الممثل والمخرج السينمائي الرائد ابراهيم جلال
ولد ابراهيم جلال في الأعظمية سنة 1924 ابنا لمحمود جلال المحامي، احد أعيان بغداد ومن موظفيها الكبار، تقلد العديد من المناصب الحكومية الهامة، وتنقل بين مختلف ألوية العراق (مدن العراق) واستقر في فترة دراسة إبراهيم جلال للمرحلة الابتدائية، متصرفا للواء الحلة
الفنان الراحل ابراهيم جلال مع الفنان الراحل احمد فياض المفرجي يتوسطان الصورة
برز إبراهيم جلال في المدرسة بتفوقه على أقرانه في درس المحادثة والخطابة، وأجاد تقليد أصوات الحيوانات والطيور، كان والده اكبر المعجبين بمواهبه المبكرة، شجعه على المواصلة بحماس، مع معلميه في المدرسة، الذين كانوا يبرزونه في مناسبات واحتفالات المدرسة ويختارونه لإلقاء الخطب والكلمات واستعراض قدراته في تقليد أصوات الطيور والحيوانات
حقي الشبلي
في سنة 1930 تعرف بشكل مباشر على المسرح عند زيارة فرقة حقي الشبلي مدينة الحلة، وعرضت فيها مسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقي
الفنان الراحل ابراهيم جلال مع الدكتور فاضل خليل
في سنة 1939 عندما كان طالبا في السنة الأخيرة من الثانوية، اشترك في مسرحية فتح الأندلس بدور العاشق، وقد مثل أمامه دور المعشوقة كما يذكر إبراهيم جلال طالب آخر في صفه، كما كان شائعا بسبب التحريم الاجتماعي الصارم آنذاك على صعود المرأة لخشبة المسرح، لاسيما في المدارس. المسرحية كانت من إخراج حقي الشيلي الذي عين أولاً بعد عودته من باريس كمربي ومشرف على نشاط المسرح المدرسي قبل ان يؤسس قسم التمثيل في معهد الفنون الجميلة
دخل قسم التمثيل في معهد الفنون الجميلة سنة 1940 في أول دورة افتتحت لها، بدفع وتشجيع من حقي الشبلي الذي أشركه معه منذ ان كان طفلاً في مسرحية (قيس وليلى) وبعدها بفعاليات مسرحية مدرسيه عديدة قام بإخراجها الشبلي، وتلمس فيه منذ ذلك الوقت المبكر المواهب والقدرات والميزات التي خلقت الفنان إبراهيم جلال لاحقاً
كان طلاب المعهد في بداية تأسيس القسم يقدمون عروضهم في صالون المعهد مستخدمين هول البيت المستأجر كإدارة لمعهد الفنون وفي نفس الوقت يحوي صف مخصص لتدريس الطلاب. وكان قد شهد هذا الصالون الأعمال التي شارك فيها إبراهيم جلال كطالب، حتى تاريخ افتتاح قاعة الملك غازي في أوائل الأربعينات بمسرحية شهداء الوطنية من إعداد وإخراج حقي الشبلي، وبطولة إبراهيم جلال، تلتها عروض المعهد مثل مصرع كليوباترا لشوقي والمثري النبيل لمولير شارك فيها جميعا بالأدوار الرئيسية، حتى سنة تخرجه من المعهد سنة 1944..اضغظ للحصول على الحجم الطبيعي للصورة
خليل شوقي
كان من ابرز طلاب الدورة الأولى معه جعفر السعدي وعبدالقادر ولي وعبد الجبار ولي وكريم هادي الحميد، وخليل شوقي، ويحيى فائق، وعبدالله العزاوي وآخرين، وكان معظمهم يقودون فرقا مسرحيه أو يعملون فيها، ويشكلون بمجموعهم خيرة فناني المسرح العراقي آنذاك.
جعفر السعدي
الزمالة واللقاء اليومي في المعهد قوت فيما بينهم أواصر الصداقة والتعاون وأتخلق نوع من التناغم الفكري والعاطفي الذي كان متجاوبا بشكل سنة مع الشارع السياسي وأحداثه الساخنة في الأربعينات. أسس كريم هادي المحامي وعبد القادر ولي وجعفر السعدي، ومعهم إبراهيم جلال وخليل شوقي وباقي خريجي الدورة الأولى فرقة جديدة تختلف في توجهاتها عن توجهات مسرح حقي الشبلي النخبوي، الفرقة الشعبية للتمثيل 1947، مثل بطولة مسرحيتها الأولى (شهداء الوطنية) و أخرجها أيضا إبراهيم جلال بمشاركة عبد الجبار ولي
يوسف العاني
تعرف في سنة 1950 بيوسف العاني كطالب متميز في معهد الفنون الجميلة، وكان يوسف العاني يقود جماعة جبر الخواطر، فنشأت بينهما من يومها علاقة صداقه وتعاون حميمة أثمرت عن تأسيس فرقة المسرح الحديث 1952 التي كان لها دورها المميز لاحقا في الانفتاح على كل التيارات والتجارب المسرحية العالمية المعاصرة والحديثة التي جائتنا وترسيخها
سافر سنة 1952 بعد تأسيس الفرقة مباشرة إلى ايطاليا في بعثه لدراسة السينما في معهد السينما التجريبي الحكومي بعد ان أنجز بطولة ثلاثة أفلام في العراق خلال الفترة 1946-1948 هي قاهرة وبغداد وليلى في العراق و(عليا وعصام). وكانت شروط القبول في هذا المعهد صعبه إذ كانوا لا يقبلون فيه إلا طالبين في السنة الدراسية من مجموع الأجانب المتقدمين للدراسة وبعد تصفيه دقيقه إثناء تقديم امتحان القبول قد اجتاز إبراهيم جلال الامتحان بنجاح، وكان من أساتذته في المعهد المخرجان المشهوران روسليني، وديسيكا
اخرج ابراهيم جلال في المعهد المذكور فيلما وثائقيا قصيرا على اساس سيناريو مسرحية العاني تؤمر بك باسم الباب
قطع الدراسة في سنة 1954 وعاد إلى العراق ليعمل في فرقته لقناعته بان ما كان يقدمه المعهد من معلومات يكاد يعرفها ويحس بأنها قد مرت عليه وليس هناك من جديد يضيفه المعهد من معلومات لم يسبق له ان اطلع عليها، كان يشعر بأنه يضيع الوقت في المعهد، وانه قد تجاوز بكثير ما كان يدرسه في المعهد السينمائي الايطالي إلا ان فهمه للواقعية الجديدة تعمق ورسخت عنده في هذه الفترة ميوله إلى مذهب الطبيعة..والجدلية في الطبيعة
ابراهيم جلال يعيد لم شمل فرقته
في سنة 1959 عاد و سافر مجددا لإكمال دراسته التي قطعها في ايطاليا، وهذه المرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ودرس المسرح في هذه المرة، وأنهى دراسة الماجستير بتفوق سنة 1963 وكانت أطروحته في نظرية التغريب البريشتي، وحصل على توصيه بدراسة سنة إضافية لنيل العالمية، الا انه اهمل هذه التوصية وعاد للعراق مسرعا بعد ان حدث انقلاب شباط، وزج معظم اعضاء الفرقة بما فيهم سكرتيرها يوسف العاني في المعتقلات، وفصلوا من دوائرهم، وألغيت إجازة عمل الفرقة، وصودرت ممتلكاتها
كان ابراهيم جلال ديناميكيا كتله من الحركة واللاهدوء في عمله وفي مجال تنشيط فرقته، فبعد ان أعاد تأسيس فرقة المسرح الفني الحديث بدء التمارين على مسرحية طه سالم فوانيس 1966 فورا في الوقت الذي كان فيه محسن العزاوي يطبق في الفرقة إخراج مسرحية (مسرحية في القصر) لمورلنياك لمعهده في جيكوسلوفاكيا، وما ان قدمت مسرحية محسن العزاوي بنجاح حتى تلتها مباشرة في العرض مسرحية طه سالم، وفي أثناء عرض الفرقة للمسرحية الأخيرة كان إبراهيم جلال يدرب الممثلين على مسرحية عادل كاظم (عقدة حمار) إلى جانب انشغال بدري حسون فريد كضيف فى الفرقة بتدريب الفرقة على مسرحية عبد الجبار ولي (مسألة شرف)، استعدادا لتلبية دعوه من وزارة الثقافة الكويتية للفرقة لتقديمهما على مسارح الكويت، وسافرت الفرقة في نفس السنة (1966) إلى الكويت وقدمت المسرحيتين بنجاح كبير
ابراهيم جلال شخصيا يؤكد اكثر من مرة في أحاديثه وتصريحاته ميله إلى المذهب الطبيعي وديالكتيك الطبيعة في حياته، فهو يسجل تصوره عن فن المسرح في منهاج مسرحية مصرع كليوباترا (1964) الفن تقليد الطبيعة ومحاكاتها، وغرضه إثارة الفكر والوجدان، العقل والعاطفة، أثارة العقل لتنويره، وإثارة العاطفة لتثقيفها وتشذيبها، انت مدعو ايها المشاهد لترى وتحكم، لتفكر وتنقد لا لتسحر وتغفو اغفاءة المنوم مغناطيسيا بسحر الإيهام الواقعي الذي يعرض امامك.. انت دائما في المسرح ولست في حلم..(..) وفن المسرح تقليد للطبيعة ومحاكاة للواقع وليس الطبيعة كما هي، ولا الواقع منقولا كما هو طبقا واصلا، إنما الذي يعرض امام عينيك وبصيرتك هو من صنع العقل يعالج فيها الكاتب فكره ويفسرها المخرج بوسائل الفن المسرحي لكي يجعلك تعقل عما يحدث، لتشارك الحقيقة الراسخة بعين مبصره وليس بعدسة مصور، ويؤكد على هذا المنحى في إحدى لقاءاته الصحفية اللاحقة فيقول (... ان أهمية حركة الحياة وما يحيطها زادته وعيا واقعيا وإدراكا للفعل وقيمته ألتغييريه، وان ذاكرته ومطالعاته وتراكم الخبرة الفنية كانت لها الاثر الكبير في بنائه كأنسان اقرب إلى الطبيعه، الطبيعه كما يفهمها في حركتها وهارمونيتها، فهو ضد كل من يقف امام وجه هذه الحركة بهدف التعويق وإرجاع أو تجاوز الزمن، ويدعو إلى الانسجام مع الحياة والتلائم في صيرورتها، وهو مقتنع ان كل شيء يتغير في آخر المطاف نحو الأفضل، لأنه قانون الطبيعة، وما هو مشوه من ظواهر نصطدم بها يوميا ما هي الا عوارض طارئة سرعان ما تسحقها عجلة ديالكتيك الطبيعية، وتصفو الأمور في النهاية لصالح الانسجام والتناسق في الحياة
فمفهوم التجديد عند إبراهيم جلال هو تجديد لشيء موجود أصلا، وعندما لا نملك شيئا أصيلاً اسمه المسرح، فكيف لنا ان نجدده؟ يمكن ان نقول اننا نضيف إلى رصيدنا خبره ما لم يسبق ان مرت علينا من تجارب المسرح العالمي لأول مره، وهذا نسميه جديدا وليس تجديدا على مسرحنا المحلي، انه تكرار من وجهة نظر المسرح العالمي
بدايات أسلوب إبراهيم جلال في المسرح، كانت في أول الأمر تحت تأثير أسلوب أستاذه حقي الشبلي، الذي سرعان ما ابتعد عنه نحو المسرح الواقعي الشعبي تحت تأثير مفاهيم الواقعية الاشتراكية، ثم تعمقت الواقعية عنده أكثر بعد دراسته القصيرة في ايطاليا، ومنهج ستانسلافسكي والطريقة في الإخراج بعد سنة 1954 عند عودة جاسم العبودي من دراسته للمسرح من الولايات المتحدة سنة 1963، ثم اخذ يجرب المنهج البرشتي الملحمي في اعماله منذ سنة 1963، بعد ان حصل على الماجستير، وظل مخلصا ومتحمسا لهذا الاسلوب إلى ان غادرنا
شكري العقيدي
ومنذ ان تولى رئاسة قسم المسرح في معهد الفنون الجميله سنة 1950 من بعد استاذه حقي الشبلي، تربت على يديه قافلة طويلة من الرواد المهمين في المسرح العراقي في دورات المعهد التي توالت بعد الدورة الأولى، من امثال يوسف العاني ويعقوب الأمين وشكري العقيدي وكارلو هاريتيون، وبدري حسون فريد، ومحمد القيسي، وعادل الشيخلي، وراسم القيسي، وسامي عبدالحميد، ومجيد العزاوي، وعبدالواحد طه، وغيرهم
ترك إبراهيم جلال فرقته فرقة المسرح الفني الحديث سنة 1971 بدافع التمرد الدائم في داخل إبراهيم جلال على الساكن والجامد والمألوف من الأطر، التمرد حتى على قواعد ونظام الفرقة التي ساهم هو بصياغتها وتأسيسها، والتي أحس بأنها ما عادت تستوعب انطلاقاته المتجددة التي لا حدود لها
تحدث زميل دربه يوسف العاني في الصحف عن ابراهيم جلال واصفا اياه بانه مبدع ((لايقف عند حدود، يكبر في كل لحظه، لم يكن يقنع بأي عمل مسرحي تام، سواء انتهى من تقديمه هو، أو قدمه الاخرون، فتصوره للعمل لايتوقف عند افق، وحتى عندما يصل عمله إلى العرض، فانه يتجاوزه في كل يوم جديد، يضيف إليه في كل مره شيئا، ويعدل أحيانا، فليس من السهل على الممثل الذي يعمل معه ان يفهم أو يستوعب كل ما يريد، فهو نفسه لا يعرف ما يريده على وجه الدقة، لأنه يريد حالة الصيرورة المتواصلة في الصورة، في اللاشعور، ويفترض ان كل من حوله يشاركه رؤيته
كان إبراهيم جلال، متنوع المواهب قدم للسينما والمسرح والتلفزيون والإذاعة، طوال أكثر من خمسين سنة من النشاط في الوسط الفني، تمثيلا وإخراجا وتدريسا في معهد الفنون والأكاديمية وفرقته المسرحية وفرقة المسرح القومي، قدم في حياته الحافلة بالنشاط حتى آخر لحظه، المئات من الأعمال الهامة التي تشكل علامات مضيئة في المسرح العراقي، منها، (أغنية التم لتشيكوف 1956 وست دراهم) ومسرحيات أخرى ليوسف العاني في أوقات مختلفة أهمها إني أمك يا شاكر 1958 وعقدة حمار لعادل كاظم 1967 وفوانيس لطه سالم 1967 والبيك والسايق لبرخت 1973 والطوفان لعادل كاظم 1972 ومصرع كليوباترا لأحمد شوقي 1964 وغيرها الكثير
حصل على جوائز تقديرية وتكريمية عديدة، محلية وعربية هامة، وكُرم أكثر من مرة، ولم يتوقف عن النشاط رغم المرض وكبر السن
بترت ساقيه نتيجة استفحال مرض السكر في سنواته الأخيرة
أخرج آخر أعماله السينمائية في 1986 (حمد وحمود) و آخر أعماله المسرحية 1991 الشيخ والغانية، و توفي مباشرة بعد ان أنجز آخر لقطات عمل تلفزيوني من بطولته الوداع الأخير في آب 1991
المصدر - مقالة الاستاذ عدي فاضل خليل في الفنون الجميلة
الصور من موقع الفنون الجميلة
1114 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع