علاء الدين الأعرجي
مقدمة الطبعة الخامسة المزيدة من كتاب "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي، بين العقل الفاعل والعقل المنفعل"
الأمة العربية بين الثورة والانقراض
هذه المقدمة مخصصة للطبعة الخامسة من هذا الكتاب، الذي تفضلتْ بإصداره دار إي- كُتُب الغراء، التي تبذل جهوداً كبيرة لنشره وتوزيعه مجاناً، على مختلف المواقع الألكترونية، وإلى جميع القراء المهتمين.
وعلى الرغم من أن هذه الدراسات/الفصول قد حُررت قبل "الثورة العربية" الشعبية الأخيرة، إلا أننا نرى أنها تنطبق، إلى حد بعيد، على النتائج التي تمخضت عنها تلك الثورة. بل تؤكد رأينا بأن التخلف الحضاري المتجذر في أعماق النفوس والرؤوس، على صعيد الأفراد والجماعات، قد أسفر عن انتكاسة الثورة وربما فشل مسعى هذه الحركة الشعبيةعلى الرغم من ريادتها وفرادتها.
فإذا تأملنا بدقّة ما يحدث في الوطن العربي اليوم (أواخر عام 2014 ) نلاحظ أن معظم الصراعات والأزمات التي يمرُّ بها، ناتجة تقريباً عن تخلفنا الحضاري، الذي يتسم بمواصفات وخصائص شرحنا بعضاً من أهمها في هذا الكتاب، وفي كتابات كثيرة منشورة أو مخطوطة. ولكنَّ الصفة البارزة لهذا التخلف الحضاري، التي قد تعتبر النتيجة النهائية لمعظم خصائصه السالبة، هي عدم قبول الرأي المخالف، من جانب معظم الأفراد والمجتمعات العربية والإسلامية المختلفة. وقد تجلت هذه الصفة، على وجه الخصوص اليوم(أواخر عام 2014)، في الظاهرة "الداعشيّة"السائدة، التي تقتل (تذبخ) حالاً من لا يتفق معها في عقيدتها، باعتبارها الوحيدة المُمَثِلة لصحيح الإسلام.
وهناك درجات أخرى متعددة من عدم قبول الرأي الآخر، تتجلى وتتفاوت عقوبتها بين الرفض أو/ و العزل أو/و التعزير أو/و الإهمال أو/و المعاملة التميزية، أو الاتهام بالردة مما يجيز هدر دم المتهم، كما حصل لنجيب محفوظ(كاد يُقتل) وفرج فودة(قُـتِل). وقد يحال إلى العدالة كما حصل لطه حسين وعلي عبد الرازق ونصر حامد أبو زيد ولويس عوض، بل ترقى العقوبة أحيانا إلى حدّ الإعدام مثل محمود محمد طه.
وقد أسهمتْ هذه العلـّة في إعادة إنتاج تخلفنا الحضاري، وتردينا في هاوية الخلافات الطائفية والمذهبية والعرقية والمبدئية أو العشائرية، ما أسفر عن حروب أهلية ماحقة، قائمة فعلاً في سورية وليبيا واليمن والعراق والسودان وجيبوتي، أو كامنة يمكن أن تتفجر كما في عدد من البلدان العربية الأخرى.
كل ذلك خلافاً للمجتمعات التي أخذت بالحداثة حيث تتعايش فيها الأراء المختلفة بل المتعارضة والمتنافرة، إلى أقصى حدٍّ، بدون أية مشكلة. مما جعلها ملجأً لكثير من الأفراد العرب الملاحقين في بلدانهم سواء بسبب عقيدتهم الدينية أو المذهبية، أو اختلافهم الإيديولوجي. إذاً فإن هذا التخلف الحضاري شكَّـل السبب الرئيسي لمعظم الكوارث التي حلت ْبنا منذ منتصف القرن الماضي،إن لم تكن جميعها.
وبُغية تفسير أسباب هذا التخلف، لجأنا إلى طرح نظرية "العقل المجتمعي Societal Mind"، الواردة في الفصل الرابع، مع شقيقتها نظرية "العقل الفاعل والعقل المنفعل Active Mind and Passive Mind ، حيث يترابطان على نحو وثيق، من جهة، ويختلفان من جهة أخرى. مثلاً: "العقل المجتمعي" يرتبط بالمجتمع ككيان له شخصية معنوية بل قانونية أحياناً، بينما يرتبط كل من العقل الفاعل والعقل المنفعل بالإنسان الفرد. ومثلاً: يخضع معظم أفراد المجتمع(أي مجتمع) للعقل المجتمعي بعقلهم المنفعل به، بشكل تلقائي غير واعٍ، فيصبحون عبيده تقريبا. باستثناء عدد قليل من الناس الذين يتمكنون من استخدام عقلهم الفاعل؛ فيستجوبون العقل المجتمعي ويشككون في قِيَمِهِ ومبادئه وتجلياته؛ من أعراف وتقاليد ومسلمات ومعتقدات، قد لا تكون لها أية علاقة بالشريعة الإسلامية، بل قد تكون مخالفة لها أحياناً، مثل الثأر (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، وجرائم الشرف(القتل غسلاً للعار).
وبغية توضيح انطباق نظرياتنا المطروحة في هذا الكتاب على الأوضاع التي آلت إليها الثورات العربية نقدم الملاحظات التالية التي آمل أن تكون وافية بالغرض.
1.لاحظنا صعود نجم الحركات الإسلامية بمختلف أشكالها، في جميع البلدان التي نجحت فيها الثورة الشعبية (تونس مصر اليمن ليبيا- هناك حرب أهلية قائمة اليوم-19/10/2014- بين الإسلاميين والجماعات الأخرى)، كما نجح الأخوان المسلمون في الانتخابات المغربية فتسلموا رئاسة الحكومة. وعلى الرغم من أن هذه الحركات لم يكن لديها أي دور في تفجير الثورة في مصر وفي تونس، مثلا بل التحقتْ بالثورة فيما بعد، أي حين صَمدتْ الثورة، وظهرت عليها علامات النجاح في مواجهة النظام الحاكم، ركبوا الموجة وحصلوا على حصة الأسد.
2.ونظرا لأن هذه الحركات تؤمن، بوجه عام، بالرأي الواحد، وترفض الرأي الآخر الذي يتعارض مع رأيها ومعتقدها، فإن هذا قد يدل على أن العقل المجتمعي العربي ما يزال عقلاً متخلفاً بعيداً كل البعد عن الحداثة، التي نحتاجها للنهوض والتقدم. ولاسيما عن طريق فصل الدين عن الدولة الذي حققته البلدان المتقدمة. بينما لا يمكن أن تقبل هذه الحركات هذا المبدأ المخالف لمبادئها الأساسية.
3.وفي سورية حيث أخطأ النظام السوري بمواجهة حركات الثورة الشعبية السلمية بالقوة المُفرِطة في بداياتها، تحولت الثورة إلى حركة مقاومة مسلحة. وسرعان ما تسلمتْ الحركات الإسلامية قيادة معظم الفصائل المقاتلة ضد النظام الحاكم. وأصبحت هذه الحركات تُغذى وتُسند من جانب بعض الدول التي تهدف إلى القضاء على حكم الأسد، لا لإنه استبدادي وفاسد، فهذه الدول نفسها مستبدة وفاسدة، في الغالب، بل ربما لأنه نظام علوي/ شيعي مخالف للمذهب السني الذي تدين به، فضلاً عن تحالفه مع النظام الإيراني الشيعي، الذي تعتبره عدوها الأول. طبعاً هناك جوانب أخرى لهذه العلاقات المعقدة بين كلا الجانبين. وكل هذا سببه، كما أرى، العقل المجتمعي العربي والأسلامي الماضوي المتخلف الذي ما يزال خاضعا لخلاف المسلمين على الفِرقة التي لها الحق في الخلافة، أي ما يسمى بالفتنة الكبرى.
4.ونحن لا نستبعد طبعا ً دور الآخر-إسرائيل أمريكا- في إضافة الزيت إلى النار، بل في دعم ومساعدة الحركات الإسلامية المعارضة، للتعجيل في إسقاط الأسد مثلاً؛ مساعدتها بشكل مباشر أو غير مباشر. أما بعد تحقيق هذا الهدف فإن الأخر يعلم أن هذه الحركات ستتصارع فيما بينها وتتقاتل بضراوة ماحقة، ومن المحتمل أن تتقاسم الأقليم السوري، وهذا ما تسعى إليه أمريكا، ولاسيما إسرائيل التي ترقص له طرباً. وما يحدث اليوم في ليبيا من صراع دموي بين الفرق المختلفة، ولاسيما بين الإسلاميين والعلمانيين، يشكل مثالاً آخر على تخلف العقل المجتمعي العربي والإسلامي، بسبب عدم قبوله للرأي المخالف، مثلاً.
5.وفي نفس هذا السياق، فإن هدف الآخر هو تقسيم سورية وبقية البلدان العربية إلى بلدان صغيرة متناحرة، قائمة على أساس عرقي أو مذهبي: عرب، كرد، تركمان، آثوريون، مسيحيون، سُنة، شيعة،.... بل ربما عشائري. ونحن كعرب نساعد بعقلنا المجتمعي الماضوي على هذا التقسيم:" يفعل الجاهل بنفسه ما يفعله العدو بعدوه". (انظر مقالتي" هل سيصبح العراق في ذمة التاريخ؛ قريبا سنيستان وشيعيستان وكردستان"، صحيفة القدس العربي، في 10/11/ 2006).
6.كل ذلك، إن دلّ على شيء، فإنه يدل على أن فكر الحركات الإسلامية(العقل المجتمعي العربي/ الأسلامي المتخلف، الذي حاولنا توصيفه وتحليله ونقده في هذا الكتاب) ما زال مسيطرا ً على عقل معظم شعوب الوطن العربي.
7.نحن لا نقصد بذلك التقليل من مكانة الدين الإسلامي، بل نرى أن الحركات الإسلامية ولاسيما المتطرفة، قد شوهت هذا الدين. واحتكرته باعتبارها الناطقة باسمه، بل استخدمته كذريعة للوصول إلى الحكم. ومن جهة أخرى فإن كل جماعة من هذه الجماعات المتعددة، تدعي أنها تمثل الدين الصحيح، وغيرها على خطأ، لذلك يستحق هذا الغير، الإلغاء بل الإبادة إذا استمرّ في غيِّه، حسبما ترى. والمثال الواضح على ذلك، حركة القاعدة وتفرعاتها ولاسيما "داعش"، او ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام التي استولت على ربع الأراضي العراقية تقريبا. مثل هذه الحركات يمكنها أن تقضي على أية حركة تحديثية، بما فيها إشراك المرأة في العملية التنموية، باعتبارها تمثل نصف المجتمع. كما يمكن إضافة ظاهرة داعش إلى المؤشرات السبعة عشر التي قد تؤدي إلى سقوط
8.وبالعودة إلى تأثير العقل المجتمعي على نتائج الثورة، نلاحظ أن هذا العقل المجتمعي المتخلف أقوى من هذه الثورة، رغم شعبيتها والتفاف معظم شرائح المجتمع حولها تقريبا، ثم نجاحها في إزاحة أربع زعماء مستبدين كانوا مسيطرين على جميع المرافق الرئيسية لبلدانهم.
9.الوضع المأساوي الراهن في العراق كدولة فاشلة، رغم قدراتها البشرية وثروتها الطبيعية، يثبت كذلك نظريتنا التي تَنْصَبُّ على فكرة العقل العربي المتخلف السائد هناك، لدى مختلف الأطراف المتصارعة، ولاسيما السنة والشيعة. هذه الفُرقة المذهبية التي كانت وما تزال قائمة منذ أربعة عشر قرنا، تدل على مدى تخلفنا الحضاري بسبب العقل المجتمعي الماضوي الذي يعود إلى تلك الفترة.
10.انتقدني البعض باعتباري متشائماً في هذا الكتاب. جوابي عن ذلك قولي له: هل يمكنك أن تعتبر الطبيب، الذي يفحصك، ويراجع تقارير الفحوص المختبرية بالدقة الكافية، ثم يكاشفك بمرضك الخطير، تعتبره متشائماً؟
فأنا أشعر بمسؤوليتي وواجبي بأن أدق ناقوس الخطر وأحذّر من الكارثة الوشيكة، قبل فوات الأوان، انطلاقاً من حرصي الشديد على إنقاذ هذه الأمّة من هذه الغُمّة. إن إخفاء رؤوسنا في التراب، يؤدي إلى زيادة تفاقم الداء، بل يقربنا أكثر من شفير الهاوية. بل إن سكوت الكُتّاب عن هذا المصير قد ينطبق عليه القول المأثور:" الساكت عن الحق شيطان أخرس".
11.الخلاصة أن القارئ المتمعن سيلاحظ ان النتائج التي توصل إليها الكتاب، تنظبق عل الوضع القائم بامتياز.
12.مع ذلك فأنا مازلت أواسي الذات بأن هذه الثورة العربية قد تتمخض عن تحقيق أهدافها(خبز، حرية، عدالة اجتماعية، حقوق الإنسان وكرامته..) في نهاية المطاف. ذلك لأن الثورات الكبرى تظل في مرحلة انتقال وتواجه صعوبات جمّة وجياشانات خطيرة وحروب ضروس، كما حدث للثورة الفرنسية التي ظلت عشرات السنين قبل أن تحقق أهدافها كاملة(من 1789إلى 1870 حسب بعض المؤرخين).
علاء الدين الأعرجي
نيويورك، في 20/10/2014
3232 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع