رفعتُ رأسي لأعلى وشحذت نظري لأبعد ما أستطيع، لكني لم ألتقط ولا حتى طيفا، كان أبعد مما ظننت، خرج في استراحة من الحروب والغرور والفقر، ابتعد عن الكوكب بتسع وثلاثين كيلومترا، وحين تأكد أنه خارج الكرة الكبيرة الممتدة المسماة الكرة الأرضية ألقى بنفسه.
كان الشاب الأسترالي «فيلكس» ذو الثلاثة والأربعين عاما يطير تماما بمحاذاة الأحلام. وقريبا من الأمنيات التي على وشك الهبوط لملاقاة أصحابها.
وحين سُئل فيلكس عن يوم هبوطه من خارج السماء إلى داخل الأرض أجاب أنه كان يوم «عيده»، يومها حصد فرحا فاض على وجهه وجسده وقلبه فلم يكف عن الابتسام والضحك وأظنه ما زال قابضا عليهما، عيده لم يكن عيدا دينيا ولا وطنيا لكنه كان عيد تحقيق حلمه، فالأحلام تمن علينا أيضاً بالأعياد حين تتحقق بعد جهد، وحين يدفع ثمنها عمرا وألما وأحيانا دما، لم يسجل عيدا من أي نوع من دون تاريخ يبرره، فلكل الأعياد قصة وربما عبرة، ففي الصين يحتفلون بعيد هام يسمى عيد «دوانوو» الذي يعني «عيد قوارب التنين» إحياء لذكرى شاعر صيني قديم «تشيوي يوان» كان وزيرا وشاعرا كبيرا في مملكة الحاكم «تشو» في الفترة ما بين 770-476 قبل الميلاد، لكن هذا الشاعر لم يحتمل مشاهدة كارثة احتلال بلاده إثر الإغارة عليها من قبل مملكة أخرى فألقى بنفسه في النهر. وحين علم الأهالي أسرعوا إلى النهر بقواربهم، ولكي لا تأكله الأسماك كان ركاب القوارب يلقون بقطع من الخبز والبيض المطبوخ في النهر، ثم قام طبيب صيني بسكب إناء من الخمر ليسكر الأسماك والحيوانات حتى لا تؤذي جسد الشاعر. ومنذ ذلك الحين اعتبر هذا اليوم عيدا وصارت تنظم فيه مسابقات لقوارب التنين. في هذا العيد تحرص الأسر الصينية على الخروج إلى المتنزهات الحقول. وارتداء أزهى الملابس الملونة ثم يحملون حقائب صغيرة يوضع فيها عطور وبخور يعتقد أنها تطرد الأرواح الشريرة وتبعد الأمراض عن حاملها.
أما الهند التي تحتفل بآلاف الأعياد. فإن كل الأديان والطوائف بها تجمع على الاحتفال بعيد «ديوالي « وهو عيد الأضواء. في هذا العيد تستخدم الألعاب النارية ليلا فتضيء السماء، وتزين المحال التجارية والمنازل والشوارع بأجمل أنواع الزينة، والعيد يعود إلى الملك «بالي» الذي اشتهر بالحكمة وطيبة القلب وشجاعته في محاربة المعتقدات البالية التي كانت تسود عصره. ويعتقد السيخ أن الملك خرج ذات يوم لاسترجاع اثني وخمسين ملكا آخرين اعتقلوا بيد جنود إمبراطور هندي، وحين نجح في مهمته ودخل إلى بلاده بصحبة الملوك احتفل به شعبه وتقرر تخصيص هذا اليوم ليكون عيدا، ويعتمد هذا العيد بصورة أساسية على الأضواء. وفي اليوم الأول يفتح جميع السكان شرفات منازلهم ويشعلون شموعا، ثم تقوم ربات البيوت برسم أشكالا هندسية أمام منازلهن تُلون بالألوان المختلفة وبالبهجة التي تعتمر قلوب الجميع متناسين عن عمد أحزانهم وخسائرهم. فالعيد يصل بأضوائه وألوانه وأطعمته ليرفع من القلوب بعضا من أعبائها. وكذلك فعل الفراعنة الذين ابتدعوا أعيادا ملكية مثل عيد تتويج جلوس الملك على العرش، وأعيادا للحصاد وأعيادا دينية، فضلا عن أعياد الموتى والتي تذهب فيها العائلات لزيارة موتاها وهي ما زالت منتشرة في بعض المواقع بمصر. وإن كانت قد نفضت عنها صفة «العيد». على أن كل المدن المصرية القديمة كان لها أيضاً أعياد خاصة بها ومظاهر احتفالات ومواكب وأسرار دينية. فمدينتا «سايس» و «أبيدوس» كانتا تحتفلان كل عام بمناظر تمثيلية وأناشيد ومواكب بمظاهر أسطورة أوزوريس التي تلخص نضال الإله وموته ثم بعثه حيا بعدما جمعت زوجته أعضاءه المتناثرة.
وأذكر أن أمي قالت لي ذات يوم قبل أن أتم العاشرة أن ميلادي كان عيدها الأهم، كما أكد أحد الزملاء أن يوم نشر كتابه كان يوم عيده. والكتاب استنفذ سنوات من عمره وأهداه لقب دكتور، ورسم اسمه على غلاف أنيق يشهد على جهده ويمكنه من الشعور بالفخر أمام أبنائه. وأراني حتى اليوم ابتهج لضحكة صغيرتي وأطرب حتى الفرح حين أجدها سعيدة راضية. وما زال عيدي الأكبر يوم أن احتضنتها صغيرة الجسم هائلة الحضور وعرفت أني وحياتي سوف نرى الألوان.
فالأعياد جميعها. أعياد التاريخ وأعيادنا. كلها تهدي الألوان، وتذكرنا بحلم تحقق وآخر قيد التحقق، تذكرنا بالترفق مع أنفسنا والآخرين فنحن ضعاف صغار لأننا بشر، وتذكرنا بأن الكون واسع كبير ولن يختنق أبداً أو يخنقنا. فالأرض طائرة في لا منتهى. به فائض من المكان والزمان ينادي فقط أن نحاول. وأن نغفر. وأن نفرح.
870 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع