سناء صليحة
للمرة الثالثة شاهدت فيلم «سحر ما فات في كنوز المرئيات» للمبدع الراحل مدكور ثابت الذي يوثق جانبا من تاريخ مصر عبر أشرطة سينمائية نادرة صورها الأخوان «لوميير» في بدايات ظهور الكاميرا السينمائية ولقطات بكاميرا المصري محمد افندي بيومي، وصولا للعقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
ورغم أنني أكاد احفظ عن ظهر قلب لقطات الفيلم إلا أن حالة الانبهار والاستمتاع التي عايشتها في العرض الأول لازمتني خلال المشاهدة الأخيرة وإن كانت مشوبة بحسرة.. فبتتابع صور الشريط السينمائي الذي يستعرض جانبا من شوارع القاهرة ووسائل النقل وصور العابرين بالطرقات، باغتتني حقيقة مروعة، ألا وهي أن الشق الأكبر من تاريخنا الاجتماعي لم يتم توثيقه حتي اللحظة!!
حياة كاملة توشك أن تندثر برحيل أجيال القرن العشرين فلا يبقي منها سوي شذرات في بعض الأعمال الأدبية، ونثار من نداءات الباعة الجائلين والعادات الاجتماعية والأزياء في أفلام الأبيض والأسود ومسامع من المسلسلات الإذاعية القديمة، وفي بعض مما يذكره من بقي علي قيد الحياة من أبناء القرن الماضي من حكايات الأجداد عما كان يدور وراء جدران بنايات قديمة لم يبق لها أثر إلا في ذاكرتهم، أو ما قد تستدعيه للذاكرة لافتات زرقاء قديمة في عطفة أو زقاق قاومت الزمن، فأطلت حروفها علي استحياء وكأنها تذُكرنا بحكايات أهل المحروسة!!.
«خرونفش..يلبغا ..قبة الهوا..أنجه هانم....» أسماء لم يعد لها مدلول لدي معظم أبناء القاهرة وربما لا يستطيع كثير منهم نطقها بطريقة سليمة.. ملاية لف وبرقع وعروسة ذهبية كانت عنوانا لدلال بنت البلد المصرية، وبيشة ألقتها جانبا يوم خرجت تهتف ضد المستعمر و..و.. صفحات في دفتر أحوال المحروسة تسجل التحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية علي مر العصور.والغريب أن الكثير من هذه الملامح الكاشفة لجوانب مهمة من حياة المصريين وطباعهم و تم رصدها في زمن بعيد يبدو أكبر وأكثر تفصيلا مما وصل إلينا أو وثقناه منها منذ بداية القرن العشرين!!
ففيما ننعي اليوم مزاحمة الأحياء للأموات «جبانات» القاهرة، يكشف أكثر من مرجع، منها المقريزي، أن الامتداد العمراني في المدن المصرية في القرن الخامس عشر الميلادي عكس امتزاجا وتداخلا بين مدينة الأحياء والجبانات وكأنه يبوح بسر محاولة المصري منذ عصر الفراعنة وحتي اللحظة رأب الصدع بين الموت والحياة وتحويل الموت لصور تشي باستمرارية الحياة ،الأمر الذي توثقه الصور الرمزية والفنون القولية التي تشبه الموت بالنوم أو الغياب ،وتسعي لتواصل الأحياء والموتي عبر الرؤي والأحلام وكل الطقوس التي تحيط بالموت ،ومجاورة الأحياء لمدن الأموات. ففي العصر القبطي كانت الجبانة في رحاب المقطم و في العصر الإسلامي تم بناؤها بموازاة مدينة الفسطاط.. وتشير المراجع إلي أن 150 ألفا سكنوا منطقة الجبانة في العصر الطولوني، وكان من بينهم رجال الدولة، حتي أن المقريزي اعتبرها مكانا للنزهة(!!)....
وعن إرهاصات التحول الاجتماعي في مصر في القرن التاسع عشر تطالعنا مشاهد في كتاب «ادوار لين» عن عادات و تقاليد المصريين وحكايات سوزان الكان، في كتابها » ذكريات فتاة من الشعب«، والخطط التوفيقية لعلي مبارك وكتاب جيرار جورج لومير »المقاهي الأدبية من القاهرة إلي باريس« وكتاب الأمريكية جي ويلسون »القاهرة شوارع وحكايات » وكتاب »قهاوي الأدب والفن في القاهرة« لعبد المنعم شميس . ففي كتاب محمد سيد كيلاني« ترام القاهرة«يرصد المؤلف أحوال القاهرة وسكانها ما بين 1892 و1996، قبيل عصر الترام ويسجل عدد الجوامع والبيوت التي كانت المياه تصلها واعتماد أهل المحروسة علي مياه الآبار والصهاريج والسقائين في تلك الفترة، ثم يقارنها بدخول القاهرة عصر الترام موضحا المتغيرات الاجتماعية بعد أن سهل الترام الانتقال بين أحيائها وتحول العتبة الخضراء لمركز تجاري وانتشار الملاهي.
تتداعي الصور إلي مخيلتي فأتذكر مشروع توثيق تراث مصر العمراني الذي تبناه أستاذنا كامل زهيري يوم تولي مسئولية مكتبة القاهرة ومشروع توثيق حكايات الأطفال الذي تبنته مكتبة الإسكندرية ذات يوم وموسوعة التراث الشعبي التي كانت مسئولية هيئة قصور الثقافة ولم يظهر منها في حدود معلوماتي سوي جزءين ومشاريع التوثيق التي تبناها مركز التوثيق الحضاري و..و.. فتعاودني علامات استفهام مشاغبة عن ما آلت إليه وأتساءل.. أما آن الأوان لتتشارك المؤسسات الحكومية والأهلية ورجال الأعمال لاستكمال مشاريع لا تقل أهمية عن أي مشروع اقتصادي لأنها تستعيد شخصية المصري أفندي وتحفظ ذاكرة أمة؟! ليتنا نفعل قبل أن نستيقظ ذات صباح لنكتشف أن تاريخنا بات أشبه بأطلانتا جديدة لا يوثقها أثر ولا حجر ولا حتي حكاية.
702 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع