ولاية الموصل والحقوق الكوردية بعد الحرب العالمية االأولى / الحلقة الثامنة

                                          

ولاية الموصل والحقوق الكردية بعد الحرب العالمية الأولى/ الحلقة الثامنة

 


                            
                       

* التعامل الحكومي الرسمي مع المشكلة الكردية
عندما استقر الحكم الملكي في العراق، وبعد أن تم إخماد جميع الحركات والثورات والانتفاضات والتمردات الكردية فيه...

     

وجد النظام الملكي أنه لا بد من وضع أسس تقوم عليها السياسة الرسمية تجاه الأكراد، وتوصل إلى إمكانية استيعاب الشخصيات الكردية النافذة عن طريق استقطابها في النظام وتمكينها من اعتلاء أعلى المناصب. ولقد نجحت هذه السياسة بالفعل في إرضاء أوساط من الطبقة البرجوازية والإقطاعية من الأكراد. لقد كان يندر أن تشكل وزارة ملكية دون أن يكون على رأسها إما رئيس وزراء كردي أو وزير دفاع أو داخلية أو رئيس أركان للجيش كردي. وفي الحقيقة فإن نسبة الأكراد في الجيش ظلت طوال تلك الفترة أعلى بكثير من نسبتهم في الشعب العراقي (بسبب كفائتهم وخلفيتهم العسكرية في الجيش العثماني). كما سمح للإقطاعيين الأكراد بالاحتفاظ بمساحات شاسعة في الأراضي في جميع أنحاء كردستان العراق. وهكذا ظلت الحركة الوطنية الكردية المعارضة سرية أولاً، وضعيفة التأثير ثانياً، ومتعاونة مع الحركة الوطنية العربية العراقية من أجل أحداث تغيير لمصلحتهما المشتركة. بكلمة أخرى إن النظام الملكي العراقي فرّق بين نوعين من الأكراد العراقيين: "الأكراد الموالون"، وهؤلاء لا يوجد أي حاجز أمام تسلمهم أي منصب أو امتياز، و "الأكراد المعارضون"، وهؤلاء لا يوجد أي مجال لاستيعابهم أو فسح المجال لهم للمشاركة. وبالتأكيد فإن الأحزاب الكردية كافة ابتداءً من هيوا (الأمل) ووصولاً إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) كانت من ضمن الفئة الثانية. وبسبب هدوء المنطقة الكردية بعد أحداث 1939-1943 – 1947، فإن الحكومة العراقية الملكية لم تشعر بأنها في حاجة إلى وضع خطة أو برنامج (لحل المشكلة الكردية) وإلى تأهيل العرب والأكراد في العراق بأنهم شركاء في هذا الوطن لكي يعيشوا في عراق موحد ومستقر. وكذلك الأمر مع بريطانيا الدولة المحتلة ثم المتنفذة في العراق، فبعد أن نجحت بريطانيا في احتلال القواعد والمطارات العسكرية واستثمار النفط في العراق ووقعت المعاهدات طويلة الأمد بين بريطانيا والحكومات العراقية المتعاقبة، لم تشعر بأنها في حاجة للورقة الكردية فأهملتها.

                       

لم تختلف الصورة في العهد الجمهوري الأول عبد الكريم قاسم 1958م. فعلى الرغم من أن الأحزاب والشخصيات والتنظيمات المهنية العراقية ومن ضمنها الكردية شعرت بحرية أكبر في التحرك والعمل على الساحة السياسية، وعلى الرغم من أن الحزب الديمقراطي الكردستاني بدأ يعمل بصورة علنية حتى قبل إجازته في عام 1960 ولأول مرة في تاريخه النضالي، إلا أن الموقف الرسمي ظل كما هو غير مبرمج وغير واضح، ويعتمد على ما تمنحه الدولة من حقوق قابلة للسحب في أية لحظة.

  

لقد اعتقد الزعيم عبد الكريم قاسم أن (الحرية) التي منحتها ثورة 14 تموز/يوليو 1958م للأكراد، وتثبيت مسألة مشاركتهم في الوطن في الدستور العراقي، والسماح لهم بإصدار صحفهم، والسماح للمبعدين من الأكراد وعلى رأسهم (الملا مصطفى البارزاني) بالعودة إلى العراق، وإطلاق سراح المسجونين منهم، وإعادة المهجرين إلى أراضيهم في كردستان العراق، هي أمور كافية لإرضاء الشعب الكردي وجعله ممتناً لما يحدث. وبالتالي فأنه لم يفكر مثلاً في وضع تفاصيل المشاركة مع الشعب الكردي ووضع أسسها العلمية والعملية. ولم يفكر في توضيح الحقوق القومية الكردية المشروعة وتثبيتها في القوانين العراقية، ولم يفكر في تثبيت الحقوق الثقافية للأكراد وحقهم في التعلم باللغة الكردية. لا بــل إنــه حتــى عندمــا أجيــز الحزب الديمقراطـــي الكردستاني للعمل، فإن إجازته تمت بعد تعديل اسم الحزب وبرنامجه. إن هذا التفكير (الأبوي المتعالي) من قبل الحكومة العراقية مع الشعب الكردي والقضية الكردية لا يمكن أن يحل المشكلة للقضية الكردية. صحيح أن الأكراد كانوا فرحين بما تحقق لهم وصحيح أنهم رضوا بالعمل بالبرنامج الذي وضعته لهم الدولة والحكومة العراقية مبررين ذلك بأن الحصول على الإجازة هو أهم من المسائل المبدئية الأخرى التي يمكن أن تبقى كمبادئ غير مكتوبة للحزب، إلا أنه أيضاً صحيح أن كل هذه المنجزات كانت رهناً بموافقة ومباركة الحاكم العربي في بغداد، وأنه باستطاعته أن يسحبها الواحدة تلو الأخرى متى شاء ذلك وحسب رغبته الشخصية، طالما أنه لا يوجد دستور وقوانين تحمي هذه المكتسبات للشعب الكردي، وهذا ما حدث بالفعل بعد أن ساءت العلاقات بين عبد الكريم قاسم والملا مصطفى البارزاني ثم الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، وانتهت الأمور إلى حرب دامية بين الطرفين. كما أن هذا الأسلوب الاستعلائي من قبل الحكومة العراقية كان أوضح أثناء القتال الدامي الذي استمر منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 1961 وحتى نهاية حكم عبد الكريم قاسم في الثامن من فبراير/شباط 1963، حيث لم يفكر عبد الكريم قاسم بأن يطرح أية مبادرة أو برنامج لحل المشكل الكردية وظل مصراً على موقفه المبني على مشاعر شخصية، حيث اعتبر أن الملا مصطفى البارزاني وقادة حزب البارتي "ناكرين للجميل" وأنهم "أساءوا إلى الأيدي والصدور التي مدت وفتحت إليهم ومكنتهم من العمل الحزبي بعلنية وبحرية". ونسي أنهم أصحاب قضية قومية ووطنية ومسؤولين أمام الله لقضية شعبهم وأمتهم الكردية.
وزاد في تصلب عبد الكريم قاسم في موقفه لشعوره الشخصي بأن بريطانيا تقف وراء ما يجري في كردستان العراق، وأن السفير البريطاني دفع الأموال لإثارة المشكلة الكردية وإضعاف النظام ومن ثم إسقاطه بسبب مطالبة عبد الكريم قاسم بالكويت عام 1961 علماً بأن شعوره الشخصي لم يكن له أي شيء من الصحة في ذلك الوقت، حيث كانت قضية قومية كردية ينادي بها الشعب الكردي بأجمعهُ. رغم إصدار قانون رقم (80) في عام 1961 الذي حرم شركات النفط البريطانية من الأراضي غير المستثمرة في العراق.
وهكذا فشل عبد الكريم قاسم في أن يتصرف كرجل دولة ويحافظ على العراق جميعاً، وأن يفرق بين ما هو شعور شخصي وبين ما هو رسمي، وفشل أكثر في وضع البرنامج الصحيح لحل المشكلة الكردية التي اعتمد في حلها على القوة العسكرية فقط دون إعطاء أي محاولة للحوار بخصوص حلها. ولم يستطع أن يستوعب حقيقة أن استمرار المشكلة الكردية سيضعفه وسيزيد من التغلغل الأجنبي في العراق، هذا هو الغرور القاتل الذي وقعت فيه جميع الحكومات العراقية المتعاقبة (إيمانهم بحل القضية الكردية بقوة السلاح)، وأنه كان يتوجب عليه كسب الأكراد وفهم وجهة نظرهم بدلاً من تركهم مكشوفين للتعاون مع الآخرين لحماية أنفسهم. وهذا شيء طبيعي وحق لكل من يحاول ان يحمي نفسه من العدو الأقوى له، لا بل والأدهى من ذلك أنه حتى عندما حاول البارتي أن ينأى بنفسه عن الأعمال المسلحة العشائرية وغيرها في كردستان، اتهمتها (الحكومة العراقية) بأنها أعمال رجعية استعمارية ضد مكتسبات ثورة 14 تموز/يوليو 1958 ولم يعترف أبداً بأنها حركة قومية لشعب مضطهد، لم يعمل عبد الكريم قاسم على الاستفادة من هذا الموقف وإنما نظر للبارتي كمعارض له ولحكومته وقرر أن يصفيه مع العشائر والمعارضين الأكراد لسياسته في صفقة واحدة.
عندما سقط عبد الكريم قاسم ووصل حزب البعث إلى السلطة في المرة الأولى في الثامن من شباط عام 1963 مع مجموعة من الضباط القوميين، لم يكن هناك أي خطة واضحة للتعامل مع المشكلة الكردية لدى النظام البعثي الجديد. وكان جل تفكيرهم في هذا الخصوص ينصب على ما كتبوه أثناء حكم عبد الكريم قاسم عن المشكلة الكردية ويتلخص بالتالي:

أن ما يحدث في كردستان العراق هو تمرد عشائري ويمثل اختلاف بين حليفين سابقين هما عبد الكريم قاسم والملا مصطفى البارزاني، وأن عبد الكريم قاسم لم يستخدم القوة العسكرية الكافية لقمع هذه الحركة القومية الكردية.

وبدلاً من البحث عن حلٍ للمشكلة الكردية بدأ النظام البعثي الجديد يبحث عن السبل الكفيلة لإسكات البارتي والملا مصطفى البارزاني وتهدئتهم حتى يتمكن من إعداد القوة العسكرية الكافية لقمع الحركة الكردية. فعلاً هذا ما تفكر به دائماً الحكومات العراقية تجاه حل المشكلة الكردية. وعندما وجد القادة الجدد في العراق أن هناك ضغطاً عربياً لإيجاد حل للمشكلة الكردية، طرحوا فكرة اللامركزية الإدارية كحل للمشكلة الكردية في العراق، وهو حل استخدمته السودان قبل ذلك، ولكن هذه الفكرة جاءت أيضاً في سياق التسويف. ومن الإنصاف القول أيضاً إن الطرف الكردي كان هو الأخر رافضاً للحلول المطروحة أو لمناقشتها لعدم ثقتهم بالحكومة وصدقيتها مع الأكراد. ولم يبدِ أية مرونة في التعامل مع الوضع الجديد، وبدأ يصعد من المطالب الكردية، مع ظهور منابر كردية مختلفة، كل منبر يطرح فكرة أو حلاً مختلفاً عن الطرف الآخر. وعلى الرغم من أن البارتي كان قد طرح شعاراً أساسياً للحركة القومية الكردية هو: "الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان"، وبقيّ متمسكاً بهذا الشعار من أجل صالح العراق. كما أنه ومن الملفت للنظر إن حزب البعث لم يقدم على دراسة عملية لحل المشكلة الكردية أثناء إعداده للانقلاب على عبد الكريم قاسم ولم يفكر بوضع برنامجٍ لها، بل ولم يعمل ذلك عندما وصل إلى الحكم أيضاً. بل إن حزب البعث وبالرغم من وصوله إلى الحكم في الثامن من شباط عام 1963 وخروجه منه في العام نفسه (انقلاب تشرين 18 تشرين الثاني عام 1963 بقيادة عبد السلام عارف) (وكان الفشل في حل المسألة الكردية أحد الأسباب الرئيسية في ذلك)، وعمله على العودة إلى الحكم وبجدية وإجرائه لانفتاحات سياسية عديدة، إلا أنه لم يفكر في وضع دراسة جدية عن المسألة الكردية إلا في عام 1969.(وسنأتي إلى شرح ذلك في ما بعد).

                     

ربما يكون ما طرحه الدكتور عبد الرحمن البزاز، رئيس وزراء العراق للفترة من 1965-1967 المحاولة الجدية الأهم حتى ذلك الوقت لإيجاد حلٍ للمسألة الكردية وفق برنامج سياسي ورؤية موضوعية للوضع العراقي. بل وكان هذا الحل يمثل أول تحدي من قِبَل الفكر المدني العراقي للتعامل مع المشكلة الكردية في إيجاد حلّ للقضية الكردية سلمياً، في مقابل الفكر العسكري الذي تعامل مع هذه المشكلة حتى ذلك الحين بقوة السلاح. فبعد أن كانت الاتفاقات السابقة تركز على وقف إطلاق النار وإطلاق سراح المسجونين وإعادة المفصولين وتعويض المتضررين، تحدث بيان التاسع والعشرين من حزيران/يونيو 1966 على برنامج شامل للحقوق الثقافية والسياسية، كإنشاء جامعة كردية في السليمانية وإجازة الأحزاب الكردية، ولو أن هذه البنود وضعت ضمن البنود السرية للاتفاق خشية أن ينقضّ ولا يقبل بها القادة العسكريون عليه، إلا أنها بنود كانت أشبه بالسر المعروف للجميع ووضعت الأساس للتعامل مع المشكلة الكردية بصيغتها الشاملة المستقبلية وليس بصورتها الآنية. المشكلة الوحيدة هي أن صاحب المشروع، الدكتور عبد الرحمن البزاز، كان أضعف من أن يطبق هذه البنود بسبب الهيمنة العسكرية على الحكم. صحيح أنه استغل انتكاسة الجيش في معركة هندرين في عام 1966، إلا أن هذه الانتكاسة لم تنجح في إنهاء نفوذ قادة الجيش في سياسة الحكومة تجاه القضية الكردية، والذين نجحوا بعد أشهر من إعلان هذا الاتفاق في إقالة د. عبد الرحمن البزاز من منصبه رئيساً للوزراء.

  

إن الموضوعية والإنصاف يقتضيان القول بأن تعامل حزب البعث مع المعضلة الكردية بعد وصوله إلى السلطة مرة ثانية في 17-30 تموز عام 1968 كان أكثر جراءة ووضوحاً. ولو تمكن الحزب من التعامل مع المعضلة بالروح نفسها التي تعامل معها في نهاية 1969 وحتى إعلان بيان الحادي عشر من آذار/مارس التاريخي في عام 1970، لكان وضع العراق والأكراد فيه أفضل بكثير مما هو عليه حتى عام 2003م. كما أن الإنصاف والموضوعية تقتضيان القول بإن الطرف الكردي، والمتمثل آنذاك (بالبارتي وقيادة الملا مصطفى البارزاني)، يتحملان النصف الثاني من المسؤولية في ما آلت إليه الأمور بعد عام 1974. وأعتقد السبب هو عدم تنفيذ جميع البنود والفقرات المتفق عليها والتي وضعت خلال المباحثات بين الطرفين الحكومة والقيادة الكردية والنتائج المقرر تنفيذها في بيان الحادي عشر من آذار عام 1970م لم تنفذ من الجانب الحكومي.
المهم في الأمر فقد تم وضع دراسة جدية (للمسألة الكردية) من قبل حزب البعث في عام 1969 في ظل مطالبات وطنية عراقية بحل سلمي للقضية الكردية، وثم في الفترة من 1969-1970 نشرت دراسات في نشرة حزب البعث الخاصة بالأعضاء لتثقيفهم حول القضية الكردية، وتم إقناعهم والعراقيين بحل مبني على (الحكم الذاتي للأكراد) الذي كان الحديث عنه حتى ذلك الحين محرماً ويقرن بالانفصال للأكراد عن العراق، أو خلق كيان شبيه بالكيان الصهيوني عند بعض المتشددين والقوميين العرب. لقد وضع بيان الحادي عشر من آذار/مارس لعام 1970 برنامجاً واضحاً لتطبيق الحكم الذاتي للأكراد في كردستان العراق. علماً بأن التمهيد لهذا لبيان والاتفاق عليه، قد سبق إعلانه وذلك بتطبيق بنود بيان (29 حزيران/يونيو 1966) السرية والتي تضمنت إنشاء جامعة كردية في السليمانية، وإنشاء محافظة كردية ثالثة هي (محافظة دهوك) متكونة من أجزاء من محافظة أربيل ومحافظة الموصل. (وبهذا بقي بند سري واحد من بيان 29 حزيران/يونيو 1966 لم يطبق ذلك) القاضي بإجازة الحزب الديمقراطي الكردستاني).

    

وتأسيساً على هذه الخطوات وإعلان بيان الحادي عشر من آذار/مارس 1970 تم إقرار تعليم اللغة الكردية إلى جانب اللغة العربية في جميع المدارس العراقية، مع إعطاء المدارس في المناطق الكردية الحق بالتدريس باللغة الكردية حتى مرحلة معينة كي تكون مزدوجة اللغة بعد ذلك.
إن ما يهمنا أكثر هو الإقرار بمبدأ (الحكم الذاتي للأكراد) كما ذكرنا. حيث تم اعتماد هذا المبدأ وحسب المطلب الكردي، كأساس لإدارة المنطقة الكردية المتكونة من السليمانية وأربيل ودهوك، مع ضم المناطق الشمالية من كركوك وأجزاء من ديالى، والتي توجد فيها كثافة سكانية كردية إلى منطقة الحكم الذاتي. وأجاز قانون الحكم الذاتي 1974 تأسيس مجلسين للمنطقة، مجلس تشريعي ومجلس تنفيذي يكونان "منتخبين". بالإضافة إلى مشاركة الأكراد بخمس وزراء في الوزارة المركزية في بغداد (كان العدد لا يتجاوز اثنين في السابق). بعد بيان الحادي عشر من آذار/مارس 1970 أجاز عمل الحزب الديمقراطي الكردستاني بصورة علنية وأُتيح له ممارسة حقه في فتح فروع له في كل أنحاء العراق. كما تم قبول مجاميع من الطلبة الأكراد في الكليات العسكرية العراقية، ودمج قسم من البيشمركة المسلحين في الجيش العراقي كحرس حدود. وتم الاتفاق على تعيين نائب كردي لرئيس الجمهورية.
كل هذه الأمور الايجابية كانت تبشر بحل سلمي ودائم للمعضلة الكردية، إلا أن ما حدث على الأرض لم يكن ينسجم مع هذه الايجابية. حيث تصاعد التوتر بين الطرفين منذ نهاية عام 1973 حتى وصل إلى حد الصدام المسلح في نيسان/أبريل 1974. وإذا أردنا أن نحصي أسباب التدهور سنجدها كثيرة ويتحمل الطرفين الحكومي والقيادة الكردية حصتهما من الأسباب. ابتداءً ورغم كل الإيجابية التي أبداها حزب البعث وقيادته، إلا أنه أبقى جميع الأمور معلقة في المنطقة الكردية والمجلسين التشريعي والتنفيذي بموافقة السلطة المركزية في بغداد وبقيادة حزب البعث لها بما فيها حتى الصغيرة منها، وجعل من هذه المركزية أساساً في التعامل مع المنطقة الكردية. كما أنه فرض أشخاصاً عرباً وبدرجات حزبية بعثية كبيرة وهم أصحاب الموافقة على كل القرارات في المجلسين (وعلى المجلسين التشريعي والتنفيذي) قبول ذلك،

    

وعمل حزب البعث ونظام الحكم في بغداد على تصفية القيادات الكردية الرئيسية ابتداءً من الملا مصطفى البارزاني وانتهاءً بالقيادات المحلية وهم في حالة التفاوض مع الحكومة وحزب البعث لإيجاد الحلول للمشكلة الكردية. وأهمل تدريجياً تدريس اللغة الكردية في المدارس العراقية، وأضعف تدريسها في المناطق الكردية، وجعل للكردي الذي ينتمي إلى حزب البعث امتيازات تفوق امتيازات أعضاء البارتي، إلى آخره من الأمور التي أعطت البارتي والشعب الكردي الانطباع بأن قيادة البعث والحكومة العراقية لم تكن جادة في تحقيق بنود الحادي عشر من آذار 1970 وتسوية شاملة ونهائية للمشكلة الكردية على أساس الاعتراف بالآخر وإعطائه حقوقه القومية كاملة، خصوصاً في ظل تصعيد وتيرة القمع ضد قيادة البارتي والشعب الكردي. ومع الأسف كان هذا نهج كل الحكومات العراقية المتعاقبة عندما تقوى لا تعترف بما قرر واتفق عليه من خطط لحل المشكلة الكردية.
من ناحيتها اشتكت قيادة حزب البعث من أنه وعلى الرغم من الاتفاق الشامل للبنود الذي وقع عليها في الحادي عشر من آذار/مارس (1970) والذي منح الأكراد في العراق حقوقاً ومكتسبات يحسدهم عليها إخوانهم في الدول المجاورة علماً الجميع في العراق كانت تعلم بأن الاتفاق وبنود 11 آذار 1970 هي صورية فقط، إلا أن قيادة البارتي لم تقطع علاقاتها مع الأطراف الخارجية التي كانت تضمر السوء للعراق ولحزب البعث، مثل إيران الشاه وإسرائيل. بل إن العلاقات والتداخل بين القيادة الكردية وهذه الأطراف أصبح أكبر بعد إعلان بيان الحادي عشر من آذار/مارس 1970م ونعتقد أن السبب في ذلك هو عدم ثقة الأكراد بالحكومات العراقية وبحزب البعث ولشعورهم بعدم مصداقية البعث والحكومة ونكثهم بالوعود في تنفيذ بنود 11 آذار لعام 1970م بشكل صحيح وكامل من قبل الحكومة. ثم أن تأميم العراق للنفط في عام 1972، والذي كان يفترض أن يكون مبعث سعادة للعراقيين جميعاً، لكن وقد يكون ما دفع قيادة البارتي إلى التقرب من الولايات المتحدة وعرض التعاون معها لإفشال عملية تأميم النفط عام 1972 مقابل منحها حقوقاً وامتيازات إضافية في منطقة كردستان العراق وكركوك، وأدى إلى توقيع اتفاقية سرية بين قيادة البارتي والوكالة المركزية للمخابرات الأمريكية سي. آي. إيه (CIA) لتزويد الأكراد بأسلحة ودعم مالي كبير ويعود سبب ذلك بسبب عدم ثقة القيادة الكردية بالحكومة العراقية وقيادة حزب البعث وكذلك من التجارب مع الحكومات السابقة ونكثهم بالوعود وعدم مصداقيتها مع الشعب الكردي وفي نفس الوقت الأسلوب الإعلامي لتلك الدول بتوسيع الثغرة بين الأكراد والحكومة. وكذلك عمل الطرفان، الإيراني والأمريكي، على توسيع مجال التدخل للموساد الإسرائيلي في كردستان العراق. كما جرى تحديد الدخول إلى منطقة كردستان العراق بطريقة توحي للذاهب هناك بأنه ينتقل من بلد إلى آخر. وظلت القيادة الكردية تتصرف بمنأى عن السلطة المركزية ... أعتقد سبب ذلك هو عدم ثقة الطرفين أحدهما بالآخر، وخوف الأكراد من انتقام الحكومة لهم عندما يصبح لديها القوة الكافية لذلك، إلى غير ذلك من الأمور.
والحقيقة فإن المشكلة الأساسية للقضية الكردية التي لم تحل في ذلك الوقت، والباقية إلى حد هذه اللحظة، هي أزمة الثقة المتبادلة بين الطرفين، والتي أصبحت صفة ملازمة لكل القيادات الكردية والعربية في العراق، بل وأصبحت تمتد إلى شرائح اجتماعية كثيرة بين الطرفين. كما أن الفشل في وضع دستور دائم للبلاد يضمن المكتسبات الحقيقية للشعب الكردي، كان السبب الثاني وراء تأزم المشكلة. هو عدم سعي الحكومة العراقية إلى تحقيق الديمقراطية التي كانت تتعارض تعارضاً جدياً مع توجهاتها وأفكارها.

     

وعلى هذا الأساس توجهت الأمور توجهاً مأساوياً انتهى بالصدام المسلح بين الطرفين. فبالإضافة إلى حجم التدمير الرهيب الذي تعرضت له كردستان العراق، والعدد الكبير من الضحايا من كلا الطرفين من الشعب العراقي (بعربه وكرده)، والخسائر المادية الجسيمة التي تكبدتها البلاد، فإن الحكومة العراقية وحزب البعث ساهم في التفريط بأجزاء من الأراضي العراقية لإرضاء إيران لكي تسحب دعمها للقيادة الكردية. وهذا ما حصل في الجزائر في اتفاقية 6 آذار/مارس 1975 بين العراق وإيران، من خلال ما أطلق عليه "اتفاقية الجزائر لعام 1975"، وكان من نتائجها انهيار الحركة الكردية انهياراً شبه كامل. وهذا دليل قاطع بأن شاه إيران والغرب وأمريكا كانت تنظر إلى القضية الكردية من وجهة نظر لمصالحها في المنطقة فقط.
لقد كان من المؤسف أن تنتهي سنوات وخطوات التفاؤل بهذه النهاية المأساوية . واستطاع حزب البعث أن ينفرد بالسلطة انفراداً تاماً بعدها. واتجهت الأمور نحو الدكتاتورية المطلقة والصحافة الواحدة والحزب الواحد، بعد أن كان العامل الكردي من (قيادة وحزب وصحافة)، يعمل عاملاً موازناً وكابحاً للمحاولات البعثية للإنفراد بالسلطة والسيطرة على الشعب العراقي والعمل دون رقابة حتى وإن كانت بسيطة. وكنتيجة لذلك، لم يبق من بيان 11 آذار/مارس 1970 وقانون الحكم الذاتي الذي تلاه في 11 آذار/مارس 1974 سوى الكلمات والأوراق المطبوعة. (حبر على الورق).

  

لقد جاءت الحرب العراقية – الإيرانية لتقضي على البقية الباقية من الآمال والأحلام في نقل العراق إلى حالة من التطور والتنمية، وكانت النتيجة الطبيعية لازدياد أسعار النفط وتضاعف الموارد العراقية منه. إلا أن ما حدث هو العكس حيث استهلكت هذه الحرب غير المبررة كل موارد العراق بل وحتى الاحتياطي منها. وهكذا وبعد أن كان الاحتياطي النقدي العراقي يبلغ حوالي الأربعين مليار دولار، خرج العراق مديوناً بأكثر من ستين مليار دولار. أضف إلى ذلك فلقد سمحت حالة الحرب واستمرارها، للسلطة المركزية في أن تصفي كل من يعترض عليها بدعوى ضرورة الحفاظ على الأمن الوطني والداخلي في وقت الحرب. ولما كانت أغلب القيادات الكردية السابقة متواجدة في إيران، وارتكبت الخطأ في التعاون مع الإيرانيين ضد الجيش العراقي، فإن ذلك أعطى الحق للسلطة آنذاك مبرراً آخر للبطش غير المبرر بالشعب الكردي في كردستان العراق. وجاءت عمليات التصفية والتهجير والترحيل واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً كوسيلة (لضمان الأمن الوطني العراقي) كما ادعت سلطة حزب البعث. إن الحديث عن المآسي الكثيرة التي حدثت في ذلك الوقت قد يثير أحزاناً وأشجاناً نحن لسنا بحاجة إليها، لكن يبقى من المؤكد أن ما حدث في تلك الفترة، وحتى عام 1991، قد أحدث شرخاً كبيراً ودامياً في العلاقة العربية – الكردية، لا زلنا، وسوف نبقى لفترة غير قصيرة نعاني منه كعراقيين عرباً وأكراداً.
وشهدت الفترة ما بين عام 1991 انسحاباً رسمياً للحكومة العراقية من منطقة كردستان العراق، بمعنى أن الإدارة الرسمية والجيش وقوات الشرطة والأمن العراقية انسحبت إلى خارج المنطقة الكردية ومنطقة الحكم الذاتي (لم يعد لها وجود) تاركة الأمور للقيادات الكردية التي أصبحت متمثلة بحزبين رئيسيين هما:

"الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" لاقتسام السيطرة على منطقة الحكم الذاتي. وبما أن هذين الحزبين لم يكونا على وئام مع بعضيهما، فلقد انعكست خلافاتهما التي وصلت إلى حد الاقتتال الدموي والمريع للفترة من 1994 - 1998، لتضيف إلى مأساة الشعب الكردي في العراق مأساة أخرى. ثم ساهمت السلطة المركزية آنذاك في زيادة هذه المأساة بفرض حصار قاسٍ على المنطقة الكردية بالكامل. وعندما فشلت السلطة المركزية في إقناع الحزبين الكرديين الرئيسيين بتوقيع اتفاق شامل وواضح، لم يعلن عنه الكثير لحل المشكلة، بل زادت من هذا الحصار، على الرغم من علمها بأن التأثير والضغط الخارجي كان كبيراً في سبيل إفشال أي محاولة لإنهاء المشكلة الكردية باتفاق سلمي. ولقد ظهر هذا الأمر واضحاً عندما صرح قادة الحزبين الكرديين بأنهما توصلا إلى اتفاق شامل مع السلطة المركزية، وعادا إلى كردستان كلاً على انفراد لاستحصال موافقة باقي القيادات الكردية ولكنهما لم يعودا إلى بغداد بعد ذلك. بسبب الضغوط الخارجية على كل الأطراف الكردية والحكومية.
وللتدليل على أن منطقة كردستان العراق كانت تعيش حالة من "الديمقراطية" أفضل من تلك التي تسود باقي العراق بعد انسحاب الحكومة منها، اتفق الحزبان على إجراء انتخابات عامة في عام 1992. وعلى الرغم من أن نتائج الانتخابات كانت واضحة حسب ادعاء حزب واحد، رفض الحزب الثاني هذه النتائج، وأصر على اعتبار أن النتائج متقاربة. وكحل لهذه المشكلة، أُبتدِع ما عرف بحل "الفيفتي - فيفتي" (Fifty – Fifty) والذي يعني تقاسم السلطة بين الحزبين الكرديين الرئيسيين. وبهذا الشكل فإن الوزير المعيّن من الحزب الأول، كان له وكيلاً من الحزب الثاني، وهكذا نزولاً إلى المناصب الأخرى. وبعد أن تم في البداية تشكيل حكومة واحدة انقسمت الحكومة إلى حكومتين وتم تشكيل حكومتين كرديتين، الأولى في السليمانية تابعة للاتحاد الوطني الكردستاني، والثانية في أربيل ودهوك تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني. إلا أن هذا الوضع لم يستمر طويلاً، فقد بدأ كل حزب يتحين الفرص لإنهاء نفوذ الحزب الآخر بوسائل مختلفة، حتى وصل الأمر إلى الاقتتال الدامي بين الطرفين والذي كانت ساحته الأهم مدينة أربيل. واستمر الأمر حتى تدخلت أطراف خارجية لإيقافه.
على الرغم من أن الحزبين الرئيسيين الكرديين حاولا في لحظات مختلفة إظهار توافقهما، الذي كان كثيراً ما يُفرض عليهما من الخارج وبالذات من الولايات المتحدة، التي كانت قد وضعت مسألة إسقاط النظام العراقي وصدام حسين عام 1988م كأولوية لها فإنها حاولت تجميع كل الأطراف العراقية (المعارضة) إلى جانبها، إلا أن الخلافات ظلت مستمرة وواضحة وغير قابلة للتسوية. وكدليل على ذلك ما حدث عام 1996، حينما اشتد الصراع بين الطرفين، وظهر ما يدلل أن الاتحاد الوطني الكردستاني بدأ يمتد في نفوذه لينازع الحزب الديمقراطي الكردستاني في مناطق نفوذه، بل ويطرده منها، عندها استنجد الحزب الديمقراطي الكردستاني بالقيادة العراقية وصدام حسين آنذاك إلى إرسال الجيش العراقي في عملية مباغتة وسريعة في (30 آب 1996) حيث نجحت قوات الجيش العراقي في تثبيت الحزب الديمقراطي الكردستاني وطرد الاتحاد الوطني الكردستاني من أربيل إلى خارج حدود منطقة نفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني. وكدليل على حسن النية واحترام الاتفاق بين البارتي والحكومة، انسحبت القوات العراقية من كردستان العراق بعد تنفيذ ما طلب منها. إلا أن هذا الموقف لم يمنع القيادة الكردية البارتي من طلب المساعدة ولا القيادة الكردية للاتحاد الوطني التي دفعت إلى خارج الحدود ثم عادت لتستقل بنفسها في منطقة السليمانية وبدعم خارجي إيراني، من التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية لإسقاط النظام العراقي.
وفي الحقيقة لقد ظلت قنوات الاتصال مفتوحة بين القيادتين الكرديتين والحكومة العراقية. وظل الحوار دائراً بصورة متقطعة بين الطرفين. وفي مجال البحث عن حل للمشكلة الكردية كانت تبرز وجهتي نظر مختلفتين ومتباينتين. وبسبب من ضعف الطرفين وعدم إمكانية أي منهما قهر الآخر وإرغامه على القبول بوجهة نظره، ظل الوضع القائم على ما هو عليه: إدارتان كرديتان منفصلتان في كردستان العراق، (مع وجود وزارتين وبرلمانين)، غير قادرتين على توحيد نفسيهما. وحكومة في بغداد غير قادرة على حل المشكلة الكردية ومكبلة بقيود خارجية كثيرة بسبب نظام العقوبات الدولية واستمرار الحصار الشامل. ولما كان الحوار يدور حول حل المشكلة الكردية كان الطرفان الكرديان يطرحان "الفدرالية" كحل مرضٍ لهما وللشعب الكردي، في ما كانت الحكومة العراقية تتحدث عن استعدادها لإعادة النظر في قانون الحكم الذاتي وتطويره بحيث يصبح ملائماً لرغبات الشعب الكردي في العراق. وهذا ما كانت القيادتان الكرديتان ترفضانه معتمدتين على الدعم الأجنبي الذي جعل من مناطق السليمانية وأربيل ودهوك، (ملاذاً آمناً) لا يسمح للسلطة العراقية بالدخول والتدخل فيها. (ولو أن القوات الأمريكية المراقبة لهذه المناطق لم تحرك ساكناً عندما اندفع الجيش العراقي في كردستان العراق في (30 آب عام 1996) وانتصر لجانب ضد آخر واستولى على مراكز كانت تستخدم من قبل (معارضين للنظام هناك). وفي الوقت الذي لم تصرح به الحكومة بأفكارها حول تعديل وتطوير قانون الحكم الذاتي، فإن الأحزاب الكردية نشرت أفكارها حول الفدرالية. وللحقيقة فإن ما نشر عن الفدرالية والتثقيف عليها. حيث توسع مفهوم الفيدرالية لدى القيادات الكردية توسعاً. وإن الحديث عن الفيدرالية الواسعة والمفتوحة أصبح يقرن بفكرة تقرير المصير أو الحديث عن دولة مستقلة في المستقبل. وإلى آخره من الأمور التي أشعرت الغالبية العربية، والتي لا تعترض على أن يحصل الأكراد على حقوقهم القومية أبداً، إلا أن القيادات الكردية بدأت تفكر بأسلوب قومي لا يأخذ مصالح العراق ووحدة ترابه بعين الاعتبار. والسبب هو فقدان الثقة بين الطرفين لحل شامل للقضية الكردية عراقياً مما يجعل الأكراد يتصرفوا وفق إستراتيجية خاصة بهم تحمي مصالحهم القومية. – في كركوك - هو إصرار القيادات الكردية على اعتبار كركوك (قدس الأكراد)، وهو ما أزعج التركمان ومن خلفهم تركيا، وقد يقول الأكراد من السياسيين إن ما نطرحه هو نظير ما قامت به حكومة بغداد من تهجير وإقصاء الكرد من كركوك، الذين قالوا إن هوية هذه المدينة ذات الأكثرية الكردية قد غُيرت نتيجة لممارسات الحكومات السابقة. وربما يكون في هذا الكلام صحة، وبتاريخ يسبق ما قامت به الحكومة العراقية، بتعريب مدينة كركوك بأسلوب غير قانوني وبدون أي وجه حق بتهجير الأكراد منها ومصادرة أملاكهم وإعطائها للعرب القادمين إليها.
وفي دفاع الأكراد عن مطلبهم بالفدرالية يذكر القادة الأكراد أن هذا أمر لا يمكن مناقشته لأنه أقر في مؤتمرات المعارضة السابقة وقرار البرلمان الكردي وبالتالي فإن أياً من الحكومات العراقية لم تصدر أي توضيح أو خطة لحـــل المسألة الكردية. بل إن قيادات هذه الحكومات تتجنب المناقشة أو الحديــث عـــن كل ما يـمت بصلـــة إلى سياسة وتصرفات الأحزاب الكردية خشية إغضابهم، وبالتالي فقدان الحليف الأقوى في المعادلة السياسية للحكومية العراقية.
إن ما رفضه السلاطين العثمانيين - وهم أصحاب قرار سياسي - من حقوق للكرد في ثورة عبيد الله النهري عام 1850، كان قد رفضه الشاه الفارسي عام 1924 في ثورة إسماعيل آغا (سمكو الشكاك) ورفضهُ المحتل البريطاني للعراق في ثورة الملا مصطفى البارزاني 1943- 1945. وعندما زال النفوذ السياسي لبريطانيا بعد ثورة 14 تموز 1958، استبشر الكرد بعودة زعيمهم التاريخي الملا مصطفى البارزاني من منفاهُ في الاتحاد السوفييتي ليشارك الزعيم عبد الكريم قاسم في القرار السياسي وفق الدستور الذي أقرّ في عام 1958.
إلا أن الشكوك والضغينة والأهداف المبيتة بين الرموز الكردية والعراقية التي تعاظمت واتسعت، قد وجدت لها الأزمات المتكررة. ولكن العدل والإنصاف أن الأهداف المبيّتة لم تكن مرهونة بالطرف الكردي لوحده. ذلك هو ما عمل عليه رموز الحزب الديمقراطي الكردستاني (باعتباره الممثل الشرعي للكرد) في مفاوضاتهم مع رموز السلطة السياسية في بغداد بين (1964- 1979). وهنا كان على الرئيس صدام حسين الذي تسلم الملف الكردي منذ عام 1969 أن يجد المخرج للقضية الكردية وهو صاحب القرار السياسي. وقد يجد البعض أن الكرد كانوا جاحدين للمعروف الذي أبداه الرئيس صدام حسين في اتفاق الحادي عشر من آذار عام 1970 ونقول نحن الكرد لا نجد حرجاً في القول، أن ما صدر يعدّ اعترافاً رسمياً بالقومية الكردية، وليس لهُ مثيل في طهران وأنقرة. إلا أن ما كان يعاب عليه، أن المرونة الحكومية لتفصيل تطبيقات الحكم الذاتي عام 1974 وعدم تطبيق ما اتفق عليه مسبقاً في آذار 1970م باتت محدودة طالما اعتبرت كركوك جزء من أرض كردستان. كما أن ما يعاب على الطرف الكردي، (وهو الضعيف في المعادلة) الرفض السريع لنود الحكم الذاتي والسبب عدم جدية الحكومة بتنفيذ جميع ما اتفق عليه وكذلك عيون بعض الرموز الكردية من أصحاب القرار هي على ما يقدمهُ الأجنبي من وعود للقضية الكردية، بعد أن رفضوا حقوقهم على مدار ثمانية عقود من الزمن.
لم يكن للكرد ولا لحكومة بغداد رأي في أي قرار يتخذهُ مجلس الأمن بعد أن أضعف الرئيس صدام حسين قوة الدولة العراقية بعد غزوه للكويت 2 آب عام 1991. ومع ما حصل من معادلة معاكسة أي (ضعف الطرف الحكومي) للتعاون في رسم جدود منطقة الحكم الذاتي، لم يتوقف رموز قيادة الحركة الكردية من التردد على بغداد عام 1991 لإنقاذ الدولة من الانهيار، حتى عاد الحديث القديم للحوار، أن صدام حسين عام 1991 لم يكن على قدر من المرونة كما كان أتاتورك لخصوص حقوق الكرد. وقد يكون الأخير أكثر فطنّة ومرونة في الاعتماد على المقاتلين الكرد لإنقاذ بلاده من التقسيم إبان الغزو اليوناني عام 1922.
إن ما أصدرهُ مجلس الأمن الدولي بقراره (688) في الخامس من نيسان عام 1991 لم يكن لمحاباة الشعب الكردي بقدر ما هو لتدمير الدولة العراقية (القومية والعلمية) وهو بنفس الوقت ليس محل اعتراض الكرد عليه، ولماذا يرفضهُ الكرد بعد ثمانية عقود من القهر والحرمان وقد وجد لهم القرار الدولي ضوءاً ينوّر مطالبهم، وهو يقول: على أثر تفاقم الأوضاع المأساوية للهاربين من بطش القوات العراقية. ويطالب بموجبه الحكومة العراقية بأن تقوم على الفور كإسهام منه في إزالة الخطر الذي يتهدد السلم والأمن في المنطقة، بوقف هذا القمع، كما يدين القرار القمع الذي يتعرض له السكان المدنيون العراقيون في أجزاء كثيرة من العراق والذي شمل مؤخراً المناطق السكانية الكردية وتهدد نتائجه السلم والأمن في المنطقة. ومن نصوص القرار 688 الطلب إلى الأمين العام أن يواصل بذل جهوده الإنسانية في العراق، أي أن مسؤوليات الأمم المتحدة ليست قانونية فحسب بل إنسانية أيضاً ورغم مرور أحد عشر عاماً على صدور القرار المتعلق بحالة حقوق الإنسان، فالواقع يشير بأن ضحايا القمع يزدادون يوماً بعد يوم وتقارير المقرر الدولي الخاص عن وضع حقوق الإنسان في العراق تؤكد بالأرقام والشهادات الحية والمعلومات الموثقة حجم الانتهاكات وتعدد صورها ويعد القرار 688 أول قرار تصدره المنظمة الدولية عن حالة حقوق الإنسان بحق دولة عضو في الأمم المتحدة إلا أن السلطات العراقية لم تحترم نصوصه التي هي في غاية الشفافية واحترام السيادة الوطنية، خلافاً للعديد من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي بعد حرب الخليج الثانية، بل تمادت طوال السنوات الماضية في تحديها لإرادة المنظمة الدولية والمجتمع الدولي في ممارساتها القمعية وتضاعف عدد ضحاياها، من حملات الإعدام الأسبوعية التي ما زالت مستمرة وتجسدت أبشع صورها بما سمي بحملات تنظيف السجون، وقطع رؤوس النساء بالسيف وقطع اللسان وعمليات الترحيل القسري وتغيير الواقع السكاني لمدينة كركوك وسياسة التعريب وتغيير القومية الذي نص عليه قرار مجلس قيادة الثورة رقم 199 الصادر في السادس من أيلول من العام 1990 "لكل عراقي أتم الثامنة عشرة من العمر الحق في طلب تغيير قوميته إلى القومية العربية. إن حماية الشعب العراقي من مسؤوليات المنظمة الدولية وفق نصوص ميثاق الأمم المتحدة والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان وبهذه المناسبة نناشد المجتمع الدولي ومؤسساته تشكيل قوة ضغط على الحكومة العراقية لإيقاف القمع وتفعيل القرار 688 والتدخل للحد من عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء والتعريب للمناطق الكردية وخاصة كركوك وحماية شعب العراق من إرهاب الدولة المنظم بنشر مراقبين دوليين لرصد الخروقات والانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان( ).
أعطى القرار الدولي زخماً كبيراً للقوى الكردية لأن تتحسب للقرار السياسي الذي يكون فيه برلماناً وحكومة كردية على أرض أربيل بمعزل عن حكومة بغداد. ويمكن القول إن التسابق لإشعال انتفاضة كردية على أرض كردستان بمثابة التزكية للأحزاب الكردية وخاصة حزبيّ الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني لجمع الأتباع المشتتين والمترددين في إعطائهم المساعدة والمعونة لكي يكونوا هما من يمثل الشعب الكردي.
الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابعة:

http://www.algardenia.com/maqalat/14381-2015-01-07-11-38-36.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2313 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع