د. محمد عياش الكبيسي
من كل فج عميق يأتي المسلمون ليجتمعوا في مثل هذه الأيام من كل عام، يطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة، ويقفون على عرفات، ويرمون الجمار، لا يقولون إلا الحق، ولا يفعلون إلا الخير،
لباسهم واحد، وشعارهم واحد، والأمة الإسلامية من حولهم ترقبهم وتتحرك مشاعرها بحركتهم ذكرا ودعاء وعاطفة جياشة قادرة على نقل قلوب الملايين إلى تلك البقاع. رسالة الحج لا يختلف عليها اثنان، إنها ترسيخ لمفهوم الأمة الواحدة المستندة إلى عقيدة واحدة وثقافة واحدة، هذا الذي يقوله الخطباء والوعاظ ويردده المراسلون والصحافيون وعامة الناس، ولا شك أن الصورة البيضاء لذلك التجمع البشري الهائل الذي يتنقل بين المناسك بحركة واحدة ولهجة واحدة تؤكد هذا المفهوم. إلا أن الذي لا يقوله الناس في الحج، ولا يستحسنون التطرق إليه في مثل هذه الأيام هو تلك الصورة المرتبكة والمعكوسة والتي تختفي عن السطح لأيام معدودات ربما احتراما للشعائر أو للمشاعر لا أكثر. وإذا كان الحجيج يتورعون عن طرح كل ما من شأنه أن يثير الجدل ويعكر الأجواء الروحانية للحج، فإن الأمة معنية كلها بطرح هذه الصورة ومناقشتها بصوت مرتفع، قبل أن يتحول الحج إلى مجرد مناسبة مجتمعية واحتفالية شبيهة بتلك المناسبات الدينية التي يحتفل بها الغربيون. إن هؤلاء الذين وقفوا بالأمس على عرفات قد عرضوا لنا صورة رائعة ومؤثرة لمعاني الأخوة والمحبة والإيثار والانضباط بأحكام الحج وحركته المرسومة، ولكننا نعلم يقينا أن هؤلاء أيضا يحملون من التناقضات ما هو أكبر وأعمق من هذه الصورة المعروضة، فهؤلاء فيهم الحوثيون والإصلاحيون، وفيهم المرسيون والسيسيون، وفيهم الداعشيون والماعشيون، هناك يتقاتلون ويتخاصمون ويحقر أحدهم الآخر ويكفره ويذبحه، وهنا يتضرعون إلى الله القدم بالقدم والكتف بالكتف! هناك تسيل دماؤهم بأيديهم حقدا وحسدا وتباغضا وتدابرا، وهنا تسيل دموعهم رقة ورحمة وضراعة وخشوعا! صورتان لا يمكن لهما أن تجتمعا في أمة واحدة، لكنهما تجتمعان عندنا نحن المسلمين. نعم على عرفات لا أستطيع أن أميز بين من يدعو لولاة الأمر ومن يكفر ولاة الأمر، وبين من يستفتي المرشد ومن يستفتي الأزهر، ولا أدري من هو مع كرزاي ومن هو مع طالبان، لكن الذي أدريه أن كل هؤلاء يرجعون إلى (الإسلام) ويستنبطون منه ما يعينهم على التشبث بمواقفهم وتبرير كل تصرفاتهم تجاه المخالفين. إنك إذا نظرت إلى الحاج وهو يمسك مصحفه فلا تفرح كثيرا، فليس العبرة بما يقرأ بل بما يفهم، ورب آية واحدة يشذ فيها فهمه كفيلة بأن تكون سببا لقتلك أو قتل إخوانك. تذكر أن الخوارج قتلوا عليا وهو خليفة المسلمين ورابع الراشدين وأكرم الخلق في وقته بآية واحدة وهي قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، وأن القرامطة ذبحوا الحجيج حول الكعبة وسرقوا منها الحجر الأسود بمقولات دينية أيضا وفهم معكوس لآيات الله وأحاديث رسول الله، ولا أظن أن القرامطة الجدد سيتورعون عما فعله أسلافهم وقد أصبح لهم موضع قدم لا يبعد كثيرا عن الكعبة. إن الأمة الواحدة التي نراها على عرفات لا ترضى أن تبقى كذلك بعد نزولها من عرفات، إنها سرعان ما تنزل إلى حدودها وخنادقها الضيقة، ولا زلت أذكر تلك المشاحنات التي حصلت بين الحجاج المصريين والحجاج الجزائريين على إثر لعبة ساخنة بين المنتخبَين في كرة القدم! هذا يعني أن (بطاقة الجنسية) أو (جواز السفر) أقوى بكثير من كل تلك المعاني الوحدوية التي ينبغي أن يستلهمها الحجاج من رسالة حجهم، وحقيقة إن هذا الانقسام موجود حتى في الأنشطة الدينية والدعوية والوعظية، فغالبا ما تتأطر هذه الأنشطة بالأطر القُطرية، فلكل بلد حملاته، ولكل حملة مرشدها، ويندر أن تجد تفاعلا جادا بين هذه الأنشطة يتجاوز حدود الحملة أو البلد، مع أن الخطباء والمرشدين أنفسهم يؤكدون أن الحج عبارة عن مؤتمر عام وجامع لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من شتى البقاع والأصقاع. هناك أيضا بعض المظاهر الفردية المتكررة والتي يصعب أن تجد لها تفسيرا إلا بعزوها إلى حالة الفوضى العامة والنقص الحاد في الإعداد التربوي، ومن ذلك أنك ترى ذلك الحاج المقبل بحماس على المناسك ثم تراه لا يتورع عن مزاحمة الآخرين وإيذائهم وأخذ حقهم في المكان وغيره، بل ولا يتورع عن ترك فضلات طعامه وشرابه في المسجد الحرام وما حوله بصورة لا تتناسب أبداً مع قدسية ذلك المكان وهيبته، أما انتشار هذه المظاهر المقززة في منى فهو شيء مخجل بحق، ولا يجوز السكوت عنه بحال. إن التعامل مع هذا الركن العظيم ينبغي أن يتجاوز حالة التغافل والورع المغشوش والتستر على الأخطاء إلى حالة الشعور بالمسؤولية، والاستفادة من موسم الحج لتقويم هذه الأخطاء الجماعية والفردية، وفتح المجال للتحاور والتناظر العلمي والثقافي، وكسر الحواجز التي تحول دون اندماج الحجيج بعضهم ببعض. إن الحج الذي ارتقى ليكون ركنا من أركان الإسلام مع أنه لا يجب في العمر كله إلا مرة واحدة لجدير بأن نتعامل معه بغير هذه الطريقة الاحتفالية والعاطفية، فهناك فرق بين ثقافة البناء وبين مراسيم الاحتفال. إن الحج مسؤولية كبيرة تتجاوز حدود الرعاية الأمنية والصحية والخدمية لضيوف الرحمن، فهذه كلها مطلوبة لتسهيل الحج وتيسيره على الناس، ولكن المسؤولية الكبرى هي العمل على تحقيق غايات الحج ورسالته في الحياة، ما قيمة المدرسة الفارهة التي ليس فيها تعليم صالح؟ وما قيمة المستشفى الواسع والمزود بكل أدوات الراحة إذا افتقر إلى خبرة الطبيب؟ وما قيمة الأوسمة والنياشين والتيجان والنجوم لجيش مهزوم؟ إن التقويم الحق هو ذلك الذي يرتكز على المخرجات، وليس على الخدمات والتسهيلات. الناس يتكلمون عن التوسعات والخدمات وهذا كله حق، ويستحق القائمون عليه كل شكر ومدح، ولكن السؤال الأهم: أين هو دور الحج في بناء الأمة الواحدة؟ ونحن بين كل حج وحج نتعرض لمزيد من الانشقاق والصدام الداخلي بمبرر وبدون مبرر حتى باتت حصوننا مفتوحة من داخلها لكل طامع وغاصب، وصار الأذناب والرعاع يتحدثون علانية بشماتة ووقاحة أن الكعبة نفسها ستكون قريبا تحت مظلتهم! إن الحج الذي لا ينصهر فيه المسلمون على مشروع واحد، ولا يتمكنون من رص صفوفهم للدفاع عن بلادهم ومقدساتهم ليس هو بالحج الذي شرعه الله (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله). •
665 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع