عناية جابر*
ذهبت بعد ظهر حار الى المعهد الموسيقي العالي (الكونسرفاتوار) قرب القصر الحكومي، في النزلة المشرفة على ما يسمونه عندنا الـ «داون تاون» او قلب البلد.
غالبا ما اتردد على المعهد، وانا احدى تلميذاته القديمات، بغرض سماع التلامذة الجدد، في تمارينهم على غناء الموشحات، نواة الغناء الشرقي، وتحديه الأبرز.
على الرغم من التكييف الذي يصيب قاعة الموسيقى، كما المعهد بأسره، فيضر بحال جسدي الحساس، الهواء البارد المصطنع، وينالني منه وجع الرأس الفوري، الى مهالك بدنية اخرى، سوى ان فكرتي التي حملتها الى استاذي (استاذ الغناء الشرقي والعزف على العود) تستأهل احتمال بعض وجع الرأس، خاصة وان احوالنا السياسية خارج المعهد، لا تكف تمدنا بوجع دائم، يهون معه اي وجع.
الحقيقة ان الفكرة ليست بنت لحظتها، فهي تسكنني منذ مدة، خصوصا عند سماعي نيل ارمسترونغ في احدى روائعه، حيث يحضر في ذهني فورا، صوت محمد عبد المطلب، كرديف لصوت ارمسترونغ، لمزاجه، وارتجالاته، وتفلته وحشرجات صوته.
سألت الاستاذ ان استعيد بصوتي احدى اغنيات محمد عبد المطلب، من دون التخت الشرقي المعتاد، ومصحوبا غنائي بآلة الساكسفون فحسب، مع مداعبات ظلية وخلفية لآلة التشيللو التي يسعها ضبط ايقاع الجمل. الزمني، موسيقيا ونصا. لم يستغرق الاستاذ زمنا لهضم الفكرة، هو العارف لمزايا صوت الساكسفون الاجش، القادر على الغناء وحده، كما واحسب حماس مسيو روفايل اذعانا رقيقا للهفتي الى هذه المحاولة، واستسلاما لعنادي، انا التي ان رغبت امرا أناله.
سألني ان ابدأ بدندنة خفيفة، لكن ولهي مع عازف الساكسفون لأغنية طلب : ما بيسألش عليّ ابدا، ولا بتشوفوا عيني ابدا، يا ما نديتو، واترجيتو، انه يرق شوية، ابدا، ما بيسألش بدا الارتياح على قسمات الاستاذ، وسألني اعادة الغناء بصوت اكثر قوة، صوتا داخليا ـ على ما قال ـ لكن اكثر قوة. غنيت بكل الشجن الذي يسكنني، لكن بنزق اكثر وقوة. ان شدو الساكسفون المرافق، الذي تتوارى من امامه كل الكلمات، هو شدو متعدد اللغات، يدوّي في القلب مباشرة، ويناسب طبيعة اغنيات محمد عبد المطلب، بينما بقي التشيللو يؤلف خلفية هذه الاغنية التي احبها جدا. لم نغير في اللحن، بل غذيناه بتخاريم جازية (من جاز) جعلت من الحزن الكامن في النص، ملكا متوجا وحده، ومنحته صيغة سامية، وقعتها بصوتي المتواضع، ومنحتها اعمق تأملاتي في غناء عبد المطلب. اعدنا المحاولة مع اغنية شفت حبيبي وفرحت معاه، كان وصل جميل، حلو يا محلاه . التوليفة ناجحة وشجية، وتألقت اكثر مع الناس المغرمين وساكن في حي السيدة، وحبيبي ساكن في الحسين، وعشان أنول كل الرضى، يوماتي اروحلو مرتين، من السيدة لسيدنا الحسين . ان صمتنا حيال الهراء الذي نسمعه الآن، صمتنا عن الجمال الذي يتوارى من امامنا في الفن وفي كل شيء، هو اشهار عداوتنا للحياة. الغناء من متع الحياة، اعني متعة تتجاوز تزجية الوقت، الى تذخيره العارم بسلطنة لا نظير لها. ان محاولات موتوري الغناء ـ مع بعض الاستثناءات ـ في ما يسمونه بالغناء الحديث، لالهائنا عن كنوزنا القديمة، هي محاولات جدية وغير اعتباطية، وتأخذ في حسبانها تصفية فكرتنا عن الجمال الحقيقي، حيث تبدأ بانتزاع ذاكرته من اذهاننا، واتلاف نبضه، والاصوات التي غنته غير اعتباطية، بل مدروسة جيدا، اذ تمنح الجمال اسما آخر عبر زعيقهم وتبتكر له ابطالا جددا، لكي يحل النسيان ونسقط في فخ القبح والتعود عليه. اتكون في هذه الكلمات مبالغة ناجمة عن كآبة شديدة نتيجة فقد اشياء جوهرية؟ كآبة اجل، لكن حقيقة، ذلك ان موت الجمال هو موت لغته، دفنها معه، والشروع بلغة جديدة غير مفهومة نفقد معها النطق، نفقده فعلا شيئا فشيئا. الكلمات الجيدة هي الجمال. الموسيقى الجيدة هي الجمال. لغتنا تنقص، وننتهي قريبا الى عبارة وحيدة واخيرة: كيف انتهى كل ذلك؟ غريب.
*كاتبة لبنانية
422 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع