعض الوقت في التسوق قبل الركوب . ولهذا أدركت السبب من وراء اكتظاظ الباص بركام من الخضروات إضافة لوجود بعض العجائز ممن كن يضعن سلال التسوق في أحضانهن او على الكراسي التي كانت لما تزل فارغة من الركاب . مضى بنا الباص على طريق طرابلس الدولي الذي كان جيد التبليط الا انه كان أحادي الجانب . وبعد ما يقارب نصف الساعة استدار عند مدخل فرعي مسور ببعض الحوانيت الصغيرة ثم دلف للوادي من ذلك المدخل مارا بمزارع نباتات صحراوية واخرى كانت تضم أشجار زيتون متوسطة الارتفاع . وبعد ان قطع ما يقارب الخمسة الى ستة كيلومترات ناهزنا جهة اليسار حيا سكنيا مؤلفا من بيوت جاهزة اسماه السائق بحي ( مطراو ) والذي كان العادة يفتقد الى الكثافة السكانية . وبعد ان قطع كيلومترا إضافيا ألفيت قبالتي بعض الأبنية وعددا قليلا من البيوت واذا به يهتف :
ــ انزل هنا ايها العراقي .. ستجد امام المستوصف مدرسة اسمها ( قضوار السهولي ) . وسيكون في امكانك ممارسة عملك فيها .شعرت بالصدمة لغرابة التسمية غير انني التقطت حقيبتي وغادرت الباص ماضيا صوب تلك المدرسة وملء ذهني الاستغراب وعدم التآلف مع الأجواء الجديدة للمكان .كان انطباعي بدائيا هو انطباع أي وافد غريب عن المكان لأنني سأعرف في قادم الايام ان سائق الباص هو من حدد لي هذه المدرسة كيما اقوم بالتدريس فيها من دون مدارس ثلاث او أربع اخرى موزعة على واحات الوادي . اذن فسائق الحافلة هو من قام بتعييني في هذا المكان القفر ، في هذه المدرسة الغريبة الاسم لأن طلبتها وهم من الجنسين هم ابناء قبيلته الاورفلية ، رغم ان الوادي يضم ساكنين من قبيلة القذافي التي ينتمي اليها العقيد معمر القذافي وآخرين من قبيلة الفرجان وقبائل مغمورة اخرى . غير ان السائق جعل من نفسه مديرا في تعليم المنطقة واختارني مدرسا في إحدى المدارس التي تضم أغلبية تنتمي الى قبيلته !
جلست قبالة المديرسليمان الغنّاي الاورفلي الذي المح الى وجود ثلاثة من الزملاء المدرسين العراقيين قام بتقديمي اليهم . كان احدهم وهو الأكبر سنا مدرسا لمادة الكيمياء بإعدادية الجمهورية بالبصرة وهو الاستاذ عبد الحسين الزبيدي اما المدرسان الآخران فكان احدهما من مدينة القادسية والآخر من قرية البدير المجاورة لعفك التابعة للمحافظة نفسها .
كان الدوام الصباحي على وشك الانتهاء فقام موسى كاظم بنقل حقيبتي الى المسكن الجديد الذي سوف يجمعنا نحن الثلاثة . كان ذلك البيت واحدا من أربعة بيوت متلاصقة جاهزة مقابل المدرسة التي أصبحت فيها مدرسا لمادة اللغة الانكليزية بقرار من سائق حافلة يعمل على خط جارف ــ سرت الذي كان ينقل أشباحا أكثر من كونه مخصصا لنقل سكنة الوادي .
كان بيت المدرسين الذي ضمنا نحن العراقيين الأربعة واحدا من أربعة بيوت جاهزة :الأقرب للشارع والمدرسة يسكنه مدرس سوداني من دارفور مع اسرته وفي تلك الدار توجد البئر التي كنا نمتح من قاعها الماء الذي نستخدمه لإعداد وجباتنا وكذلك للاستحمام عن طريق نقل جرادل الماء الى حمام البيت . أما البيت الثاني فكان بيتنا والثالث الذي يجاور مستوصف الوادي فكان يسكنه طبيب المستوصف المصري الدكتور احمد والبيت الرابع الأخير يسكنه مدرس فيزياء من مصر يدعى مصطفى ابو اليزيد وأسرته .اما البيوت الأربعة الذي يفصلنا عنها زقاق قصير فكان الأقرب الينا بيت احد الرعاة من قبيلة القذاذفة والذي اعتادت ابنته التي كانت دائمة الابتسام لضعف في قواها العقلية . كانت في الثالثة عشرة تقريبا واعتادت ان تلوح للمارة او تقتعد الأكمات الصخرية المرتفعة قليلا كاشفة عن سروالها الداخلي .اما البيت الخلفي فيسكنه شقيق مدير المدرسة دأبت زوجته على إعداد الخبز الليبي الاسطواني ( الفينو ) في تنور بدائي تجاوره ركامات حطب مؤلفة من أغصان اشجار زيتون .وكنا نعرف بأوقات الأعداد من خلال روائح الخبز المتوغلة في غرفتينا الصغيرتين .
كما كانت هنالك اربعة حوانيت قبالة المدرسة من جهتنا احدها مخصص لبيع الشعير الذي يعدّ المادة الأساسية لخبز فلاحي الواحات يتقدمه ميزان بدائي كبير الحجم بينا تعرض بقية الدكاكين مواد منوعة من الحلويات والأمشاط والعطور الرخيصة وغيرها . وعدا هذين المجمعين لم تكن توجد أية بقالة ولا مقهى نقضي على كراسيها فترة ما بعد الدوام المدرسي لغاية المساء فلا من تلفزيون ولا من مذياع ولا هم يحزنون ! لقد اثقل ذلك الغياب أوقاتنا وزاد غربتنا وطأة ما بعدها وطأة . حتى اذا أهلّ الليل اشتدت آلامنا فنقضي الوقت بالهدرزة ( أي الثرثرة حسب اللهجة الليبية ) ، وهو ما كنت وزميلي ابو علي استاذ الكيمياء نفعله قبل الرقاد . وفي بعض الأحيان أظل وحدي في الغرفة لأن صاحبي يلعب الدومينو في بيت الطبيب فتتناوشني الأفكار واضطر للذهاب الى بيت طبيب المستوصف .
كانت المسافة لا تتعدى العشرين مترا غير ان الليل الأفريقي يختلف تماما عن الليل في مدننا فالسماء اشد حلكة والنجوم اكبر حجما واشد التماعا حتى ليكاد الناظر ان يحسب ان السماء تبدو أشبه بسجادة لامتناهية الأبعاد واقرب الى الأرض الى حد التماس يضاعف من جلال ذلك الليل عويل متقطع لكلاب واحة (السبوع) المجاورة والمؤلفة من عشرين بيت تقريبا أضف لذلك ان الزقاق الذي كنا نمر به اثناء مغادرة البيت وفي رحلة الإياب كان متكدسا برياح قوية لا ينقطع لها زئير .كنا في حضرة الوحشة نبعد عن البيت والأسرة بما لا يقل عن الفي كيلومتر هي المسافة بين سرت والبصرة او سرت وأية مدينة عراقية اخرى .
كان ذلك المكان اشبه بسجن من اختيارنا نحن !
يتبـــــــــــــــع
للراغبين الأطلاع على الفص الثاني:
https://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/64811-2024-09-13-17-06-50.html
541 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع