قبل تأسيس اذاعة بغداد سنة ١٩٣٦.. محاولات رائدة لظهور إذاعة عراقية
ظهرت الإذاعات،في بعض البلدان العربية بمبادرات فردية من بعض المهتمين بهندسة الراديو، وظهرت في بعضها الأخر على يد القوى الاستعمارية التي أوجدتها أساسا لتحقيق أهداف عسكرية أو إستراتيجية، في حين لم تظهر في أقطار أخرى إلا غداة استقلالها.
أنشأت الادارة الفرنسية إذاعة لها في الجزائر عام 1925 وإتخذتها وسيلة لبسط الإستعمار الثقافي والفكري فيها، لأنها كانت تذيع برامجها باللغة الفرنسية فقط. وتعد أول إذاعة في الوطن العربي، بعدها ظهرت الإذاعة في المغرب العربي عام 1928، على يد الإحتلال الفرنسي،
وكانت أول محطة إذاعية تبث برامجها باللغة العربية هي إذاعة القاهرة عام 1934،حينما جاءت شركة (ماركوني) Marconi البريطانية وأسستها). عرفت مصر الإذاعة لأول مرة عام 1926حين حصل هواة اللاسلكي المصريون في ذلك الوقت على موافقة من وزارة المواصلات لإنشاء محطات أهلية،ومنها:(راديو القاهرة، راديو الأميرة فوزية) وكانت تهاجم بعضها بعضاً، كان بعضها يذيع باللغة العربية والبعض الأخر بلغات أجنبية، وتم إلغاء تلك الإذاعات يوم29آيار1934 لتترك مكانها للمحطة الحكومية التي بدأت إرسالها يوم 31 أيار1934
أما إذاعة القدس العربية، والتي أسستها القوات البريطانية أيام الإنتداب البريطاني على فلسطين عام 1935 وعين لها مدير بريطاني يساعده آخرون للإشراف على البرنامج العربي، وكانت تعد من أرقى الإذاعات آنذاك وتولى إدارتها ثلاثة من كبار المثقفين الفلسطينيين وبقيت تبث لمدة (12) عام قبل انتقالها إلى رام الله.، كانت ناطقة باللغة العربية أيضاً، وظهرت الإذاعة في تونس عام 1935، لكنها كانت ناطقة باللغة الفرنسية، والإذاعة الرابعة في الوطن العربي هي (إذاعة بغداد) التي تأسست عام 1936 والتي ارتبطت منذ تأسيسها بالحكومة العراقية، ومن بيروت بدأت(إذاعة الشرق) Radio Orient بث برامجها عام 1938، وفي ليبيا ظهرت الإذاعة عام 1939، والتي إنشائها الايطاليون في مدينة طرابلس وكانت تذيع باللغة الايطالية.
انتشرت الإذاعات في أربعينيات القرن العشرين في كل من السودان والبحرين، والشطر الجنوبي من اليمن عام1940، وأنشأت أول محطة إذاعية في سوريا عام 1941 بعد انسحاب القوات الفرنسية الموالية لحكومة فيشي ودخول القوات البريطانية ومعها القوات الفرنسية الموالية لحكومة فرنسا الحرة، والصومال عام 1943، والشطر الشمالي من اليمن عام 1946، وبدأت الأردن البث الإذاعي عام 1948، والمملكة العربية السعودية عام1949.
في حين ظهرت إذاعات خلال الخمسينيات من القرن العشرين في كل: من الكويت عام 1951، وجمهورية اليمن الديمقراطية عام 1954، وموريتانيا عام 1956، و بدا البث الإذاعي في قطرعام 1968، وأبو ظبي عام 1969، وسلطنة عمان عام 1970.
إن جميع تلك المحطات الإذاعية، في الوطن العربي, هي مؤسسات عامة كانت خاضعة لرقابة الدولة مباشرة، وتابعة لها من حيث الإدارة والتمويل. وأحكمت تلك الدول سيطرتها على تلك المؤسسات بعد الحرب العالمية الثانية فهي إما مملوكة للدولة أو تابعة لها أو تحت رقابتها مباشرة. علماً أن جميع الأنظمة العربية كانت تحت السيطرة الاستعمارية الغربية بصورة مباشرة أو غير مباشرة حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية.
بدايات اذاعة بغداد
تعد إذاعة بغداد الإذاعة الرابعة في الوطن العربي ويعود الاهتمام بها، إلى سنوات عدة سبقت قيام الحكومة العراقية بالبث الرسمي لأول مرة عام 1936. ولا يعرف بالضبط متى دخل أول جهاز للراديو إلى العراق، ويمكن الاستنتاج بأن البريطانيين الذين تولوا إدارة المرافق الأساسية في الحكومة العراقية، ومن خلال وجود معسكرات جيوشهم في العراق هم الذين أدخلوا لأول مرة جهاز الراديو إلى العراق.
تعود البدايات الاولى لإذاعة بغداد، تبدأ بوصول الأمير علي بن الحسين إلى بغداد، قادماً على ظهر السفينة التي أقلته من الحجاز، عقب هزيمته إمام ابن سعود عام 1925 مستصحبا معه جهاز مذياع ألماني قديم نوع (منيرڤا), وكان ذلك الجهاز بالنسبة له كنزاً نفيساً بسبب ندرة أجهزة المذياع في تلك المدة، وكان أشبه مايكون بمهد طفل مصنوع من مادة معدنية صلبة، غير أنَّ كثيرا ماكان يصيبه العطل، فيستعين الامير علي بن الحسين بالملحق العسكري في السفارة البريطانية في بغداد(جيرالد دي غوري) ليرسل له أحد نواب ضباط القوى الجوية البريطانية لإصلاحه في بضعة أيام، واستبدال بعض أدواته.
قام صاحب السينما الوطني عام 1927، بجلب الآت الراديو إذ أعلن عن إتمام نصب الآلة اللاسلكية العظيمة التي استحضرها حديثا، لأخذ الأصوات من محطات العالم اللاسلكية, لتسلية الجمهور وقت مشاهدتهم الصور المتحركة، إذ يمكنهم وهم جالسين في السينما سماع الأنغام الموسيقية، والخطب البليغة من أقصى محطات العالم كأنقرة وموسكو وروما، وبرلين وباريس ولندن, ومن دون أجور إضافية, عدا اجرة السينما المعتادة, وقد خصصت أماكن للسيدات في تلك السينما.
ولنشأت الإذاعة العراقية قصة طريفة، لعل أكثر العاملين في حقل الإذاعة أو المهتمين بها لم يطلعوا عليها. ففي أوائل عام 1928 بدأ السيد عبد العزيز البغدادي، صاحب شركة الدخان العراقية، الذي أراد الترويج لبضاعته والدعاية لمنتجات شركته بإجراء المسابقات عن طريق جمع أغلفة علب السكائر التي كانت الشركة المذكورة تنتجها، وكانت الجائزة الأولى عبارة عن: جهاز راديو للفائز الأول.
وهكذا دخلت أجهزةالاستقبال الإذاعية لأول مرة إلى العراق، ثم كثرت تلك الأجهزة بعدة طرق منها الاستيراد الشخصي لبعض الميسورين.
أقدم التاجر حافظ القاضي بتشجيع من شقيق له هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية يدعى مصطفى القاضي على عقد صفقة مع الشركة الأمريكية (R.C.A) لإستيراد أجهزة راديو ذات ماركة واحدة، ومن حجوم مختلفة، تبدأ من حجم(5) مصابيح، وكان التعبير عن الحجوم بعدد المصابيح وليس كما هو ألان، إذ يحدد الحجم ألان”ترانزستور")، اذ احتل الجهاز الجديد مكانة مرموقة لدى المواطنين، وأزاح إلى حد كبير جهاز الأسطوانات (الفونوغراف).
تمكن قلة من المواطنين الذين زاروا بلدانا وأقطاراً مجاورة أخرى, أن يشتروا من الخارج نماذج من تلك الأجهزة, فأصبحوا يلتقطون بواسطتها عددا من الإذاعات الأجنبية، وقلة من الإذاعات العربية، منها: إذاعة القاهرة, وإذاعة القدس العربية, فانتشر خبر تلك الأجهزة لدى المواطنين العراقيين بسرعة.
كما انتشرت تلك الأجهزة عن طريق شركات الاستيراد، ويبدو إن شركة (فيلبس) البريطانية! انشات مركزا لها في بغداد آنذاك اذ اشارت إحدى الصحف عام 1930 إلى ذلك وقالت:((بأن الشركة جلبت أدوات والآت كثيرة للراديو, وإنه بإمكان المستمعين سماع إذاعات موسكو، باريس, لندن, روما, اسطنبول, بوخارست، وأن لندن ستوسع مركزها في بغداد وتقوم بتخفيض أجور إعلانات أجهزة الراديو إلى (10) روبيات)).إنَّ عملية ترويج أجهزة الراديو بشكل واسع تمت حين نشر إعلان يشير إلى إن كثيرا ممن اقتنوا الراديو (ماركة فيلبس) (ظهر عدد كبير من الماركات منها على سبيل المثال:
أبو غزالة، وسيرا، ومولارد، ومنيرﭭا، وأبو الزنيركين، وار.سي. اي)، ((يتنعمون الآن بسماع أشجى الأنغام وأحلى الموسيقى التي تعزف في لندن، وبرلين، وروما، واستنبول، وغيرها من أشهر مراكز الموسيقى في أنحاء أوربا)).
ويضيف الإعلان أنه بعد أَنْ ورد الراديو إلى العراق أصبح (بإمكانك أن تُنشط مسامعك وأنت بين أقربائك وأصدقائك بما يزيل عنك هموم الحياة: موسيقى، رقص، قطع كلاسيكية لأشهر الجوقات، وأعظم المغنين وبإمكانك أن تستعمل مكبرة الصوت (الملحقة بالراديو) في غرامافونك في أي وقت شئت، فتحصل على أنغام مكبرة لاتضاهيها أنغام الجوقات الكبرى.
يمكن الاستنتاج بأن الإذاعة كانت تسمع لأغراض ترفيهية، إذ كانت المحطات الأجنبية تكرس الكثير من وقتها للموسيقى والغناء، وأخذ الناس يقضون الأمسيات بالإستماع إلى إذاعة (القاهرة) التي أمتعتْ المستمعين بتلاوة القران الكريم بصوت الشيخ محمد رفعت، فقد كان العراقيون متلهفون لسماع تلك الإذاعة على الرغم من صعوبة التقاطها، إذ كانت لاتسمع إلا ليلاً، في ذلك الوقت، وبدأت الجماهير في العراق تطالب بإنشاء محطة للإذاعة، للإطلاع على ما يجري في القطر والعالم.
تتضح قيمة الراديو أكثر حين كانت شركات الدخان تتنافس فيما بينها لجذب أكبر عدد من الزبائن إلى منتوجاتهم من (السكائر) للحصول على الجوائز الثمينة وهو الراديو.
فأقدمت أحدى شركات الدخان بتقدم 12 جهازا قيمتها (5000) روبية، إلى المدخنين. مما يدل على أن سعر الراديو كان مرتفعاً. اذ بلغ (31,250) ديناراً ومائتين وخمسين فلساً، في الوقت الذي كان فيه راتب المعلم الشهري (7,500) دينارا.
بدأت بعض المقاهي الكبيرة في بغداد تؤدي دوراً ثقافياً تنويرياً رائداً، اذ قامت بنصب محطات إذاعية سلكية عن طريق وضع راديو كبير في المقهى ثم إيصاله بسلك إلى (سماعة التلفون)، الموضوعة في غرفة أو ركن في المقهى وبذلك تتوزع الأغاني والموسيقى وتراتيل القران الكريم إلى مناطق عدة.
كانت مقهى(الحاج عزيز) في منطقة البارودية بالفضل أول مقهى في بغداد يقوم بإنشاء محطة إذاعة سلكية عام 1932، ثم توالت التجارب المماثلة في مناطق أُخرى من بغداد،ثم تبعه مقهى الحاج عبيد، حين أسس ستوديو في بيته وأوصله بسلك إلى الراديو الموجود في مقهاه الكائن على نهر دجلة في موقع عمارة (الدفتر دار الحالية)وبدا ببث الموسيقى منها عن طريق تأجير الفرق الموسيقية، وكان مقهى التبانة، قرب جامع الفضل حاول تطوير البث الإذاعي السلكي بإنشاء غرفة بث إذاعة يجلس فيها الجوق الموسيقي مع المغني الذي كان يقرا المقامات عادة وفي أوقات لاحقة كان يستضيف مجموعة من مقرئي القرآن الكريم ليقوموا بتلاوة القرآن الكريم، بينما كان كل من السيدين عبد السلام العزاوي وزكي خطاب المحامي يقرأن القرآن الكريم من تلك الإذاعة السلكية عام 1933 كما كان ثمة جهاز راديو كبير في مقهى عارف أغا في الميدان.
شهد عام1932، اهتماماً خاصاً بالراديو والإذاعة, وسبقت عملية البث محاولات لتوضيح أهمية البث ودوره، ومن ذلك ماأعلنته الصحف عن قيام مهندس اللاسلكي في دائرة البريد والبرق المستر (برات)، بإلقاء محاضرة عن أجهزة الراديو،أو مثلما كانت تسمى بـ (آخذات الراديو) والتي القاها في قاعة المدرسة الثانوية المركزية. كانت تلك الإذاعات السلكية المحلية الخاصة تعمل بحرية، نظراً لعدم وجود قانون يمنع أو يحدد البرنامج الإذاعي الذي يبث-آنذاك-, ولما كانت الإذاعة من أهم وسائط الاتصال الضرورية التي تؤدي خدمات كبيرة للدول في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لذلك فكرت حكومات العهد الملكي بإنشائها في بداية الثلاثينيات.
تعود فكرة إنشاء أول إذاعة في بغداد إلى يوم الثاني والعشرين آذار 1932 وذلك حينما قامت دائرة البريد والبرق العراقية مابين(الساعة 8,30 إلى الساعة10,30) مساءاً بإجراء أول تجربة للبث الإذاعي على مرسلتي البث اللاسلكي الموجدتين لديها واللتين كانت تستعملهما لبث البرقيات التجارية، لاستعمالها في بث حفل افتتاح المعرض الزراعي- الصناعي العراقي، على حدائق باب المعظم، وأعلنت ذلك في الصحف وأشارت مديرية البريد والبرق العامة في بيان لها((إن الغاية من البث هو معرفة مايجب عمله من تغيرات في آلات البث. وستقوم بالأخذ بالملاحظات التي ترد إليها عن نوع البث وقوته)).
أثارت تلك التجربة اهتمام الناس واستمعوا إلى الكلمة التي ألقاها مدير شؤون النفط ثابت عبد النور يوم الثلاثين من آذار 1932 إثناء البث التجريبي، لتلك المرسلتين كما استمعوا إلى كلمة مدير البريد والبرق العام فائق شاكر الذي دعا فيها أصحاب رؤوس الأموال العراقية إلى تأسيس إذاعة عراقية للبث اللاسلكي. وقد استغرق ذلك البث التجريبي، والذي سبق الافتتاح الرسمي للمعرض(9) أيام.
في الساعة التاسعة من صباح اليوم الأول من نيسان1932 قام الملك فيصل الأول بإفتتاح المعرض الزراعي- الصناعي، وقد حضر الافتتاح عدد كبير من الشخصيات العراقية والأجنبية. ونقلت كلمة الملك التي القاها في تلك المناسبة وتجواله في المعرض ثم جرى نقل العرض التفصيلي لحفل افتتاح المعرض.على الهواء بواسطة الميكروفون.
إما المحطة فقد نصبت بالقرب من مدرسة الصناعة القريبة من المعرض نفسه , كما تم نقل الكلمات والقصائد التي القاها عدد من الشخصيات منهم أمين الريحاني الذي ألقى كلمة في تلك المناسبة جاء فيها: ((... إن استعمال الراديو للمرة الأولى في أقدم بلدان العالم في أرض الرافدين، لجدير بالذكر والاعتبار وقد نصبت الآلة، إذن الإذاعة ولسانها للمرة الأولى ببغداد، لسبع خلون من شهر نيسان من السنة الثانية والثلاثين وتسع مائة وألف، وكانت الأسلاك ممتدة من الجهاز إلى مكبرات موزعة في أرض المعرض، فخطب الخطيب في جمع أمامه, وجموع في جواره لا ترى وهناك وراء الأفاق في قواعد ألوية العراق وفي ما دون العراق غرباً وشمالاً وشرقاً في سوريا، وفلسطين، ومصر، وفي أنقرة، وطهران، سمع الخطيب الواقف على المنبر في بغداد)).
وألقى الشاعر جميل صدقي الزهاوي، قصيدة بمناسبة حلول فصل الربيع, اخترنا منها هذا المقطع:
إني حمدت من الدستور طلعتـــه
ومن شبيبته شرخا وغيدانا
وقـد أومل إن تشتد ايكته
وأن تمد إلى الإطراف أغصانا
وأن تطوف على الأغصان طائرة
بلابل تملأ الأسماع ألحانا
يسود تالله إن ترى عيني بدلا
من البلابل في البستان غربانا
عن رسالة (توجهات الاذاعة العراقية الوطنية)
المدى/سندس حسين علي
757 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع