عناية جابر*
ثمة أحداث تحمل غصباً عنها شحنة تاريخية كبرى أكبر منها بكثير. وهي تعكس، احياناً، مأزق السياسة والاجتماع والثقافة المسيطرة لدى شعب من الشعوب.
ثمة أحداث بسيطة بمظهرها، متشابهة مع ظواهر أخرى حدثت في الأمكنة ذاتها أو في أمكنة أو أزمنة أخرى، لكنها في لحظة معينة تكشف عن فوضى عارمة في الثقافة والتحليل والإحاطة فتطيح بمجموعة المسلّمات التي كان الفكر قد بنى رؤاه بناء عليها. ثمة أحداث بسيطة تجعل الخلاف في الرأي، وأكثر، ممكناً بين شقيقين فكريين أو غير فكريين. ثمة احداث بسيطة، تحصل في لحظة معينة، تجبر المحلل السياسي أن يصير شاعراً بالقوة، أو ناقداً مسرحياً أو صامتاً، أو تجعله يعبئ الفراغ بالكلمات غير المناسبة.
هل ما يجري في غزّة اليوم هو من هذا النوع من الأحداث «البسيطة» في تاريخ أمة؟ على الرغم من أن ما يجري ليس ـ كما يمكن القول- أكثر من مجرد حرب اسرائيلية جديدة على غزّة. ما الجديد في الأمر؟ لماذا يشعر الجميع بأنه هو المستهدف من وراء غزّة؟ ليست هي المرة الأولى التي يتعرض فيها العرب في أقطارهم المتعددة لحرب اسرائيلية. وليست هي المرة الأولى التي يتعرض العرب فيها لاعتداء غاشم. وهي حتماً لن تكون آخر حرب في تاريخهم ولا في تاريخ غزّة للأسف. لكن هذه الحرب ليس انها أخرست الأقلام بل عقدتها. الأغلبية تتهرب من توصيفها. الحلفاء القدامى يتظاهرون بالدعم لكن من طرف اللسان. المعادون القدامى، الحلفاء الجدد، لا يجدون غير التظاهر بالدعم، لكن من طرف آخر للّسان. والأغلبية مشدوهة صامتة منتظرة.
الغموض سيّد الموقف. المواقف القديمة الراسخة تزعزعت لدى الجميع بدون استثناء. العلامات والروائز الفكرية التي استعملها الفكر السياسي في السابق لكي يستند إليها ذابت وامّحت، ولم تعد تعين على الوصول إلى مكان آمن. أما من يتجرأ فتراه يغوص بدون ان يدري في عدد من الفرضيات التي أقل ما يمكن ان يقال فيها انها فرضيات المخيال الشعبي بكل ما يمتلئ به هذا المخيال من أوهام جماعية تاريخية غير واقعية. ذلك أن الكلام عن غزّة اليوم ينطق على قاعدة العلامات القديمة التي محتها التحوّلات.
فلا جبهة الممانعة تصدعت ولا جبهة الاعتدال بيّنت عن اعتدال يعتد به. ولا اسرائيل بقيت كما كانت ولا الأمريكي عاد ما كانه في سابق العصر والأزمان. لا الحليف بقي الحليف ولا الخصم.
من المؤكد أن النزاع العربي – الاسرائيلي تغيّر طابعه. فمن صراع رئيسي في العقل العربي تحوّل إلى صراع من الصراعات التي تعتمل المنطقة وشعوبها. ومن عدو أساسي تحول الكيان الصهيوني إلى مجرد عدوٍ من الأعداء إذا لم يكن صديقاً من الأصدقاء لدى البعض. ومن قوة رادعة تخيف العرب تحوّل هذا العدو، وبعد سلسلة من الهزائم التي طالته، شئنا أم أبينا، إلى مجرد قوة من القوى في المنطقة التي تحتاج هي أيضا إلى حماية.
صار هذا الرادع أعجز من أن يردع قطاعاً فلسطينياً صغيراً محاصراّ من جميع الجهات. والأغرب أن هذا الكيان، الذي طالما تغنى بالعقلانية الغربية بوجه الشعوب «العاطفية»، تحوّل مع انتفاء دوره الوظيفي الردعي إلى دولة عادية، عاطفية هي أيضاً. وإلا فكيف سنفسّر أن تقوم دولة، مثل دولته، بإعلان حرب على جماعة؟ والأنكى أن تعلن الحرب من دون تحديد أهداف سياسية محددة لها، صارت الحرب كأنها هواية.
على أن تعقد الأوضاع لم ينحصر في دائرة الدول العربية بل تعداها إلى الإقليم الذي شهد هو الآخر في العقود الأخيرة عدداً من التحوّلات الكبيرة تركت أبلغ الأثر على نوع الصراعات التي تخترق المنطقة. الصعود الإيراني والتركي ليس أقلها. وهما دولتان امبراطوريتان تشتركان تاريخياً في تشابك تاريخهما بالتاريخ العربي بأكثر من صلة تبدأ بالإسلام ولا تنتهي بالجغرافيا والمصالح والقوة والنفوذ. اللوحة صارت ألوانها كثيرة والتمييز بينها يحتاج ليس فقط إلى عالم بالألوان، بل إلى معلومات دقيقة وهو امر ليس بمتناول المحلل البسيط.
كل ذلك وسط تحولات تاريخية كبرى حدثت على الصعيد العالمي أيضاً، ما جعل القوة الأمريكية العظمى قوة عظمى وحسب. لم تعد القوة. لم يعد هناك في عالم اليوم من يستطيع ان يفرض وجهة نظره على الآخرين. لم يعد يستطيع الأمريكي وحده مثلا أن يحدد وجهة او نتيجة معركة تفتح في هذه البقعة من العالم او تلك. وخصوصاً في منطقتنا المعقدة جداً. لم يستطع العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ثم بعد نصف الانهيار الأمريكي أن يستوي على ميزان مستقر للقوى. لا نزال في منطقة وسطى من الفوضى التي تتلاعب بكافة القوى الدولية بدون استثناء. إنها المرحلة الانتقالية.
مرحلة انتقالية في غزّة، وسط لوحة انتقالية في المحيط العربي، وسط حقبة انتقالية بالإقليم، في خضم تحوّل انتقالي في مركز العالم الرأسمالي، هل هكذا يمكن وصف عالم اليوم؟ لوحة، بمثل هذا التعقيد وهذا الكم من القوى المتصارعة المتحوّلة في الوقت ذاته، كافية ربما لكي تبلبل المعطيات فما بالك بالتحليل؟
صحيح أن المجال هنا ليس المجال المثالي لمعالجة أسباب هذه البلبلة التي أصابت الثقافة العربية وجعلتها متفاجئة ومسبوقة بكل الأحداث التي حصلت وتحصل في بلادنا. لكن الصحيح ايضاً أن العجز عن قراءة لوحة التحوّلات قد يكون مفتاحه في حصر الثقافة سؤالها في المستوى السياسي دون غيره. أو في أحسن الحالات حصره في الإيديولوجيات وأنماط الفكر التي تردنا معلّبة من الخارج. مقاومة غزّة للحرب الصهيونية ليست جديدة ولا مفاجئة، لكن الفوضى السياسية والثقافية التي ترافقها هي الجديدة وهي التي تبحث عن جواب.
٭ كاتبة لبنانية
622 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع