زينب حفني
يُقال إن المؤسسة التعليميّة هي القشة التي تقصف ظهر أي مجتمع. إن وضعها المسؤولون نصب أعينهم وقدموا لها الغالي والنفيس، نهضت مجتمعاتهم وجلست في صدارة الأمم. وإنْ أهملوها وأعطوها ظهورهم تراجعت مجتمعاتهم وقبعت في مؤخرة الصفوف. نعم منظومة التعليم هي المحرّك الأساسي الذي يقود الأوطان إلى الأمام أو يدفعها للخلف.
في تحقيق مصوّر عن فنلندا، هذا البلد الأوروبي الصغير الذي لا يتجاوز عدد سكّانه خمسة ملايين، يُبيّن كيف نجح خلال أربعين سنة في أن يقفز باقتصاده عالياً، ويُصبح بلداً غنيّاً بعد أن كان فقيراً يعتمد في موارده الأساسيّة على الزراعة فقط. ويقول التقرير، إن خبراءه اجتمعوا في الماضي لمناقشة كيفيّة التخلّص من رقعة الفقر، فأدركوا أن طريق الخلاص يبدأ بإمساك طرف الخيط، بالتركيز على التقنية، وتطوير النظام التعليمي، ورفع مستوى المدرسين، وأن ذلك سيستلزم عقداً كاملاً من المثابرة والإصرار والتحدي.
شمّر المختصون عن سواعدهم، ووضعوا مناهج تعليميّة متطورة، وخصصوا لكل فصل دراسي ثلاثة مدرسين ممن يحملون درجة الماجستير، اثنان منهم لشرح الدروس، والثالث لمساعدة التلاميذ الذين يُواجهون صعوبة في الدراسة. أخذوا على عاتقهم مصلحة الطالب أولاً لرفع تحصيله الدراسي. إضافة إلى فتح قنوات تواصل بين الآباء وإدارة المدرسة؛ لتذليل الصعوبات التي قد يُعانيها بعض التلاميذ. ونتيجة لهذا المناخ التعليمي متكامل الزوايا الذي يتشارك فيه الأطراف كافة، لم يُسجّل اسم واحد لطالب ترك الدراسة في فنلندا.
التلميذ العادي في فنلندا يتحدّث أربع لغات، ويُعتبر ترتيبه الأول عالميّاً في العلوم والرياضيات مقارنة بالولايات المتحدة الأميركيّة التي يأتي ترتيبها السابع عشر. وتكاليف دراسة الطالب الواحد أقل من أميركا الشماليّة بثلاثة آلاف دولار! وهذا يؤكد أن تخصيص ميزانيات عالية للتعليم ليست الضمان الوحيد لإخراج أجيال متفوقة علميّاً، كما يعتقد أغلب الناس!
تحسرتُ وأنا أتابع ما تقوم به البلدان المتقدمة لنهضة مجتمعاتها، وتمنيتُ لو استطعنا أن نتكاتف لمواجهة مشاكلنا ببسالة بدلاً من لي عنق الحقائق! هناك عوامل أساسيّة مهمة يجب علينا التعامل معها بحكمة إذا أردنا تصحيح مسار التعليم ببلداننا العربية. فعلى سبيل المثال، في السعودية بالرغم من الميزانية الضخمة، التي وضعتها الدولة بالآونة الأخيرة لرفع مستوى التعليم، إلا أنني أرى أن الخلاص من التعليم التقليدي والقضاء على التحصيل العلمي المتدني للطالب، يستلزم القيام بثورة تعليميّة شاملة تقوم على وضع مناهج متطورة، إلى جانب إقامة همزة وصل بين الآباء والمدرسين، التي للأسف شبه معدومة، لمعالجة الثغرات التي يتعرّض لها الطالب بفترة دراسته. إضافة إلى اختيار مدرسين على درجة عالية من الكفاءة لإخراج أجيال قادرة على قيادة المستقبل.
الأهم من كل هذا وذاك، وجوب تقييد «الهيئة» الدينيّة التي تصرُّ على دسُّ أنفها في كل صغيرة وكبيرة بالمؤسسة التعليميّة! ولا يخفى على أحد ما يقوم به مشايخ الدين المتعصبين الذين يُعارضون صنوف العلم كافة، ويقفون موقفاً عدائيّاً من الأبحاث العلمية بحجة أنها تتنافى مع مضامين الشريعة. حتّى فكرة تعلّم اللغات الأخرى حاربوها هي الأخرى؛ لأنها من وجهة نظرهم ستؤدي إلى تغريب مجتمعاتنا! هذه المواقف الرجعيّة ساهمت في انغلاق عقول الأجيال الصاعدة وإلى انخفاض مستوى التعليم وإلى تخريج أجيال أميّة تجهل كيفيّة التعامل مع المستجدات الحديثة التي تصلنا بسرعة البرق!
التقليد الأعمى مرفوض، كما أن الأخذ بالقشور دون التدقيق في المضمون سيجعلنا مكانك سر. المجتمعات المتحضرة تحررت من الجهل بعقول علمائها، الذين رسموا لها خريطة المستقبل، ولم تنقاد وراء «شلة» من الدراويش يُريدون إهالة التراب على كل شق نور!
521 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع