د.امال قرامى*
كلّما جدّ حادث إرهابيّ تداول الفايسبوكيون مقاطع الفيديو، وأشهرها فيديو «الغنوشى» «الجيش غير مضمون»، وخطبة نور الدين الخادمى الداعمة للجهاد فى سوريا بالإضافة إلى صور تظهر فيها شخصيات حكومية «ملتحمة» بدعاة وشيوخ «السلفية» ويتزامن هذا الفعل الاسترجاعى الذى يهدف إلى تنشيط الذاكرة، مع نشر صور شهداء الوطن.
ولكن ما الذى يجعل أصابع الاتّهام توجّه فى كلّ مرّة، نحو قيادات النهضة؟ لم يقترن الإرهاب فى نظر شريحة من السياسيين وغيرهم من التونسيين، بفترة حكم الترويكا عموما، وحزب النهضة على وجه الخصوص؟ وما الذى يجعل «دفاع» المتدخّلين من قيادات حزب النهضة كسمير ديلو وزياد العذارى فى البرامج التلفزية غير مقنع؟ وما الذى يحوّل خروج قيادات النهضة فى مسيرة احتجاجية ضدّ الإرهاب إلى «مسرحية هزيلة الإخراج» لا تقنع إلاّ السذج من الناس؟
ما كذب الغنوشى حين صرّح أنّ السلفية «يبشّرون بثقافة جديدة». فها نحن نكتشف ملامح هذه الثقافة الفرعيّة التى تروم زحزحة الثقافة السائدة، وقد نجحت إلى حدّ. فالتونسيون ألفوا شيئا فشيئا القمصان، والعمائم، واللحى، والرايات السود، وتعوّدوا سماع التكبير، وصاروا يردّدون مفردات جديدة: الطاغوت، وجهاد الكفار... إنّنا بالفعل إزاء ثقافة جديدة تستبيح القتل فى الأشهر الحرم، يستحلّ أصحابها الذبح من الوريد إلى الوريد والتمثيل بالجثث بل أكثر من ذلك إنّنا إزاء إطلاق الزغاريد والاحتفال الجماعيّ بسقوط الضحايا من أبناء الوطن.
عبثا يحاول البعض إيهامنا بأنّ الرأس المدبّر جزائرى، وأنّ العتاد ليبيّ. الإرهابيون لم يأتوا من المريخ، بالفعل هم أبناؤنا، والإرهاب يا سادة ليس صناعة أجنبية، وإن موّلته دول متعدّدة. إنّه صناعة محليّة تعود جذورها إلى الثمانينات، والقيادات السلفيّة لها دربة على الكرّ والفرّ إذ أنّ بعضها خاض معارك فى باكستان وأفغانستان وبوسنيا والشيشان والعراق والبعض الآخر جمعته «عشرة» بعدد من النهضاويين. فكانوا من الزمرة التى عاشت تجربة السجن وتحمّلت قمع النظام.
ومنذ سنة 2000 أفاد الشباب السلفى من عولمة الفكر الجهادى فنمّوا قدراتهم، وتعلّموا استراتيجيات فظهرت قيادات تنتدب فى المساجد فى كلّ من سوسة وتونس وسيدى بوزيد... وأطلت الرؤوس المدبّرة ك»أبو عياض» وطارق المعروفى والأسعد ساسى... (2006) وتكوّنت الخليّات كجند أسد بن الفرات وغيرها، ومعنى هذا أنّ سياق ما بعد الثورة لم يخلق الظاهرة السلفية وإنّما سمح لهذه الجماعات بأن تخرج من السريّة إلى العلن، وأن تتنظم كـ«أنصار الشريعة» التى تأسّست (2011). وهكذا باتت هذه الجماعات تحلم بمغادرة الهامش لتحتلّ المركز فى أسرع وقت ممكن لاسيما وأنّها تفضّل الفعل، وتؤمن بتطبيق سياسة الشوارع لا سياسة الحوار فى الأماكن المغلقة.
•••
ما كان ينتظره التونسيون من القيادات التى تحمّلت مسؤولية أن يعلن هؤلاء فى لحظة مكاشفة سوء تقديرهم للحسابات. فعندما تعاطف هؤلاء مع السلفيين إنّما كان ذلك لوجود تيار داخل حزب النهضة يؤمن بنفس الأفكار التى يحملها هؤلاء، وعندما تراخت حكومتى الجبالى العريض فى تطبيق القانون ضد التيار المتشدّد مكرّسين الإفلات من العقاب إنّما كانت تستفيد من العنف الممارس ضدّ «العلمانيين».
ثمّ إنّ قيادى النهضة عندما راهنوا على إمكانية أن «يلين» التيّار الجهادى، ويعدّل أفكاره وفق مناخ الحريات إنّما قاموا بعملية قياس على أساس ما وقع داخل حركة النهضة، مقدّرين أنّ هذه الفئات قد تعزّز حظّ حزب النهضة فى الانتخابات القادمة، وفاتهم أنّ فشلهم فى إدارة الملف الاقتصادى، واتّساع رقعة التهميش الاجتماعى قد جعل عددا أكبر من الشباب ينضمّ إلى الجماعات الجهادية التى وفّرت لهم المال والعزوة. يضاف إلى كلّ هذه التقديرات أنّ حزب النهضة كان يتوقّع أنّه، بتمكين التيارات السلفية من هامش كبير من حريّة الحركة (دخول التمويلات، والسلاح، وتأسيس الجمعيات، واستضافة الدعاة...) سيظهر فى لبوس «الحزب الإسلامى المعتدل» من جهة، وسيخفّف من أعباء الحكومة فى المجال الاجتماعى، من جهة أخرى.
كلّ هذه القيادات التى تنتمى إلى جيل، وعاشت تجارب مختلفة كانت تخمّن وتفكّر وتقدّر وفق آليات فهم مهترئة. فالشباب الجهادى الذى يقاتل «الطاغوت» فى الجبال، وينوى الزحف نحو المدن ليقتل المدنيين، هو جيل بن عليّ بعصاباته وأساليب اشتغال المافيا (المخدرات، الأسلحة) تفكيره مختلف، ومرجعياته متعدّدة وهجينة. إنّه مع كلّ طعنة ...يفضح عيوب جيل معطوب، ويشير إلى فشل الحكومات المتعاقبة. فأنّى لمن لم يفكّك أسس هذه الثقافة الجديدة أن يصوغ السياسات لمواجهة الإرهاب؟
*آمال قرامي أستاذة في جامعة منّوبة – تونس. حازت على دكتوراه الدولة بأطروحة عن الدراسات الجندرية عنوانها: "ظاهرة الاختلاف في الحضارة العربية الإسلامية: الأسباب والدلالات" تونس، 2004.
وتدرّس د. قرامي قضايا التصنيف الاجتماعي/الجندر، تاريخ النساء، والإسلاميات وقد أسهمت في العديد من الندوات وجلسات النقاش في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا والبلدان العربية.
والدكتوة قرامي محرّرة في مواقع الإنترنت ومسؤولة عن برنامج ترجمة الأعمال الفكرية والحضارية في المركز الوطني للترجمة - تونس؛ وتتمحور معظم كتاباتها حول الدراسات الجندرية والمسائل الإسلاميّة
688 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع