مذكرات د. صادق عبدالمطلب الموسوي مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين .. شــاهـد ورأى كــل شــيء/الحلقة الخامسة
وأخيراً .. والدي يجد العمل في كربلاء / فندق شاطئ الفرات
عندمَا بدأت أعي هذه الدنيا وما يدور حولي, كان سني آنذاك بين السابعة والثامنة ولست أدري كيف وجد الوالد وظيفة "أمين صندوق" في فندق شاطئ الفرات. كان هذا الفندق يقع في وسط شارع المخيم الذي يربط بين الميدان والمخيم بالقرب من مرقد الإمام الحسين "ع" وهو بناية كبيرة من طابقين من الهندسة المعمارية الإسلامية وفيه إيوانات كبيرة لاستقبال المسافرين وكان يتسع لأكثر من مائة شخص شتاء ومائتي شخص صيفا حيث يستغل سطح الفندق للمسافرين ليلا "والسرداب" ظهرا, كما يضم في الطابق الأرضي وعلى الشارع مطعما بإدارة الحاج قاسم رحمه الله ومحلا للحلاقة بإدارة "عبد" وكنا نناديه "عبد المزين" وهذا الرجل لم يغب عن خاطري لحد الان! فهو من الوزن الثقيل رأسا وجسدا ويعتمر طاقية على رأسه لا تغطي إلاّ "الكوكة" كنت أحلق عنده بعد أن يرفع كرسي الحلافة لاكون أمام المرآة ورغم صغر سني وعدم إدراكي لحديثه ومع ذلك كان يثرثر كثيرا.. كان طيب القلب ودودا رحمه الله.. أما الحاج قاسم فكان معروفا بسخائه وحبه للحسين "ع" فكان يقيم المآدب ويقدم وجبات مجأنية في ثواب الامام الحسين "ع" حتى سمعنا خبر وفاته بعد عودته من الحج.. هذه هي الدنيا..
أما في الجانب الآخر من الفندق كانت هناك مقهى كبيرة للمرحوم الحاج عبد تصدح بالأغاني الشعبية التراثية لحضيري أبو عزيز وزهور حسين ولميعة توفيق وداخل حسن وفي المساء القبانجي وناظم الغزالي وحسن خيوكة وفيما بعد يوسف عمر...
كان جل زبائن المقهى من سواق الباصات والتكسيات وسيارات الأجرة والكسبة وغيرهم, كانوا يتفاعلون جدا مع هذه الأغاني حتى كنا نسمع ونحن في الفندق "طگ الاّصبعتين" كما يقال! ويعزى كثرة الزبائن من السواق ومساعديهم إلى كراج النجف بجانب المقهى, ولكن لنعد الآن إلى داخل الفندق, كانت البناية من ممتلكات الحاج مهدي البهبهاني الذي كان يقيم خارج العراق وقد استأجرها كل من السيد علي نصر الله والسيد جواد طعمة شركاء لاستثماره كفندق أطلق عليه شاطئ الفرات الذي لم يبق من آثاره شيء في الوقت الحاضر...
فريق العمل في الفندق:
كان فريق العمل في الفندق غير متجانس اجتماعيا وطبقيا فالمستثمرون هم من الأسر العريقة في كربلاء السيد علي نصر الله والسيد جواد طعمة ومازلت أتذكرهم لحد الان أما العمال فأحدهم من جذور إقطاعية وزراعية ترك قريته ليعمل في المدينة طمعا بخدماتها... واسمه "جياد", وكان رجلا ذكيا وماكرا وعلى الفطرة وكثير التملق "للسادة المستثمرين" أما العامل الثاني فكان من الوسط الديني وكان زاهدا, لا يتحرك من دون الاستخارة حتى ولو لقضاء الحاجة!! إنه الشيخ مهدي, كان طيب القلب وسليم النية وحسن السريرة رحمه الله، أما والدي فكان يشغل مهمة "أمين الصندوق" مما كان يترتب عليه السهر والمبيت في الفندق فهو آخر من ينام وأول من يستيقظ!! أمضى الوالد في هذا الفندق قرابة ثلاثة عشر عاما أي منذ ولادتي وحتى الهجرة الثالثة إلى بغداد.. وقد أمضيت طفولتي وصباي في هذا الفندق مع الوالد. شاهدته وهو يواصل الليل بالنهار, يكدح من أجل لقمة العيش, كنا نحلم ولو بليلة واحدة يقضيها الوالد معنا, كنا نحتاج إليه كبقية الأطفال وخاصة في ليالي الشتاء الطويلة, كنا نشتاق إلى وجوده معنا في الليل وهو يحكي لنا قصصا مسلية وطريفة! كنا نتمنى أن يقضي معنا ولو ليلة واحدة, وكنا نحسد الأطفال الذين يستقبلون آباءهم في الليل أما نحن فكنا ننام كالأيتام, كنا نتمنى أن نفطر في الصباح مع الوالد والوالدة في الدار ولو مرة واحدة حتى ولو على الخبز والشاي ولكن هذا الحلم كان من المحال! كيف يستطيع الوالد أن يترك عمله في الفندق وهو آخر من ينام وأول من يستيقظ ليعيد أمانات المسافرين! ولما يئست من الافطار مع والدي في الدار كنت ألتحق به في الفندق لأجد بقايا من إفطار الوالد الدسم كالقشطة والعسل أو الكباب الشهي أو "الهريسة" مع القشطة, كان الوالد يعتني بصحته في طعامه وشرابه رغم تدهور وضعه الاقتصادي فقد اعتاد في شبابه تذوق الأكلات الشهية وخاصة في حياة المرحومة جدته "رازقية". أما الوالدة المسكينة فكانت تكتفي بالخبز والشاي وفي النادر مع قطعة صغيرة من الجبن!هذا هو حال فريق العمل في الفندق, عمال يكدحون مقابل دراهم معدودة ومستثمرون يكسبون آلاف الدنانير وهم في بيوتهم أو يراقبون العمال وهم مسترخون على الأرائك الوثيرة!
العلاقة بين المستثمرين والعمال في الفندق:
لم تكن العلاقة بين الطرفين ودية ولا حتى إنسانية, كانت أشبه بالعلاقة بين "الحمل والذئب"! كان السيد علي نصر الله رحمه الله شريك السيد جواد طعمة عملاقا في طوله وعرضه وخاصة عندما يعتمر العمامة "الطربوش" كان صارما مع العمال, كانوا كالعبيد عنده لا يحق لهم الراحة أو الإجازة, يعملون أربعا وعشرين ساعة في اليوم الواحد وسبعة أيام في الأسبوع واثني عشر شهرا في السنة عدا ليلة واحدة في الأسبوع لكل منهم لقضاء الحاجة مع الزوجة! كل هذا العمل مقابل دراهم معدودة لكل منهم, لا حقوق إنسان ولا نقابات تدافع عنهم ولا تعويض لساعات إضافية أو زيادة سنوية! لم يكن لي من الإخوة سوى "هاشم" وعندما كنت أذهب معه لزيارة الوالد في الفندق كان هذا الرجل أي "نصر الله" يرمقنا بنظرات مريبة, ونحن صبيأن, تعبر عن عدم ارتياحه منا لئلا نشغل الوالد الذي كنا نراقبه من بعيد! اما السيد جواد طعمة فكان رجلا ورعا وتقيا وعلى ثفافة عالية, كان يعطف علينا ونطمئن إليه وقد توفي رحمه الله قبل الأوان. كنا نحس بالفارق الطبقي بيننا وبين أبناء "نصر الله" وكأن علاقة الآباء انتقلت إلى الأبناء! ففي الوقت الذي مات شقيقي هاشم في إحدى غرف الفندق نتيجة الإهمال تقام الدنيا ولا تقعد إذا تعرض أحد أبناء "نصر الله" إلى الزكام أو الحمى! "لو كان الفقر رجلا لقتلته" كما يقول الإمام علي "ع"..
العلاقة بين عمال الفندق والزبائن:
كان للوالد علاقات واسعة مع زبائن الفندق من المسافرين من مختلف الفئات والطبقات مثقفين, رجال أعمال, رؤساء عشائر, كبار الموظفين, هنود, باكستانيين, إيرانيين, سواق, تجار....إلخ وقد واجه رحمه الله مواقف عديدة كونه أمينا للصندوق.. من بينها اتهامه بـ"سرقة" مائة دينار أي ما يعادل 330 دولارا في ذلك الوقت من أحد المسافرين من السواق.. تعرضنا خلالها إلى أزمة شديدة وتتلخص في أن السائق بعد أن استعاد أمانته في الصباح الباكر اكتشف بعد أن عاد إلى داره أنها ناقصة ذلك المبلغ! وبعد يومين من التحقيق والتمحيص تذكر "الأفندي" أنه نسي المبلغ عند الدلال لدى بيعه سيارته عندما طالبه بأجور الدلالية والإكرامية بعد المشاجرة معه.. وإنقاذا للموقف اتصل السائق بالسادة مستثمري الفندق وبرأ الوالد وتنفسنا الصعداء.. ومن الطرائف التي أتذكرها مع الشيخ مهدي.. هذه الحكاية:
كان مهدي من بين عمال الفندق وكان متدينا إلى درجة الزهد في الحياة, لم يكن يتحرك أو يعمل أي شيء دون "استخارة" حتى ولو شاء أن يأكل! وفي يوم من الأيام كان السيد علي نصر الله رحمه الله قد أعد وليمة غداء على شرف السيد علي الحبوبي رئيس العشيرة, وكان من كبار الإقطاعيين.. وتكريما له فإنه أعد الطعام في داره وبالخصوص من الأكلات الكربلائية وما على "الشيخ" مهدي إلاّ نقل الطعام إلى الفندق حيث الضيوف بالانتظار.. وبينما كان "الشيخ" مهدي ينتظر انتهاء الطهي عند باب دار السيد نصر الله وإذا به يتذكر أنه قد نسي الإناء الذي اشتراه لغلي الماء "القوري" عند البقال!! فاستخار في الذهاب إلى البقال في سوق الخضار للبحث عنه!! فظهرت نتيجة الاستخارة جيدة وسرعان ما توجه إلى البقال ناسيا المهمة الدقيقة والحساسة التي كلف بها!! كان السيد نصر ينتظر مع ضيوفه الغداء وهم على أحرمن نار.. حتى تجاوزت الساعة الثانية بعد الظهر دون أي أثر لمهدي أو الغداء.. عندها أرسل شخصا آخر للقيام بالمهمة وإذا بمهدي يطل مع أطباق الطعام وقد اصفر وجهه من الخوف والخجل من إحراج السيد أمام ضيوفه وكادت تلك الاستخارة تحيله إلى البطالة لولا تدخل الأصدقاء!!
للراغبين الأطلاع على الحلقة الرابعة:
http://www.algardenia.com/ayamwathekreat/20952-2015-12-28-21-06-54.html
1771 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع