ولاية الموصل والحقوق الكوردية بعد الحرب العالمية الأولى / الحلقة التاسعة

                                     

ولاية الموصل والحقوق الكردية بعد الحرب العالمية الأولى /ح9


   

                         

               

* قضايا تقف عائقاً أمام التفاهم المشترك والحل للمشكلة الكردية
على الرغم من أن التاريخ الطويل للمسألة الكردية في العراق كان يجب أن يؤدي إلى فهم مشترك وتقارب ما بين العرب والأكراد حول الصيغة الأمثل لحل هذه المشكلة، إلا أن الحقيقة تقول إن هذا الفهم لا يزال ناقصاً لدى غالبية الطرفين.
وبالتأكيد إن القضية الأولى التي تقف عائقاً أمام الحل للمشكلة الكردية هي الإصرار على مسألة الفيدرالية بشكلها الموسع والمفتوح من قبل الأطراف الكردية، في الوقت الذي تقف فيه غالبية عربية موقف المتحفظ أو الممانع لاستخدام التسمية والمتخوف من شكلها الموسع، والذي قد يؤدي في ظل الظروف الحالية إلى تكريس الواقع بوجود إدارتين كرديتين منفصلتين (الحزبين الرئيسيين). وفي ظل غياب الثوابت الوطنية الأساسية مثل وحدة التراب العراقي وعدم تجزئته ورفض الحلول الخارجية، وضرورة التوصل إلى (حلول مشتركة عن طريق حوار وطني شامل وجدي)، وبعد انتخابات حرة ونزيهة وشاملة، وفي ظروف سلمية وطبيعية، وفي (جمعية وطنية) تمثل كل أطياف الشعب العراقي؛ (حيث يتم اختيارهم من قبل الشعب وبالأسماء المفردة وليس قوائم حزبية)، فإن فرض الحلول أو فرض تثبيتها في الدستور سيعرضها للرفض وإلى خلق حالة مستمرة من عدم الاستقرار. ويعتقد البعض أن المشكلة هي ليست بالتسمية وإنما بالمضمون، وإن التحفظ على فكرة الفدرالية جاء بعد أن أصبحت هذه التسمية تستخدم للتدليل على أشياء بعيدة كل البعد عن فكرة الوطن الواحد والشعب الواحد وصالح النضال المشترك. إن (حق تقرير المصير)، هذا الحق الذي يجب أن لا يمارس بصورة اعتباطية، وإنما يجب أن يكون محدداً بمفهوم الشراكة والاتحاد الاختياري وليس القسري وممارسة (حق تقرير المصير) ضمن وحدة العراق، وتوافق الشعب العراقي على حقوق الشعب الكردي، من خلال جمعية تأسيسية وطنية عراقية يتم انتخابها بحرية على أن يكون التأكيد واضحاً على مفهوم الشراكة والاتحاد الاختياري وليس القسري.
كما نرى بأن جميع الأطراف يجب أن تركز الآن على خلق ديمقراطية صحيحة وراسخة في العراق تكفلها القوانين والتشريعات، وأن تكون هناك (تعددية في كل العراق)، سواء الجزء العربي أو الكردي منه، وأن يسمح للجميع بالتعبير عن أرائهم بحرية وبضمانات قانونية، وإن هذه الحرية والديمقراطية، اللتان ستقودان حتماً إلى الرفاه الاقتصادي، هي التي ستوفر الأرضية لحل ناضج ودائم واستراتيجي ومبدئي للقضية الكردية، وهي أهم بكثير من التمسك بكلمات وعناوين قد تقبل اليوم كصفقات سياسية بسبب ظرف ما، ويُتنصل منها غداً عندما يزول هذا الظرف، أو تزول مسبباته. كما أن الوضوح وبُعد النظر والعقلانية ومصالح النضال المشترك في تحديد مسألة الفدرالية أو الاتحادية أو الحكم الذاتي الموسع أو اللامركزية، أمر مهم وحيوي وأساس في حل الخلافات بين الطرفين. ونرى أن الحل يجب أن يقوم على أساس تطوير قانون الحكم الذاتي لكردستان العراق بما يضمن الحقوق القومية والثقافية لإقليم كردستان ضمن إطار وحدة العراق وسيادته، ومناقشة هذه الأمور بروح الحوار والتفاعل مع القوى الكردية ضمن ثوابت الحرص على العلم والسيادة والموارد الطبيعية والسياسة الخارجية والأمن القومي للعراق.
القضية الثانية التي تشكل عقبة أمام الحل هي مسألة كركوك وإصرار شعبنا الكردي على اعتبارها (قدس الأكراد) والتصرف بكونها مسألة حياة أو موت وإلحاقها بمنطقة كردستان العراق، حتى أصبح ما يكتب من الكتاب والباحثين الأكراد عن "الأصل الكردي لكركوك" أكثر مما يكتب عن السبل الكفيلة بإيجاد حل سلمي ودائم ومجمع عليه للقضية الكردية في العراق! وبالتأكيد فإنه في ظل الزهو بما تحقق للحزبين الكرديين الرئيسيين من انتصار ونجاح، بدأ التفكير ينصب على إثبات (كردية) كركوك، وهو حقيقة رغم المحاولات الحكومية بتعريبها وذلك، "بإعادة الطبيعة الديمغرافية في كركوك إلى سابق عهدها قبل التعريب". إن هذا الأمر الذي أثار التركمان والعرب الذين يشتركون في العيش في كركوك، بدأ يخلق حساسيات كبيرة. المطلوب الحوار مع تلك الأثنيات بأنها غير مشمولة بالاجتثاث أو الخوف من الحقائق الكردية لكركوك تاريخياً، ومن المعروف أن جميع القيادات الكردية، الحالية منها والسابقة، كانت قد وافقت على مبدأ (إجراء استفتاء وقبله إحصاء سكاني لمدينة كركوك لتقرير مستقبلها). كما أن المبدأ الأساس الذي يجب أن يتبّع هو إقرار الحقوق القومية الكردية، السياسية والثقافية منها خاصة، وأن هذا الإقرار سيمكن أكراد العراق من التمتع بحقوقهم في كل أنحاء العراق، وهذا هو الأساس والأهم. علماً بأن جميع الاتفاقات التي وُقِّعت ما بين القيادات الكردية والحكومات العراقية المتعاقبة، الذي كان آخرها بيان الحادي والعشرين من آذار/مارس عام 1970 وقانون الحكم الذاتي في 11 آذار عام 1974، وفي المحادثات التي جرت في ما بين عام 1991 وعام 1992، كان قد تم الاتفاق على اعتماد إحصاء سكاني عام 1957، وتعديلات نتائجه بعد ما حدث من اقتطاع أجزاء ذات أغلبية كردية من مناطق كركوك وإلحاقها بمحافظة السليمانية ضمن منطقة الحكم الذاتي وأجزاء أخرى من كركوك إلى محافظة صلاح الدين وديالى، كأساس لتحديد هوية كركوك، ومحاولة التقليل من نسبة الكرد الحقيقية لكركوك.
هناك مسألة تتعلق بهذا الأمر هي مسألة التملك والسكن. ففي كل الدول الديمقراطية لا يوجد ما يعيق أبناء البلد الواحد من التملك والسكن في أي جزء من أجزاء بلدهم. لقد قامت الحكومة العراقية (حزب البعث) بتحديد السكن في بعض المناطق. ومُلَّك أراضي في كردستان العراق إلى عرب. ومع أن هذا العمل لم يؤثر على هوية تلك المناطق الكردية بسبب نسبة الأكراد فيها. (باستثناء ما يقال عن بعض مناطق محافظة كركوك)، مثلما أن إقامة نحو مليون كردي في بغداد لم يؤثر على هوية العاصمة، كما أن إقامة عوائل كردية نزحت إلى مدينة الموصل لم يؤثر على هوية تلك المحافظة العربية، ونرى أن الحل لهذه القضية يكمن في ما يلي:
1.إن من حق أي عراقي أن يتملك ويسكن في أي جزء من أجزاء بلده ووطنه العراق.
2.يحق للأكراد الذين تم تهجيرهم من مدينة ولواء وقرى محافظة كركوك العودة إلى مناطق سكنهم وأراضيهم الأصلية إذا ما رغبوا في ذلك، مع تأمين التعويضات اللازمة للعائدين منهم لتأمين سكنهم أو التعويض لغير الراغبين في العودة عن أراضيهم التي فقدوها.
3.يعطى الخيار للعرب القادمين إلى كركوك وغيرهم الذين تم إسكانهم مدينة كركوك وغيرها في محافظة كركوك لغرض التعريب وتغيير هوية كركوك، أن يختاروا بين البقاء حيث هم أو العودة إلى مناطق سكنهم الأصلية مع التعويضات المناسبة لحل المشاكل الناجمة عن ذلك.

القضية الثالثة الأقل خطورة والتي يمكن تجاوزها بسهولة هي قضية اللغة الكردية وتدريسها. وفي الحقيقة فإن إهمال هذه المسألة من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة قد أسهم في التباعد بين الشعبين العربي والكردي. إذ لا يعقل أن تكون الغالبية العربية جاهلة باللغة الثانية للبلد. إن كل الدول التي تماثل العراق، وضعت برنامجاً دراسياً يمكن الشعب الواحد من التفاهم ما بين شرائحه المختلفة، وبالتالي فإن النظام التعليمي في العراق يجب أن يتبنى خطة لتعليم اللغة الكردية في المدارس العربية وخطة لتعليم اللغة العربية في المدارس الكردية، على أن:
1.تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية في العراق، في ما عدا كردستان العراق حيث تكون اللغتان العربية والكردية هما اللغتين الرسميتين.
2.تنفيذ ما جاء في قانون الحكم الذاتي في الحادي عشر من آذار/مارس عام 1974 حول تدريس اللغة الكردية في المدارس العراقية كافة.
3.أن لا يتم تعيين أي موظف للدولة في كردستان العراق لا يجيد اللغة الكردية تكلماً وكتابةً.
4.أن يكون حق التوظيف في كردستان العراق للعراقيين كافة، وعلى أساس الكفاءة، مع التقيّد بما جاء في الفقرة السابقة بأن يكون ملماً باللغة الكردية.
5.أن يتم تعليم العراقيين الأكراد الذين لم يتعلموا العربية خلال العشرة سنوات الماضية، خلال فترة معينة وضمن ترتيبات عملية ناجحة.
وتبقى هناك مشاكل أخرى متفرقة تتعلق باهتمام كل طرف بالمسائل الحيوية والقضايا الحساسة التي تهم الطرف الآخر. فمثلما يتوجب على العرب العمل على حماية وصياته الحقوق القومية الكردية، فإن الأكراد مطالبون بالوقوف بحزم إلى جانب قضايا العرب الأساسية مثل القضية الفلسطينية ومسألة إنهاء المحاولات الاستعمارية للهيمنة على بلدانهم، كما أن مسألة الحرية وحقوق الإنسان مسألتان لا يمكن تجزئتهما. ولا يكفي أن أقول بأني وفي هذا الجزء قد حصلت على حريتي ولا شأن لي بالجزء الآخر، ولا يمكن أن يقول طرف: إن تعاوني مع هذا الطرف الأجنبي يخدم مصلحتي ولن أكترث بما يفعله هذا الأجنبي بالطرف الآخر، لأن السياسة الخارجية للدولة هي مسؤولية الحكومة المركزية لكن بالتنسيق مع الآخرين. ولا يمكن أن يطالب طرف بالديمقراطية للطرف الآخر في الوقت الذي يقمع فيه الآراء المعارضة له. كما يجب تثبيت وثيقة عهد وشرف تحرِّم التعاون مع القوى الأجنبية والخارجية من طرف دون علم الطرف الآخر. لقد أثبت التاريخ لنا آن الاستعانة بالأجنبي والتعاون معه قد جلب الكوارث على الشعب العراقي بعربه وكرده مثلما جلبت الحلول العسكرية. وربما في الحالة الكردية فإن الإساءة كانت أكبر سواء الاستعانة بالقوى الخارجية أو الحلول العنفية والحربية، وبالتالي فإنه بالتعاون والاتحاد والتضامن والتكاثف الداخلي المخلص والواضح فقط، يمكن أن نصل إلى حلول حقيقية وصادقة لمشاكلنا الداخلية.
وفي هذا الإطار يمكن التحدث بصورة صريحة وواضحة عن ظاهرة مؤسفة بدأت تتفشى بين المتعلمين من الطرفين، ألا وهي التوجهات الشوفينية المتعصبة والاستعلائية، أو ضيق الأفق القومي الرافضة لوجهات نظر الطرف الآخر جملةً وتفصيلاً. والتعصب إلى كل ما هو قومي ضيق واعتبار كل ما هو مطروح من الطرف الآخر سيىء ومبيت وذا مقاصد مشبوهة، حتى قبل التمحص فيه ودراسته. ولعل الحاجة واضحة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى أن يُجري كل طرف تقييماً واضحاً لمواقفه من الطرف الآخر. وأن يكون هناك نقد ذاتي واضح للمواقف الخاطئة ومحاولات لتجسير الفوارق بين الطرفين أكثر من العمل على تعميق الفوارق والتخندق في مواقف متباعدة وإبراز سلبيات الطرف الآخر بدلاً من البحث عن إيجابياته. ولا ينبغي تحميل الطرف العربي مسؤولية ما قامت به الحكومات المتعاقبة، مثلما لا ينبغي أن يتحمل الشعب الكردي بعض أخطاء قياداته إن وجدت.
إن النخب المثقفة والسياسية في الطرفين مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالمبادرة في هذا المجال والسعي الحثيث إلى تحقيق هذا الإنجاز التاريخي، وذلك بوضع برنامج كامل توافقي يتفق عليه الطرفان لحل كل الخلافات في إطار الشعب الواحد والبعيد عن التدخل والتأثير الخارجيين.

* ملاحظات ختامية (لما ذكر أعلاه):
إن كل ما قيل أعلاه يجب أن يوصلنا إلى الاستنتاجات الأربعة الرئيسية التالية التي يجب أن تكون راسخة في الذهن عند الحديث عن إيجاد حلٍ عادلٍ ودائمٍ للمشكلة الكردية:
1.إن الحقوق القومية الكردية المشروعة لا غبار عليها ولا يمكن الالتفاف حولها، وأن هناك حاجة ماسة لتفهمها واستيعابها والعمل على تثبيتها في دستور دائم وبصورة صريحة، وذلك بتوافق ممثلي الشعبين العربي والكردي وفي ظروف سلمية وطبيعية.
2.إن الفشل الحكومي في إيجاد حل سلمي ودائم للمشكلة الكردية ساهم في تعقيد المشكلة والأخطر في ذلك هو تعقيد العلاقة بين الشعبين العربي والكردي، وساهم في فسح المجال إلى التدخل الأجنبي في المشكلة واستغلالها ضد مصلحة الشعبين الكردي والعربي.
3.إن التدخل الأجنبي في العراق لإيجاد الحلول لها ساهم في تمزيق البلد واستنزاف ثرواته وفي وضع العقبات أمام التطور الديمقراطي. كما أن هذا التدخل ظل مرتبطاً بالمصالح الخارجية، وفي كل حالاته السابقة فإنه انتهى بالتضحية بالشعب الكردي خاصة، وبالشعب العراقي عامة، وبعد أن يكون الطرف الأجنبي قد ساوم وحصل على مبتغاه من الأطراف الحاكمة.
4.إن السبب الرئيسي الذي يقف عائقاً أمام حل المشكلة الكردية هو ضيق الأفق الذهني والتعصب في القيادات العربية والكردية، وعدم مرونتها وخاصة الجانب الحكومي لأنها تملك القوة ويمكن فرضها على الشعب الكردي. لقد نهج الطرفان الحكومي والقيادي الكردي نهجاً اتسم بالمصلحية في أغلب الأحيان، وكان كل طرف يتحين الفرص بالطرف الآخر لكي يوقعه، وخاصة الجانب الحكومي بسبب قوته وجبروته، وإذا ما شعر بأنه في مركز قوة فإنه لا يأبه بما يطالب به الطرف الأضعف، وإذا ما شعر بضعف فإنه يندفع للتقارب مع الطرف الآخر الذي يكون بدوره قد شعر بضعف غريمه المقابل لكي يتصلب هو في مواقفه. كما حدث في حرب الكويت عام 1991 ومأساتها التي لازالت في أذهان الكثيرين، وعدم قبول الرئيس صدام حسين لحدود الحكم الذاتي بعد أن شعر أن كركوك ستكون ضمن الإقليم الكردي. ولعل الشعور بالمرارة أن أغلب الاتفاقات التي وقعت كانت توقع وفي ذهن غالبية موقعيها الخطط للانقضاض عليها عند الحاجة وليس لتطبيقها والالتزام بها وخاصة الجانب الحكومي لأنها تعتبر نفسها في مركز الأقوى.

وأخيراً وليس أخراً فإن أي حل يُراد له أن يكون دائماً ومقبولاً وعادلاً، يجب أن يعتمد على الحوار المباشر ما بين الأطراف المختلفة، وفي هذه الحالة ما بين الشعب الكردي والشعب العربي في العراق. وإن الدخول إلى هذه الحوارات يجب أن يكون بعقول مفتوحة ونيِّرة ومن دون أية شروط مسبقة ومن أشخاص يشهد لهم بعدم التعصب القومي ومعروفين بحبهم لوطنهم ومصالحه ومستقبله. كما يجب أن يتذكر الجميع أن حوار لمدة سنة هو أفضل بكثير من اقتتال أسبوع أو حتى أقل من ذلك.

1- مشكلة الأكراد في ولاية الموصل
بعد ضم ولاية الموصل بالعراق صارت هذه الدول العربية تحتوي على أقلية لغوية وقومية وهم الأكراد تبلغ نسبتهم نحو 22% من السكان وتتمثل في (5-8) مليون من الأكراد الذي تدين غالبيتهم العظمى بالإسلام السني ولا يختلفون عن بقية سكان العراق الحديث إلا من حيث لغة الحديث اليومي وعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية. واللغة الكردية من مجموعة اللغات الآرية إلا أنها مثل لغات كثيرة من الشعوب الإسلامية تأثرت بالعربية وطالما كانت الرابطة الدينية هي التي تجمع بين رعايا الدول الإسلامية السابقة لم تعرف مشكلة كردية، وإنما ظهرت هذه المشكلة مع انتشار المبدأ القومي في الشرق وفي نفس العام الذي تكونت فيه الجمعيات القومية العربية ظهرت أيضا جمعيات قومية كردية سنة 1908 مثل جمعية (تعالى وترقى) الكرد كما روج الطلبة الأكراد في استنابول للفكرة القومية الكردية.
ولما هزمت الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى عام 1918م تطلع الأكراد مثل باقي جنسيات الإمبراطورية الأخرى إلى إنشاء دولة قومية كردية مستقلة لهم( )، غير أن الأكراد اصطدموا بتعصب الحلفاء الأرمن المسيحيين، فقد وعد بعض زعماء الدول الكبرى الأرمن بإنشاء دولة كبيرة تمتد من بحر قزوين حتى البحر المتوسط وتشمل أرضروم وبتليس وديار بكر مع أن هذه المناطق تسكنها أغلبية من الأكراد. لذلك نشط زعماء الأكراد في (مؤتمر الصلح) وقدموا المذكرات العديدة وحاولوا الاتصال بالأرمن للاتفاق على تقسيم الأوطان المتداخلة وفي (معاهدة سيفر عام 1920م) وافقت الدولة العثمانية على أن يقيم الأكراد حكومة مستقلة استقلال ذاتيا في كردستان العراق وجزء من جنوب الأناضول وشمال شرق سوريا مع استمرار السيادة العثمانية وقد ذهب هذا المشروع مع كثير من بنود (معاهدة سيفر) التي نجح مصطفى كمال أتاتورك في إبطال مفعولها وخاصة في (مؤتمر لوزان عام 1923م). إن ما أردنا الوصول إليه، أنه لم يكن هناك صراع بين (الأكراد والعرب) خلال السنوات القليلة التي تلت الحرب العالمية الأولى إذ لم يتقرر بعد مستقبل ولاية الموصل واستمر بعض أبناء الأسر الكردية الكبيرة في التمتع بالنفوذ التام أشبه بالحكام الإقطاعيين في المناطق التي يقطنونها.
وقد تعاون الشيخ محمود الحفيد احد أفراد الأسرة البرزنجية ذات النفوذ الكبير في السليمانية مع الإنجليز باعتبارهم المنتصرين في الحرب فعينه هؤلاء حاكما للسليمانية وتركوا بجانبه مستشاراً إنجليزياً وكان من الطبيعي أن يحدث صدام بين هؤلاء الحكام الإقطاعيين وبين ممثل الإدارة الحديثة.
وتميزت السياسة الإنجليزية بالتقلب إزاء الأكراد في كردستان العراق، فهي حينما تصطدم بالهاشميين حكومة بغداد الحديثة في بغداد تتقارب من الأكراد وتستفيد من إثارتهم على حكومة بغداد. حدث ذلك مثلا سنة 1922 أثناء التفاوض على (المعاهدة الانجليزية العراقية الأولى) ولما رضخت الحكومة العربية في بغداد على المعاهدة صارت بريطانيا تؤيدها وتعينها على (قمع الحركة الكردية في كردستان العراق). وقد اشتمل (صك الانتداب على العراق) تعهدا باحترام حقوق الأقليات ثم تأكد هذا التعهد حينما وافقت (عصبة الأمم) في ديسمبر عام 1925م على ضم (ولاية الموصل للعراق) وخططت الحدود بصورة نهائية بينه وبين تركيا. وباستقرار وضع ولاية الموصل صار الإنجليز أكثر ثباتا في تأييد حكومة بغداد عسكريا ضد ثورات الأكراد باستثناء فترات قصيرة من التوتر في العلاقات بين العراق والإنجليز. ففي عام 1926 أعلن الشيخ محمود الحفيد البرزنجي نفسه ملكا على كردستان وذلك في أعقاب قرار (عصبة الأمم). واستطاع الجيش العراقي وبمساندة بريطانيا التغلب على هذه الحركة الكردية. وأخذ على الشيخ محمود الحفيد تعهدا بمغادرة البلاد مع التوقف عن أي نشاط سياسي في الخارج وفي مقابل ذلك ردّت إلى الأسرة أملاكها الشاسعة. واستقر الشيخ محمود الحفيد بإيران حتى عام 1930 حينما قام بآخر ثورة وانتفاضة كردية ضد حكومة بغداد. ويقال أن تدبير هذه الحركة والثورة كان المقصود بها إحراج العراق الذي تأهب للانضمام إلى عصبـة الأمم حتى يتمكن من أن يحصل على الاستقلال أو الحكم الذاتي للأكراد.
فقد انتهز الأكراد هذه الفرصة لكي يطالبوا عصبة الأمم بالاستقلال لكردستان أسوة بالآخرين فلم تستجب لهذا الطلب واكتفت بالإيضاحات التي قدمها العراق عن مراعاته حقوق الأقليات. ومن المعروف أن أقليات أخرى غير الأكراد أثارت اضطرابات ولاسيما الآثوريين في الثلاثينات وهم يقدرون بنحو 90 ألفاً يتزعمهم رئيسهم الديني (المار شمعون)، كانت هذه الأقلية المسيحية أقل ولاء للحكومة المركزية من الأكراد وبعد قمع حركة الآثوريين غادر كثير منهم إلى سوريا.
ما هي كانت دوافع الزعماء الأكراد لنبذ سلطة الدولة العراقية؟ إن المجتمع الكردي يخضع في ذلك الوقت للنظام القبلي وزعماؤه أشبه بإقطاعيين يثورون ضد أية حكومة مركزية للحصول على مكتسبات قومية لشعبهم الكردي، وأحيانا يتخذون الدين عاملا إضافيا لاكتساب ونجاح ثوراتهم، ومن هؤلاء (الملا احمد البارزاني) الذي ينتمي إلى أسرة صوفية وقد استفاد من موقع بلدته برزان التي تقوم وسط جبال شيرين، وقد شارك البرزانيون والزيباريون في ثورة سنة 1920 العراقية وجميعهم من الأسر المتنفذة والإقطاعية الكردية، كما قاوم الملا احمد البرزاني مدّ الإدارة الحديثة إلى بلاده، وبالتدريج آلت الزعامة القبلية والثورية إلى أخيه (الملا مصطفى البارزاني) الذي جعل من السليمانية مقر المعارضة الكردية. وفي سنة 1936 ألزم بالإقامة الجبرية في مدينة السليمانية. وانتظر (الملا مصطفى البارزاني) أول فرصة للوثوب من جديد والبدء بثورته الكردية للحصول على حقوق قومية لشعبه الكردي على حكومة بغداد الواقفة ضد ذلك، ولاحت هذه الفرصة بعد فشل الحركة الوطنية (حركة رشيد عالي الكيلاني) لسنة 1941. وما تلاها من تسريحات وتقليص كبير في الجيش العراقي وكأن حكومة بغداد شعرت بما أصابها من ضعف فعينت أحد الأكراد وهو (ماجد مصطفى) وزيراً للدولة وكلفته بالتفاوض مع (الملا مصطفى البارزاني) سنة 1944 وبالرغم من أنه استطاع إقناع الزعيم الكردي بالإقامة في بغداد إلا انه بمجرد عقد هذه المفاوضات رفع (الملا مصطفى البارزاني) من رئيس عشائري إلى زعيم كردي قومي يمثل شعبه الكردي، فأعطى للحركة صورة جديدة وفي نفس الوقت شرعت الحكومة العراقية في تنفيذ ما اتفق عليه من زيادة نسبة الأكراد في المناصب الإدارية بينما لم ينفذ الأكراد من جانبهم التعهد بتسليم ما لديهم من سلاح والسبب إما حبهم لحمل السلاح أو عدم الوصول إلى قناعة لديهم بصدقية الحكومة لهم. وقد لوحظ أن بعض الضباط الأكراد تـرك الخدمة وانضم إلى الثوار الأكراد والحركة الكردية وهؤلاء يشكلون عنصرا جديدا يختلـف عن الزعماء القبليين وكان له تأثيره في تقوية الحركة الكردية ومفهومها الثوري( ).
في هذه الأثناء كان السوفيت يحتلون شمال إيران، وقد عرف عن الروس الميل إلى تأييد قيام دولة كردستان استجابةً للحركة القومية الكردية، فالشيوعيون ليس أكثر الناس تحمسا للمبدأ القومي، وإنما رأت حكومة موسكو أن تشجيع تشكيل مثل هذه الدولة سيضع العراقيل في وجه بريطانيا إذ ستحدث خلخلة في كثير من بلدان الشرق الأوسط مما يفتح أمام السوفيت منفذا للتسرب نحو الجنوب، ذلك أن الأكراد لا يتجمعون في منطقة جغرافية محددة بل يشكلون أقليات كبيرة متناثرة داخل كل من إيران وتركيا والعراق كما توجد أقليات متناثرة بسيطة في داخل أراضي الاتحاد السوفيتي وفي سوريا، فإذا تمكن الأكراد من إقامة دولة قومية في احد تلك الأقطار تأثرت الأقطار الأخرى بها، وكان يهم السوفيت في أعقاب الحرب العالمية الثانية عام 1945م وضع العقبات أمام الإنجليز وتركيا الضالعة والمتعاونة مع الغرب. وقد سبق لمصطفى كمال أتاتورك في بدئ حركته الوطنية أن تعاون مع الأكراد لطرد اليونانيين، ثم انقلب عليهم بعد إتمام مهمته وانتصاره على اليونانيين بسبب دعم الأكراد له وعقد (معاهدة لوزان عام 1923م)، واتبع مع الأكراد أشد وسائل العنف حتى شتتهم في الأناضول وقضى على المشكلة الكردية تقريبا في بلاده. وفي إيران يشكل الأكراد أقلية هامة في أذربيجان وفي أثناء الاحتلال السوفيتي لهذه المقاطعة أقيمت حكومة محلية شيوعية برئاسة (جعفر بشوارى) وأقنع السوفيت حليفهم بالسماح للأكراد لكي يقيموا جمهورية قومية مستقلة عرفت باسم (جمهورية مهاباد عام 1946).
ويقال أن خطة إقامة هذه الجمهورية مهاباد وضعت في مؤتمر الأحزاب الشيوعية الشرقية الذي انعقد في باكو نوفمبر سنة 1945 وقد أغرى قيام هذه الجمهورية (الملا مصطفى البارزاني) الزعيم والمناضل الكردي بتوسيع حركته فالتجأ إليها لغرض تقويتها ونجاحها، حيث أخذ يجدد الدعوة لإقامة دولة كردستان التي تضم شتات الأكراد في كل من إيران والعراق وتركيا. ومن المعروف أن هذه الجمهورية (مهاباد) زالت نهاية عام 1946 مع سقوط حكومة أذربيجان الشيوعية واسترداد حكومة طهران سلطتها في المنطقة الكردية بعد انسحاب السوفيت من شمال إيران نهاية سنة 1946. وفي نفس الوقت اشتد ضغط الجيش العراقي بمساندة بريطانيا في كردستان العراق وتمكن من إعادة النظام إلى المنطقة مما اضطر (الملا مصطفى البارزاني) إلى اللجوء عدة سنوات للاتحاد السوفيتي حيث لقي ترحيبا شديدا ومنح رتبة الجنرال وسمح السوفيت ببث الدعاية للحركة الوطنية الكردية من أذربيجان السوفيتية حيث تعيش أقلية كردية.
هناك إذن شواهد عديدة على تأييد السوفيت لحركات الأكراد في كردستان العراق، يضاف إلى ذلك موقف الحزب الشيوعي العراقي من القضية، ومع ذلك فإن الكتاب الرسمي الذي أصدرته الحكومة العراقية عن القضية في سنة 1961 أي في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم قد حمّل الانجليز مسئولية العصيان بما في ذلك عصيان سنة 1944، سنة 1945، الذي يعد نقطة بداية في تاريخ الحركة الكردية إذ تحولت ومعها الشعب الكردي من مجرد شغب وتمرد قبلي إلى ثورة كردية عامة. ومن الجائز أن يكون الانجليز قد شجعوا الأكراد بعض الوقت ثأراً لحركة رشيد عالي الكيلاني سنة 1941 الوطنية، ولكن من المستحيل أن يستمروا في اللعب بهذه الورقة التي قد تؤدي إلى انفصال ولاية الموصل وبالتالي ضياع مصالح شركة نفط العراق. وقاد إلى تبادل رسائل بين (الملا مصطفى البارزاني) وبين (أدمونز) مستشار وزارة الخارجية البريطانية( ). حيث دلّت الرسائل إلى أن الانجليز كانوا يرغبون في الاحتفاظ بخط الرجعة أو الضغط على الحكومة العراقية حتى لا تطالب بتعديل اتفاقيات البترول. والثابت أن موقف الانجليز كان أميل إلى تأييد حكومة بغداد طالما أن هذه الحكومة متحالفة معهم، ولذلك سيتبدل الوضع بعد سنة 1958. وعندما يميل السوفيت للحركة الكردية فذلك لا يعني بالضرورة أنها تقدمية، كما أن مساعدة الانجليز لحكومة بغداد في قمع هذه الحركة الكردية لا يعني بالضرورة أن الأكراد هم الذين وقفوا في وجه الاستعمار، كما يصور بعض الوطنيين الكرد. ومن الجائز أن تكون هناك عوامل سخط داخلية، وان الدول الأجنبية استفادت من الحركة الكردية حسب مصالحها وفي الوقت الذي يناسبها.
2- البحث عن الحلول للمشكلة الكردية
اتبع عبد الكريم قاسم سياسة جديدة نحو الأكراد فقد سلم لهم في صلب الدستور المؤقت عام 1958 بحقوق إدارية وثقافية للقومية الكردية. وأفسح المجال للأكراد لتكوين أحزاب سياسية تنادي بالحقوق القومية الكردية، كما أصدر عفواً عن (الملا مصطفى البرزاني) وتركه يعود إلى العراق بعد سنوات طويلة من المنفى وهو مصدرهُ بالمال والسلاح. ويتهم القوميون عبد الكريم قاسم بأنه أغمض عينيه عن المغامرين الذين أرسلهم السوفيت سنة 1959 تحت ستار لاجئين يرغبون في العودة إلى أوطانهم، وبالإضافة إلى ذلك استعان عبد الكريم قاسم بالأكراد لقمع حركة العقيد  الركن عبد الوهاب الشواف في مدينة الموصل عام 1959م مما شجعهم على الإسراف في مطالبهم. وظن اليساريون أن تشجيع الأكراد يتمشى مع مبدأ التسامح القومي وأن معارضتهم تنبثق من التطرف القومي العربي. وقد صرح حزب البارتي (الديمقراطي الكردستاني) بمبادئه منذ أكتوبر سنة 1959 وهي تدعو إلى (الحكم الذاتي) وإقرار ذلك في الدستور الدائم، وحق الأمة الكردية في تقرير مصيرها وتأييد الأكراد خارج العراق. ولعل ما قرب بين اليساريين وبين حركة الأكراد هو ما صرح به الحزب الديمقراطي الكردستاني من انه يستمد عقيدته السياسية من الماركسية اللينينية وانه يقبل مبدأ وحدة الوطن العراقي طالما أن حكومة بغداد تتبع سياسة تقدمية وإلا فإنه يفضل الانفصال.
أوقف الحزب الديمقراطي الكردستاني عملهُ شأنه في ذلك شأن الأحزاب الأخرى، ومن الطبيعي أن يكون الأكراد أكثر حساسية نحو مواقف هذا الحزب وكأن عبد الكريم قاسم بعد أن فتح الباب لتطور الوطنية الكردية لم يستطع إيقافها عند الحد المقبول – ثم أن علاقاته السيئة مع جيرانه إيران وتركيا قد عزلتهُ بعيداً ولاسيما بعد أن جددّ العراق المطالبة بعربستان الواقعة شرق شط العرب، وجعل حكومة إيران تؤيد علنا حركة العصيان في كردستان العراق. وربما تلقى الأكراد تأييدا في هذه الحقبة من كلا المعسكرين السوفيتي والغربي. ذلك هو ما نشرهُ كتاب في تشيكوسلوفاكيا يؤيد إقامة دولة كردية، إلا أن الزعماء الأكراد ينفون وجود مؤثرات خارجية.
ويذكر الكرد أن معظم الأسلحة التي حصلوا عليها إنما تسربت من الجيش العراقي أو سقطت في أيديهم أثناء القتال. وفي 24/5/1961م أعلن (الملا مصطفى البارزاني) أن عبد الكريم قاسم مسؤول عن التوتر لأنه لم ينفذ الوعود الخاصة بالحقوق القومية للأكراد، وهي حقوق سياسية واجتماعية واقتصادية مشروعة للشعب الكردي في إطار الجمهورية العراقية. والمقصود بالحقوق الاقتصادية تخصيص جزء كاف من دخل البترول لإعمار كردستان العراق وتحسين طرق مواصلاته حيث أن تجارة العراق تحولت إلى البصرة. ويرى الأكراد أن وجود معظم آبار البترول في ولاية الموصل يجعلهم أصحاب حق في نسبة كبيرة من هذا الدخل.
اضطر الزعيم الركن عبد الكريم قاسم إلى عقد مفاوضات مع الملا مصطفى البرزاني وفي أثناء تلك الاتصالات طالب الأخير تقديم رهائن ضمانا لتنفيذ الاتفاق، حينئذ قرر عبد الكريم قاسم أن يستخدم القوة وصار واقعا بين نارين: حاجته إلى الجيش للمحافظة على نظامه المزعزع في الداخل، واتساع حركة الانتفاضة والثورة الكردية وهذه المرة بشكل لم يسبق له مثيل. حتى يقال أن نصف (ولاية الموصل) تقريبا قد وقعت في يد الثوار الأكراد (البيشمركة). كذلك اتسعت الحركة الكردية من الناحية السياسية، فطلب احد الزعماء الأكراد وهو الأمير "بدرخان" عرض القضية الكردية على الأمم المتحدة. وفعلت الأحزاب الشيوعية الشرقية في (باكو السوفيتية) فعلها المؤثر عندما عارضت صراحة مبدأ انفصال الأكراد، وهيأت للأكراد إرسال مبعوثين إلى بعض الدول العربية ومنها الجمهورية العربية المتحدة (المصرية) التي تفضل دائما الوقوف موقفا سلبيا من هذا الموضوع، قبل لقاء السيد جلال الطالباني مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر عام 1963.
وعلى أثر الإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم في شباط عام 1963 بادرت الحكومة العراقية الجديدة إلى تشكيل وفدا للتفاوض مع الأكراد على أمل أن توفق فيما فشلت فيه الحكومة العراقية السابقة، ووجه الوفد العراقي بمطالب تدل على أن الحركة الكردية صارت أكثر طموحاً: الاعتراف فورا بالحكم الذاتي والنص على ذلك في صلب الدستور المنتظر وتبليغ صورة من هذا الدستور إلى هيئة الأمم المتحدة على أن يمثل رئيس الجمهورية نائب كردي عنه في كردستان العراق حيث يتكون مجلس وزراء محلي بالإضافة إلى مجلس وطني منتخب. وتبقى الخارجية والمالية من اختصاص الحكومة المركزية ويشترك عدد مناسب من الوزراء الأكراد في الحكومة المركزية. كما يخصص عدد مناسـب من المقاعد في المجلس الوطني المركزي وفي الجيش والشرطة. وتصبح اللغة الكردية لغة أولـى في كردستان، وقدم الوفد الكردي مفهوما جغرافيا موسعا لكردستان العراقية. وأعتقد أنها حقوق مشروعة لشعب يناضل من أجل الوصول إلى حقوقه القومية والوطنية.
توقف القتال بضعة أشهر أثناء انعقاد هذه المباحثات. وقد أرادت الحكومة العراقية أن تعطي لوفدها ثقلا بحيث تمثل بعض الهيئات الشعبية، ومن بينهم من يرجع إلى أصل كردي غير أن ذلك لم يؤثر على زعماء وقادة الحركة الكردية. وقد استمروا على مطالبهم المشروعة وإلى حد أنهم طالبوا بأن يمثلوا على حدة في مباحثات الوحدة الثلاثية التي جرت في أبريل عام 1963 بين العراق ومصر وسورية، وحضر (جلال الطالباني) إلى القاهرة ممثلا عن الأكراد ونقل وجهة نظرهم إلى الحكومات العربية الثلاث المشتركة في تلك المباحثات. وخلاصتها أن الكرد لا يعرقلون إرادة الشعب العربي في الوحدة إلا انه يجب تمثيلهم في الدولة الجديدة الموحدة. فإذا بقي النظام في العراق دون تغيير يقتصر بيان الحكومة بشأن الحقوق القومية للأكراد على أساس (النظام اللامركزي) أما إذا انضم إلى اتحاد عربي كبير، فحينئذ يتوجب منح الأكراد حكما ذاتيا على نطاق أوسع.
لم تكن مطالب الأكراد مقبولة من الجانب الحكومي علماً أنها مشروعة بأية حال، ولذلك استؤنف القتال في يونيو عام 1963 واتهمت الحكومة (الملا مصطفى البرزاني) بأنه لا يمثل مجموع الشعب الكردي (علماً كان الملا مصطفى البارزاني الزعيم الوحيد والمؤيد من الشعب الكردي)، وعللت الحكومة الحركة الكردية الجديدة تارة بتدخل الشيوعيين وتارة بالنزعة الإقطاعية بينما اتهم الأكراد نظام البعث في العراق بأنه قومي عربي متطرف يحرم الأقليات غير العربية من حقوقها المشروعة. وعندما استبعد البعث من السلطة في 18 تشرين الأول 1963م قام عبد السلام عارف بتجربة جديدة لتهدئة كردستان العراق فأصدر بيانا في 10 شباط/فبراير سنة 1964 يقر الحقوق القومية الكردية. للأكراد ضمن الوحدة العراقية إلا انه تعذر تحديد النتائج المترتبة على تلك الحقوق القومية الكردية هل يعني نظام اللامركزية الذي تقبله حكومة بغداد أم الحكم الذاتي الذي يصل إلى مجرد اتحاد فيدرالي بين المناطق الكردية التي توسع الوطنيون الأكراد في مفهومها وبين بقية أنحاء العراق.
وخلال العامين التاليين شهد العراق أشد مراحل الصراع في كردستان العراق عنفا، وتنوعت المصادر الخفية التي تزود الأكراد بالسلاح إلى أن تم الاتفاق في حزيران/يونيو سنة 1966 على حلول بشروط وسط. فوافقت الحكومة العراقية على نظام اللامركزية في إدارة كردستان العراق، وخصصت جزءاً من ميزانيتها لإعمار المنطقة الكردية كما أيدت إنشاء جامعة كردية في السليمانية ومساهمة الأكراد بنصيب أكبر في الوظائف المدنية، بعبارة أخرى سلمت بالاستقلال الإداري للمناطق الكردية في مقابل أن يسلم الأكراد سلاحهم، ومن الصعب الحكم على مدى نجاح هذا الاتفاق والدقة في تنفيذه، وإن كانت الأحوال قد هدأت من الناحية العسكرية منذ توقيعه.
ولكن لماذا صارت القضية الكردية (مشكلة مزمنة في العراق) بينما لا نكاد نلمسها في تركيا وإيران مع أن الأكراد في تركيا يزيدون على (20-25) مليون ويشكلون 46% من مجموع الأكراد كما أنهم يبلغون في إيران (12-15) مليون ويمثلون 30% أما في العراق (5-6) مليون وتبلغ نسبتهم 20%، ربما يرجع ذلك إلى الطريقة التي عولجت بها مشكلة هذه الأقلية الكردية في الأقطار الثلاثة. ففي تركيا عمدت حكومة مصطفى كمال أتاتورك إلى تهجير الأكراد بحيث لا يتمركزون في منطقة واحدة وحرصت على إدماجهم في البيئة التركية.
كذلك اتبعت حكومة إيران وسائل أقل تسامحاً لإدماج الأقلية الكردية في المجتمع الإيراني والأكراد مسلمون سنيون يتزاوجون مع العرب في العراق وكثيرا ما يتعذر تحديد مفهوم من هو الكردي، وكان ذلك من الأسباب التي عقدت المباحثات بين الأكراد والحكومة العراقية وإذا كان مفهوم الكردي يقوم على أساس العرق أو الدم فيمكن القول بأن الأكراد يمثلون نسبة في الجيش تفوق نسبتهم العددية سابقاً وفي الوقت الحاضر عكس ذلك.
كما أن بعضهم مثل (الفريق الركن نور الدين محمود) الكردي وصل إلى منصب رئيس الوزراء في بغداد وأيضاً (نوري سعيد باشا) رئيس وزراء عدة مرات إلى نائب الرئيس كما هو الحال بالنسبة (لأحمد مختار بابان) و(جعفر العسكري) وزير الدفاع ورئيس الوزراء و(سعيد قزاز) وزير الداخلية، و(الفريق الركن بكر صدقي) رئيس أركان الجيش وغيرهم كثير. ومن المؤكد انه لا توجد خطوط واضحة حاسمة تميز بين العرب والأكراد ونتساءل في النهاية هل من مصلحة الأكراد أن يتمسكوا بلغتهم الكردية ويتعلموا اللغة العربية أيضاً حتى يتم لهم معرفة ودراسة مختلف العلوم والآداب فهي تفتح أمامهم مجال أوسع للاتصال بالثقافة العالمية ولكن في نفس الوقت لا يجوز أن ينسوا لغتهم الأم، وتحسن المقارنة في هذا المجال بين موقف الأكراد والبربر في المغرب العربي الذين يتقبلون اللغة العربية كلغة ثقافة وتعليم رغم أنهم يستخدمون في الحياة اليومية لغة ولهجات مختلفة خاصة بهم.

الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي

للراغبين الأطلاع على الحلقة الثامنة..

http://www.algardenia.com/maqalat/14498-2015-01-14-21-51-35.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3483 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع