د. منار الشوربجي
أعتبر نفسي من أولئك الذين يطلقون عليهم «الدقة القديمة»، الذين يعشقون الكتب الورقية، وأقضي أوقاتا طويلة في المكتبات.
أحب رائحة الكتب، ولا ألجأ للكتب الإلكترونية إلا مضطرة. أستخدم تكنولوجيا المعلومات في أبحاثي، وتكنولوجيا الاتصالات عموما في عملي وأوظفها في مهام كثيرة، ولكنني لست من مدمني تلك التكنولوجيا كلها.
فبإمكاني ببساطة إغلاقها جميعا، لأنجز عملاً أو لأستمتع بوقت أسري. وقد اخترت منذ زمن ألا أرسل بريدا إلكترونيا لأصدقائي الذين بإمكاني مهاتفتهم، ولا أهاتف من أستطيع أن أراهم. فقد أدركت مبكرا أنه ليس بمقدوري كإنسانة أن أتحدث للشاشات طوال الوقت، فالتواصل الإنساني المباشر مهم للغاية بالنسبة لي.
تلك قدراتي الشخصية، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه. قد يكون هناك آخرون أكثر قدرة من شخصي المتواضع، بإمكانهم الاتصال المستمر عبر الشاشات والأجهزة دون تفاعل شخصي مع بني البشر، ومع ذلك يحتفظون بعقولهم وإنسانيتهم.
ونمط حياتي يثير الكثيرين حولي، فهم يتهمونني بالتقليدية ويعتبرون ما أفعله سلوكا غير عصري، خصوصا لأستاذة جامعية تدرّس تحديدا في الجامعة الأميركية! إلا أن طبيعة عملي في الجامعة الأميركية تحديدا، ربما كانت من أهم أسباب اختياري المبكر لذلك التعامل مع تكنولوجيا الاتصالات عموما.
والحقيقة أنني ما كنت سأزعجك، عزيزي القارئ، بكيفية تعاملي الشخصي مع التكنولوجيا، لولا أنه مرتبط بقضية عامة تمس شبابنا في العالم العربي. فالقصة باختصار هي أن وقع العمل في الجامعات الأميركية، كما هو معروف، سريع للغاية.
وهو اعتمد كليا، وقبل جامعاتنا الوطنية بسنوات، على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهو ما كثف تجربتي في مرحلة مبكرة.
أتذكر أنني في أوائل الألفية الثانية، كنت أفاجأ بتلقي بريد إلكتروني من زميل يبعد مكتبه عن مكتبي أقل من عشر خطوات، بدلاً من الحوار وجهاً لوجه! وكان متاحاً أن أتحاور مع طلابي عبر الشاشات لفترات أطول من تلك التي أراهم فيها.
وقتها أدركت أن استخدام التكنولوجيا اختيار، فبإمكانك أن توظفها، وبإمكانك الانسحاق الكامل في عالمها. لكن الأخطر من ذلك، أنني لاحظت مع نهاية كل فصل دراسي، انحسارا في مستوى كل فرقة دراسية عن التي سبقتها.
ففي الامتحانات أجد اهتماما بالتفاصيل سهلة الحفظ، وتجاهلاً لجوهر الموضوع. وفي الأبحاث العلمية، أجد سطحية في التحليل، ولغة مفككة تشعر وكأن صاحبها كتب أولها في وقت وآخرها في وقت آخر.
كانت الملاحظة محيرة، لأن اقترابي من الطلاب طوال الفصل الدراسي، كان يجعلني أعرف تماما أن بإمكانهم تقديم ما هو أفضل من ذلك. لكنني مع الوقت والخبرة، انتبهت لدور وسائل الاتصال الرقمية، وصعوبة إقلاع الطلاب عنها لدقائق معدودة، وتأثير كل ذلك على أداء الطلاب الدراسي متى كانوا خارج المحاضرة.
ولعلك عزيزي القارئ شاهدت أحد أبنائك وهو يكتب بحثا أو حتى وهو يذاكر، فهو يكتب بضع كلمات ثم تأتيه رسالة على المحمول فيكتب رداً، ثم يكمل السطر في بحثه، ثم يتلقى بريدا إلكترونيا فيكتب رداً من كلمتين ثم يعود لكتابة بحثه، فإذا به يفاجأ بمن ألقى عبارة على تويتر استفزته، فيضطر للرد فورا قبل أن يعود لبحثه... وهكذا. فكيف بالله عليك يمكن، في مثل تلك الحالة الذهنية، أن يقدم الطالب تحليلاً نقدياً، أو أي تحليل على الإطلاق؟
بعض أنصار التكنولوجيا يقولون إن هذه الحالة الذهنية تؤدي لاعتياد العقل البشري على «تعدد المهام»، والحقيقة أن فكرة تعدد المهام تلك تصلح لمهام يدوية. ففي تقديري، يحتاج العقل البشري لبعض الوقت للانتقال من مهمة لأخرى، إذا كانت المهمة فكرية. تصور مثلاً أنك تقرأ كتابا ثم دخلت أختك الغرفة لتسألك عن شيء، فتجيبها ثم تعود لكتابك.
ألا تحتاج عندئذ لبعض الثواني أو ربما دقيقة، للعودة للفكرة التي كنت تقرأها؟ فما بالك لو كنت أنت الذي تكتب الفكرة أو تقدم تحليلاً! مساكين إذن أبناؤنا فهم ضحايا، ولكنهم ليسوا ضحايا لتكنولوجيا الاتصالات.
فالمشكلة ليست في التكنولوجيا ذاتها، وإنما في طريقة التعامل معها.
وفي تقديري أننا في حاجة إلى أن نتعلم كيف نتحرر من عبودية التكنولوجيا، فليس المطلوب على الإطلاق أن ننعزل عنها، وإنما أن نعرف كيف نستعملها ولا ننساق وراء النموذج الغربي في إدمانها.
فالغرب الآن يبحث عن وسائل لعلاج ذلك الإدمان، والأولى بنا أن نعلم شبابنا كيف يظلوا أصحاء. فمن المهم أن نتعلم في العالم العربي متى نستعملها ومتى نتحرر منها، متى نستمتع بما تتيحه من فضاء واسع ومتى نستمتع بخصوصيتنا.
وليس صحيحا بالمناسبة أن التكنولوجيا تربطك بالعالم على الدوام، إذ بإمكانها أن تعزلك عنه أيضا. فكل وسائل التكنولوجيا الرقمية الجديدة، من الهاتف للشبكات الاجتماعية، باتت مصممة على نحو يسمح لك بشخصنتها. فهي تمكنك من تصميم برنامجك الشخصي عليها، على نحو يجعلك لا تحصل من خلاله إلا على ما تريده فقط، فتصبح كل المعلومات التي تأتيك هي تلك التي تتفق فقط مع آرائك أو تناسب ذوقك، فتعيش في كوكبك الخاص وفي عزلة تامة عن أفكار الآخرين والمعلومات التي يتداولونها.
ومرة أخرى، المشكلة ليست في التكنولوجيا وإنما في التعامل معها. القضية إذن، أكبر من التعامل مع تكنولوجيا المعلومات، وهذا ما ينبغي أن يدركه الشباب.
القضية تتلخص في سؤال يتعلق بالاختيار الرئيسي لكل منا وهو: ما نوع الحياة التي تريد أن تحياها؟
500 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع