عناية جابر
لو أتيح لأي منا أن يمسك بمفاصل السلطة في بلاده فماذا يفعل؟ لو قيل لك هذا الصباح إمسك بمفاتيح القرار في وطنك وجرّب ان تأتي بحلول لما تظنه المشكلة. تصرف على أساس أن الوطن وطنك. والبلاد بلادك والمستقبل بيدك. فمن أين تبدأ ؟ وهل تظن أنك ستنجح في مهمتك الجديدة ؟
لا ينتبه الناس غالباً إلى هذه البديهيات فيبدأون من بعدها. يستسهل الناس المطالبة بكل شيء وبالنقد وبالانتقاد لكل ما لا يعجبهم. وهذا طبعا حقهم المطلق. لكن التبرم من الوضع السيىء لا يقدم ولا يؤخر إذا لم يقترن بعمل منظم وواسع مع مجموعات كاملة من شرائح الناس التي تعد تشخيصا للحالة تصنع رؤية مستقبلية على أساسه. المجتمعات كأي كائن حي بحاجة الى تحليل الحالة والإمكانات والطاقات والعلل في مرحلة أولى لكي تنتقل فيما بعد إلى بلورة تصوّر للنهوض والعمل والتحقيق. البقاء في مرحلة الاختيارات النظرية العامة لم يعد يكفي للشروع ببناء الدولة. والكلام الفلسفي الجميل عن الحرية والكرامة والعدالة لم يعد يسمن من جوع.
صار لا بد من تحديد شكلها لهذه الحرية. صار من الضروري إعطاء هوية للكرامة. وصار أكثر من ملحّ تعريف العدالة بدقة لكي نطلع من كلام الإنشاء العام. فالمجتمعات تعيش على البرامج الملموسة والأهداف الممكنة التي تترجم النظريات على نحو عملي وتنفيذي. من هنا بدأت بطرح السؤال الذي طرحته في بداية المقالة اليوم. ولا أخفيكم بأنني قد طرحته اولا على نفسي مطالبة بالجواب.
مناسبة السؤال هي الخلاصة التي طلع بها العرب بعد ثلاث سنوات من الانتفاضات التي أعادتنا، لا نريد ان نقول إلى الوراء، إنما على الأقل إلى ما كنا عليه من قبلُ. هل طرحت الشعوب على نفسها مهمات أعلى من إمكانياتها وقدراتها ففشلت ؟ أم انها طرحت أهدافاً غير مدروسة كفاية ؟ أو لعلّها قامت بثورة قبل أن تحدد مشكلتها الملموسة فبقيت في إطار العموميات الإنشائية عن الثورات فتاهت. وهل مطلوب من الشعوب ان تبلور اهدافاَ ثورية مسبقاً وقبل القيام بالثورة؟
يقول البعض ان التحضير غير ضروري. وذهب البعض الآخر إلى حدّ الدفاع عن نظرية الثورة العفوية باعتبارها خصوصية ثوراتنا وتميّزها التاريخي. نقاء الثورة بعفويتها كما قيل. وأسهب منظرون في تقديم امثلة تاريخية تؤكد ان الناس حين تثور لا تعرف ما تريد بالضبط. لكنها تكتفي بإسقاط ما هو موجود لأنه صار معيقا لتقدمها واستمرار حياتها، ولكي يدخلوا في سيرورة ثورية تقود على مراحل إلى التوصل لوعي برنامج ثوري يلبي طموحات البشر بمستقبل أفضل.
حسب هذه النظرية فنحن لسنا اليوم إلا بالمرحلة الأولى من هذه السيرورة. ولا يزال أمامنا الكثير الكثير من النضال والتضحيات لكي تتم الثورة. كيف عرف هذا الفكر بأننا بسيرورة ؟ وكيف تأكد بأننا ما نزال بأولها ؟ من المؤكد أن اصحاب هذه النظرية قد بنوا تحليلهم على فرضيات تقوم على أن الناس لا تنتفض إلا لأسباب كبرى. وطالما ان الناس لم تتوصل إلى إيجاد حلول لهذه المشاكل الكبرى فإنهم سوف يستمرون بالإنتفاض حتى يتمكنوا من الوقوع على الحل. الشعوب تتعلم من أخطائها، حتماً، لكن يخشى أن تصل متأخرة من بعد أن تتعلم.
الثقافة المسيطرة في بلادنا تسوّق لمثل هذه النظريات مستندة إلى أمثلة تاريخية أحيانا صحيحة وغالباً مبالغ فيها. غير أن المشكلة الأساس، ألا وهي وجود بلادنا بحالة تبعية وتخلف كبيرين إزاء قوى استعمارية كبرى، لا تدخل في الحساب، باعتبار أن إدخال عامل الهيمنة الخارجية إلى المعادلة سوف يضطرهم إلى قبول طروحات السابقين حول أولوية التحرر على التغيير. أيا كان الجواب على هذه المسألة فإن اعتبار الثورة وكأنها تجري في جزيرة معزولة عن العالم أو في حالة من التجريب المختبري حيث يجري «عزل» المتغيرات والعوامل بناء على فرضية البحث والباحث هو اعتبار غير واقعي، إذا احسنا النوايا.
ربما كان استبعاد العامل الخارجي، اليوم، ضرباً من ضروب التجريب والهواية في الباب الثوري. لكن حتماً إذا أضفنا إليه غياب الرؤى وعدم ترجمة الأهداف وصرفها في سوق السياسة العملانية، فإن خطر الإنزلاق إلى نوع من السذاجة لا يمكن ضمانه ولا تفاديه. وإذا أضفنا، إلى الخارج وغياب خارطة طريق، نسيج المجتمع الممزق الذي قاد إلى نوع من الاستعصاء التغييري، بسبب انقسام المجتمع عامودياً بين الجماعات ذاتها، فإن الاستئناس لنظرية الثورات العفوية قد تحول إلى تسليم بالفكر الغيبي وإمكاناته وحده، عبر العجائب، بالوصول إلى حالة أرقى.
على أن البقاء في عالم السياسة الواقعية، وعالم البشر وصراعاتها، يفترض الانطلاق من فرضيات ثانية تأخذ الحقائق والمعطيات، محلية واجتماعية وخارجية، بعين الاعتبار. فلا يمكن العبور إلى أي تغيير بدون تشخيص حقيقي وملموس للظروف المحيطة، وبدون تعيين العلل وعوامل التخلف والانسداد. كما لا يمكن الشروع بعمليات تغييرية في مجتمع بدون تحديد القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة بها. كما القوى الإجتماعية صاحبة المصلحة في مقاومة اي تغيير. وإجراء الميزان بينها بالتالي. فمن العبث الخوض بمعركة، موازين القوى فيها ليست لمصلحة قوى التغيير مثلاً. ومن العبث الخوض بمعركة سياسية غير معروفة القوى الاجتماعية لا من حيث الهوية ولا من حيث الحجم.
من يحدّد حدود الحلم الثوري ليس نظريات المنظّرين ولا النهل من تجارب الآخرين، بل دراسة مصلحة القوى الإجتماعية التغييرية الملموسة. فمشاكلها وتناقضاتها هي التي تقول الأهداف، وإلا لأصبحت الثورات مثل شراء السلع يمكن الانتقاء على كاتالوغ البائع ما يناسب أذواقنا وطبائعنا. حدود الحلم الثوري محكومة بالتحديات الملموسة وبمن هو مستعد فعلا للتصدي لها.
721 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع