ولاية الموصل والحقوق الكردية بعد الحرب العالمية الأولى / الحلقة 11
* الخلفية التاريخية لمشكلة ولاية الموصل
عندما توقفت الحرب العالمية الأولى عام 1918م كانت الجيوش البريطانية تقف على مشارف مدينة الموصل وتبعد عنها نحو أثني عشر ميلاً (عشرين كيلومتراً) وفي ذات الوقت وقع الأتراك وممثل عن الحلفاء هدنة "مودروس" في الثلاثين من تشرين الأول عام 1918، وصارت نافذة منذ ظهر اليوم التالي بحسب التوقيت المحلي، في الوقت الذي لا تزال الحامية التركية ترفع العلم العثماني فوق بلدية مدينة الموصل. وفي 2 تشرين الثاني 1918 وصلت تعليمات من القيادة البريطانية العليا إلى قائد الجيش البريطاني السير وليام مارشال "Sir. W. Marshal" تطلب منه احتلال ولاية الموصل كلها، أي المناطق الأخرى الملحق بها، ولما كانت القواعد التركية موجودة، وطلب من الأتراك عن مدينة الموصل والقصبات والمدن التابعة لها. وفقاً للمادتين 7، 16 من بنود هدنة "مودروس". رفض الجنرال (إحسان باشا) قائد الجيش التركي الانسحاب من مدينة الموصل لعدم استلامه تعليمات من حكومته، غير أن الجيوش البريطانية دخلت مدينة الموصل عنوة وأكملت احتلالها لغرض سياسي واقتصادي مبرمج من وقت سابق، أما الجنرال (علي إحسان باشا) فقد اتصل بحكومته (تركيا) يطلب تعليمات منها، فأبرقت له اسطنبول بإخلاء مدينة الموصل وتسليمها للبريطانيين وترك المدنيين يعملون في الدوائر باسم الدولة العثمانية، وفي 5 تشرين الثاني عام 1918م انسحب القائد التركي وترك وكيله في الموصل( ).
وفي (مؤتمر لوزان الأول) الذي عقد في تشرين الأول عام 1922 طرحت مشكلة ولاية الموصل للمناقشة وتقدم الطرفان التركي والبريطاني بمذكرات احتوت على حجج الطرفين وكل واحد منهما يؤكد أحقيقته بولاية الموصل، وقد طرح على بساط البحث موضوع إجراء استفتاء لسكان ولاية الموصل، إلا أنهم في النهاية لم يتوصلوا لحل مشترك( ).
وفي (مؤتمر لوزان الثاني) المنعقد في آذار 1923 عرضت مشكلة الموصل مرة أخرى واتفق الطرفان على تحديد المناطق الحدودية بين العراق وتركيا على وفق ما جاء بالفقرة الثانية من المادة الثالثة، من (معاهدة لوزان) التي نصت على أن يعين خط الحدود بين البلدين بترتيب ودي بين تركيا وبريطانيا العظمى خلال تسعة أشهر، وإذا لم يتوصلا إلى اتفاق بينهما خلال تسعة أشهر فيرفع النزاع إلى (مجلس عصبة الأمم)، وحتى يحين موعد التوصل إلى قرار بشأن النزاع تتعهد الحكومتان بأن لا تحدث أية حركة عسكرية أو غير عسكرية قد تغيّر بطريقة ما الحالة الراهنة في الأراضي التي يتوقف مصيرها النهائي على ذلك القرار( ).
وبعد تسويفات اتفق الطرفان إلى عقد (مؤتمر في القسطنطينية) في 19 مايس 1924 لمناقشة المشكلة ورأس الوفد البريطاني (السير برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني في بغداد، ورافقه طه الهاشمي رئيس أركان الجيش العراقي بصفة مستشار( ). إلا أن المفاوضات تعثرت ولم تسفر عن أية نتيجة أيضاً، وصرح (السير برسي كوكس) بأن الحكومة البريطانية وحدها سترفع الموضوع إلى مجلس عصبة الأمم وهكذا انتهى (مؤتمر القسطنطينية)( ).
ولما عرضت المشكلة على (مجلس عصبة الأمم) قرر المجلس في 30 أيلول 1924 تأليف (لجنة تقصي الحقائق) لـ (تحقيق في مشكلة ولاية الموصل) وتقديم توصية إلى المجلس. واجتمع أعضاء اللجنة (لجنة تقصي الحقائق) في جنيف يوم 17 تشرين الثاني عام 1924. وقررت اللجنة أن تذهب إلى المنطقــــة (ولايــــة الموصل) لإنجاز عملها بعد أن درســــت محاضرة جلسات (مؤتمر لوزان) و(مجلس العصبة)، و(الوثائق الأخرى) التي قدمتها الحكومتان التركية والبريطانية( ). وفي بغداد وضع (السير هندري دوبس) المندوب السامي البريطاني الجديد بدل برسي كوكس في العراق تحت تصرف (الجنرال يوهنا ليدونز "Johan Ladonz") رئيس البعثة، كل المراسلات والوثائق الأخرى المتعلقة بالحوادث التي وقعت، مع أجوبة الحكومة البريطانية على الاحتجاجات التركية( ). ثم سافرت بعثة (الجنرال يوهان ليدونزر) إلى مدينة الموصل فوصلتها في 30 تشرين الأول 1925، وبحثت في ظروف الحوادث وحصلت على معلومات أخرى من السلطات البريطانية والعراقية المحلية. ثم توصلت البعثة إلى نتائج ضمنتها في التقرير الذي رفعتها إلى مجلس عصبة الأمم، وقدم التقرير أمام مجلس العصبة( ) وارتأت فيه لظروف وأسباب ومسوغات موضوعية إبقاء الولاية (ولاية الموصل) ضمن سيادة العراق( ).
وإزاء التقرير الذي قدمته اللجنة (لجنة تقصي الحقائق) وتقرر الموافقة على ما جاء بمقترحاته والمصادقة عليه، وعدّت ولاية الموصل جزءاً لا يتجزأ من العراق الحديث. وقد قوبل القرار الذي اتخذه مجلس عصبة الأمم من قبل الشعب العراقي بمزيد من الاستحسان، وتقدمت الحكومة العراقية ببرقية شكر إلى سكرتير مجلس العصبة لمناسبة صدور القرار الذي أفضى إلى حسم موضوع الحدود بين العراق وتركيا( ).
* القضية الكردية في العراق
وهي من أعقد المعضلات وأشدها تشابكاً في تاريخ العراق وخاصة تاريخه الحديث. وقد كانت هذه القضية الكردية ولا تزال "تحتل مكاناً بارزاً في هذا التاريخ، وخاصة بعد أن برزت بشكلها الواضح بعد تأسيس الدولة العراقية. وهي من المسائل التي كثر الصراع السياسي بسببها بين مختلف القوى السياسية، واختلفت وجهات النظر حول طرق حلها"( ). أن هذه المكانة البارزة التي تحتلها المسألة الكردية قد أثرت ولا زالت تؤثر على وجهة تطور وتقدم العراق خاصة في الخمسة عقود الأخيرة من الزمن، وهذا يعني أن هذه القضية لا يمكن حلها إلا حلا ديمقراطياً وصحيحاً، يضمن مصالح القوميتين والشعبين، العربي والكردي، بحيث لا يصادر فيه أي حق مشروع من حقوق الشعب الكردي، ولا يعاق فيه أي نضال وتطلع مشروع للعرب في العراق من أجل الأمة العربية. بيد أن حلاً حقيقاً كهذا، لا تحكمه النوايا والتطلعات وإقرار المبادئ العامة، فالمسألة ـ المشكلة الكردية، تتواجد في منطقة شديدة الحساسية ويدور فوقها صراع حاد بين القوى الإمبريالية ومرتكزاتها في المنطقة من جهة، وبين القوى التحررية والديمقراطية والاشتراكية من جهة أخرى. لذلك فالمسألة الكردية مسألة سياسية لها أسبابها وشروطها الاقتصادية – الاجتماعية والقومية، أكثر مما هي مجرد تاريخ وصفي لحديث سابق ومن هنا، فإن التاريخ الموجز لتطوراتها يفيد فقط في التعريف بها، ورصد طبيعة تلك التطورات التي طرأت عليها في العقود الماضية وحتى الآن.
ما هو أصل الأكراد وما هي منطقة سكنهم، وتطور حركتهم القومية؟ هناك "ما يشبه الاجتماع لدى دارسي تاريخ الشعب الكردي من أصوله يحيط بها نوع من الغموض. وأن أغلب الدارسين متفقين على أن الأكراد ينتمون إلى المجموعة الآرية"( ) وهناك من يعتقد أن أصلهم "يعود إلى الآشوريين والبابليين"( ). ويرى عدد من العلماء "أن الأكراد ينحدرون من أصل آري، غلا أنهم امتزجوا بعناصر أخرى" بينما يرى آخرون "أن من المحتمل أن يكون الشعب الكردي قد هاجر في الأصل من الشرق - شرق إيران - إلى الغرب ـ غرب كردستان الحالية ـ واستوطن منذ فجر التاريخ" بينما يرى فريق ثالث بأنهم "هم السكان الأصليون لجبال أسيا الصغرى" وأن كردستان "هي الموطن الأولى للسلالة البشرية الثانية، وشعوب هذه السلالة - عد الشعب العيلامي - هي الأصل القديم جداً للشعب الكردي"( ) وأن كردستان "هي أرض بلا حدود ... وأنها العمود الفقري للشرق الأوسط"( ).
أما "اصطلاح كلمة كردستان، كاصطلاح جغرافي، فيبدو أنها ظهرت لأول مرة في القرن الثلث عشر الميلادي في عهر السلاجقة" ويوضح الدكتور شاكر خصباك ذلك فيقول: "أنها بلاد ذات حدود طبيعة وذات سكان من عنصر متميز، وهي لا تملك حدود سياسة دولية" ويؤكد المؤرخ السوفيتي "باسيل نيكيتين" ذلك بقوله "أنها تعني بلاد الأكراد ... وهي منطقة واسعة لا حدود لها"( ). ولذا فإن هذا الإصلاح "لا يعترف به من الناحية القانونية ولا نجد له تحديداً في الوثائق الجغرافية المعروفة ولا في الوثائق الدولية"( ). أما لغة الأكراد "فتنتمي إلى عائلة اللغة الهندو - أوربية بينما تبلغ مساحة (الأرض التي يقطنونها حوالي 50 ألف كيلو متراً مربعاً"( ) أما تاريخ وقوع الأكراد تحت السيطرة الأجنبية فيرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد حيث استطاع "كورش" أن يدحر عام 550 قبل الميلاد المملكة الكردية المسماة "مملكة ميديا" والتي يعتبرها المؤرخون الموطن الأصلي للأكراد"( ). وبموجب "الفرمان السلطاني العثماني - السلطان سليم - الذي صدر في تشرين الثاني عام 1515م، اعترف باستقلال الإمارات الكردية والانضواء تحت راية الخليفة العثماني" ومنذ القرن التاسع عشر "فرضت الدولة العثمانية، بقوة السلاح مركزية تركية خانقة على جميع أنحاء كرستان"( ).
ومن جراء تقسيم منطقة الشرق الأوسط بين الدول الاستعمارية، بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918م فقد "انقسمت كردستان كذلك. ومنذ ذلك الحين تغيير وجه تطور المسألة الكردية ونشأ وضع نوعي جديد"( ). (وتم شرح ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب).
وفي (مؤتمر الصلح في باريس) الذي عقد عام 1919 "ضغط الوفد الكردي برئاسة شريف باشا السليماني الذي أرسل إلى هناك لإدخال المواد 62، 63، 64، ضمن معاهدة "سيفر" التي نصت على "إعطاء الشعب الكردي نوعاً من الحكم الذاتي ... وتأسست إمارة أو حكومة كردية في السليمانية برئاسة الشيخ محمود الحفيد البرزنجي تحت الإشراف البريطاني"( ).
إلا أن ما حققته (معاهدة سيفر) في 10 آب 1920 من مكاسب هامة للشعب الكردي، قد ألغتها (معاهدة لوزان) في 24 تموز 1923 فيما بعد( ).
أما نشوء وتطوير الحركة القومية الكردية الحديثة، فقد بدا "منذ أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر"( ) وكانت أبرز الثورات الكردية هي "ثورة الأمير بدرخان عام 1843 ... وكانت أول انتفاضة يمكن تسميتها بالوطنية، بالمفهوم الحديث"( ). وقد تلا هذه الثورة، العديد من الانتفاضات والثورات، التي نشبت بين أعوام 1923 – 1924، وثورات الشيخ محمود الحفيد المتكررة 1919-1932 وثورة عبيد الله النهري عام 1925، في ديار بكر، وانتفاضة أيلول عام 1930، والثورة المسلحة في منطقة بارزان بقيادة "الملا مصطفى البارزاني عام 1943"( ).
أما بعد ثورة 14 تموز 1958، فقد تقدمت حكومة الثورة الزعيم عبد الكريم وقاسم للتعاون مع الأكراد كشركاء للعرب ضمن أطار الوحدة العراقية، وحددت المادة الثالثة من الدستور العراقي، أن المجتمع العراقي "يقوم على التعاون الكلي بين جميع المواطنين ... وأن الأكراد والعرب شركاء في هذه الأمة والدستور يضمن حقوقهم القومية ضمن إطار الكيان العراقي( ). وفي الخامس من تشرين الثاني 1958م، عاد الملا مصطفى البارزاني من المنفى، وقد استقبل باحترام، من قبل حكومة الثورة، كزعيم قومي للحركة الكردية، آنذاك.
ومع تعثر وانتكاسة ثورة 14 تموز، وبروز النهج الديكتاتوري لعبد الكريم قاسم وحكومته، انعكس ذلك في اهتزاز علاقة التحالف والتعاون الفتية، بين السلطة القاسمية والقيادة الكردية. وحين أخفقت محاولات رأب الصدع في العلاقة بين الجانبين، قدم الملا مصطفى البارزاني مذكرة إلى حكومة عبد الكريم قاسم طالبها فيها رسمياً بـ "حكم ذاتي داخل العراق"( ). وما أن رد قاسم عليها ببدء الحرب، أعلنت الحركة الكردية انطلاق مقاومتها المسلحة اعتباراً من 11 أيلول عام 1961، حيث ابتدأ القتال، واستمر بعد ذلك ما يقارب العقدين من الزمن.
وقبيل مجيء البعثيين إلى الحكم في 8 شباط 1963 كانوا قد اتصلوا بالقيادة الكردية لكسب دعمها في صراعهم ضد نظام عبد الكريم قاسم لإسقاطه واستلام السلطة، وكان المطلب الوحيد للقيادة الكردية هو "الحكم الذاتي"، وقد "قبله البعثيون من حيث المبدأ (بالرغم من التباين الواضح في فهم وتفسير كل طرف لطبيعة وصيغة الحكم الذاتي) إضافة إلى إشراك وزيرين كرديين في الحكومة"( ). بيد أن القتال قد تجدد بشكل واسع بعد شهور قليلة من 8 شباط 1963 واستمر كذلك حتى أبان رئاسة عبد السلام عارف للجمهورية بعد انقلاب تشرين الثاني من العام نفسه 1963. وقد مهدت حدة القتال إلى انفتاح ظروف هدنة جديدة، لعب الرئيسين جمال عبد الناصر وأحمد بن بيلا فيها دوراً مساعداً، وقد أذيع "في العاشر من شباط عام 1965 بياناً يعلن وقف إطلاق النار"( ). إلا أن القتال عاد فتجدد، فجاءت حكومة الدكتور عبد الرحمن البزاز وقدمت مشروعاً من 12 نقطة لحل المسألة "حلا سليما" فتوقف القتال بعض الوقت، ليعود مرة ثانية بعد سقوط حكومة الدكتور عبد الرحمن البزاز.
في السابع عشر من تموز عام 1968 تم إسقاط حكم عبد الرحمن عارف، وجاءت "البعث" برئاسة أحمد حسن البكر إلى السلطة، ومع بداية هذه الفترة من تاريخ العراق، دخلت القضية الكردية طوراً آخر من أطوار مسيرتها، يتميز بظروف أشد خطورة وأكثر تعقيداً. لقد أستمر القتال في الفترة الممتدة بين 17 تموز 1968 و11 آذار 1970، كانت العلاقة بين السلطة والقيادة الكردية تمر في فترة اختبار. وتميزت على الصعيد السياسي بالاهتزاز الذي كان يفرضه الصراع والحوار المتقطع بين الجانبين. أما على الصعيد العسكري فقد تميزت تلك العلاقة، وخلال الفترة المذكورة، باستمرار القتال، لكن بوتائر مختلفة. إلا أن تصاعده في الأشهر الأخيرة من هذه الفترة، قد مهد لتوفر شروط الهدنة وإعلان "بيان السلام" الذي سمي بـ "اتفاقية 11 آذار 1970م". وقد اعتبر هذا البيان نصراً كبيراً للشعب العراقي عموماً وللشعب الكردي بشكل خاص.
إلا أن مسيرة السلام وتطبيق اتفاقية 11 آذار 1970 "للحكم الذاتي" قد تعثرت، وسارت بطريق متعرج وخطر طوال السنوات الأربع التي أعقبت إعلانها في 11 آذار عام 1970. فخلال هذه الفترة، وبالرغم من إنجاز بعض الخطوات على طريق التنفيذ، تفاقم الصراع والخلاف بين السلطة والقيادة الكردية حول طبيعة وكيفية تنفيذ بنود الاتفاقية. وعشية انتهاء الفترة المقررة لإعلان "الحكم الذاتي" بدأ طريق الاتفاق بين الجانبين مسدوداً، فأعلنت السلطة من طرفها في 11 آذار 1974، قرارات: الحكم الذاتي. وبرفض القيادة الكردية للقرارات بسبب شكوكها بعدم تطبيق جميع البنود المتفق عليها (وهي الطرف الآخر المعني والموقع على الاتفاقية) اندلع القتال مجدداً، وبشكل أوسع وأقسى من السابق.
وبينما كان القتال يشتد ويتسع، ولا يؤشر لإمكانية نصر قريب لأحد الطرفين على الآخر، عقدت الحكومة (اتفاقية الجزائر) في 6 آذار 1975 مع الحكومة الإيرانية. وقد انعكست نتائج الاتفاقية على سير القتال والصراع فأدى ذلك إلى انهيار المقاومة المسلحة للحركة الكردية، ولجأ الملا مصطفى البارزاني إلى إيران.
لقد أكدت التطورات اللاحقة بشكل واضح، وبعد مضي أكثر من أربع سنوات على قرارات 11 آذار عام 1974 "للحكم الذاتي" التي أعلنتها الحكومة من طرف واحد، أكدت على أن إرساء الحل الديمقراطي الحقيقي لا يتحقق إلا بالعودة لاتفاقية 11 آذار 1970 وعبرها يترسخ الأساس الصلد والمتين بين الشعبين العربي والكردي ويمكن من تجاوز كلا النزعتين الضارتين والخطيرتين، النزعة الشوفينية الاستعلائية العربية، البعيدة عن الروح التحريرية للقومية العربية، وتشدد القيادة الكردية، في مطالبها القومية (علماً هي مشروعة) للشعب الكردي وطموحه لغرض التقدم والتطور والازدهار. أن سيادة نهج تلك النزعتين والخلاف وعدم الوصول إلى حل يرضي الطرفين سوف يؤدي بالضرورة إلى التحالف مع القوى الرجعية، وخدمة مصالحها من جهة، وإلى التفريط بمصالح الشعبين العربي والكردي من جهة أخرى.
* خاتمة واستنتاجات عامة لموجز تاريخ العراق الحديث
إن العرض الموجز لتاريخ العراق الحديث والمعاصر، يبرز بوضوح، أن هذا التاريخ، هو تاريخ الصراع الحاد بين اتجاهين، اتجاه الأغلبية الساحقة للشعب وقواه وأحزابه الوطنية والديمقراطية والمكافحة من أجل تحقيق استقلال حقيقي وناجز للعراق على الصعيدين السياسي والاقتصادي،وبين اتجاه السلطة بل الحكومات المتعاقبة التي تعيق تحقيق تلك الأهداف وتزيد في كل فترة من ارتباطها وتبعيتها بالاستعمار وبالاقتصاد الرأسمالي العالمي، وتلجأ لممارسة شتى صنوف الإرهاب والقمع للشعب الكردي إلى حد الإعدام وإطلاق الرصاص على المتظاهرين من أجل التشبث بالسلطة وبسياستها.
لقد كانت المحطتان الرئيسيتان في تاريخ العراق الحديث هما: ثورة العشرين التحررية الوطنية التي اندلعت في 30 حزيران عام 1920، والتي اضطرت الاستعمار البريطاني لأن يرضخ لإقامة حكم وطني شكلي في العراق الحديث، فتأسس بنتيجة ذلك الدولة العراقية - المملكة - سنة 1921. أما المحطة الثانية فهي ثورة 14 تموز الوطنية الديمقراطية، التي اندلعت، بتحرك الجيش والشعب لاستلام السلطة وإعلان الجمهورية في 14 تموز عام 1958.
أن طبيعة التشكيلات الاقتصادية - الاجتماعية التي كانت سائدة هي تشكيلات شبه إقطاعية، وشبه رأسمالية تتعايش فيما بينها. وقد أفرزت هذه التشكيلات السلطة التي تمثلها عبر تحالف الإقطاعيين وزعماء العشائر مع البرجوازية التجارية والتي شكلت الإدارة والجيش والشرطة أجهزتها التنفيذية.
وبنتيجة هذا الوضع الاقتصادي، كانت العلاقات الاجتماعية المنعكسة عنه مطابقة لتخلفه. لكن في الوقت نفسه، كانت قوى الإنتاج تحمل في أحشائها عوامل تجاوز تلك العلاقات، لعلاقات إنتاجية أرقى. وقد كان للتطور الاقتصادي العارم على الصعيد العالمي، انعكاساته المباشرة في تسريع التناقض الداخلي، واحتدام تناقض تلك العلاقات الإقطاعية والرأسمالية. ولذلك، فقد كانت هذه التناقضات تفرز بدورها، تناقضاً حاداً بين أغلبية الشعب وطبقاته الوطنية وبين السلطة والطبقات والشرائح الاجتماعية التي تستند إليها.
أن هذا هو الذي يفسر احتدام الصراع ونمو القوى والطبقات البرجوازية الوطنية وأحزابها، وتصدرها النضال ضد السلطة، بينما يفسر التطور النسبي اللاحق للعلاقات الرأسمالية والتصنيع، نمو وتطور الطبقات الديمقراطية الثورية والعمالية الصاعدة للتتصدر الكفاح الوطني من أجل الاستقلال والتحرر والديمقراطية.
لقد اتسم ذلك التاريخ بسلسلة من الصراعات الحادة التي أفرزت العديد من الانتفاضات والانعطافات في مجرى تطور العراق. أن التطور الاقتصادي الذي كان يجري باتجاه موضوعي، نحو التقدم النسبي كان يفرز اختلالاً دائماً في حجم وطبيعة القوى الاجتماعية، بما فيها التحالف الطبقي الحاكم، مما كان يعكس باستمرار ذلك الاضطراب وعدم الاستقرار في الأوضاع.
- ومن ذلك كله يمكن استنتاج ما يلي:
1.كان النضال من أجل التحرر والاستقلال الاقتصادي والسياسي الناجزين يشتد ويتصاعد، مع نمو وتكون الأحزاب الوطنية والديمقراطية التي تناضل من أجل تحقيقه.
2.كان نمو الأحزاب والمنظمات الجماهيرية وبالتالي زيادة الوعي الإيديولوجي والسياسي لقطاعات كبيرة ومتقدمة من الشعب، يترافق مع احتدام الصراع ومع التطور الموضوعي للتقدم الاقتصادي والاجتماعي النسبي في البلاد.
3.أن حدة الصراع واتساعه، هو بمثابة التعبير السياسي عن حالة الاستقطاب الحاد داخل المجتمع. وبسبب هذا الاحتدام من الصراع والاستقطاب كانت السلطة تلجأ إلى أشد أساليب القمع والإرهاب في محاولة فاشلة لحله وتهداته، مما كان يفرض بالمقابل حدة وعنف المجابهة كرد مماثل على عنف السلطة وأساليبها. وقد أدى ذلك إلى قوة تنظيمات المعارضة وانضباطها وسيادة الروح الكفاحية العالية لديها، لكي تستطيع أن تواجه السلطة بنجاعة وقوة.
4.إن الدور التآمري الذي كان يناط بالسلطة وامتداد مهمته تلك إلى خارج حدود العراق، لمواجهة حركة التحرر الوطني ـ القومي العربية، وجعل العراق قاعدة أمامية للاستعمار في المنطقة. وقد وفر الشروط الملائمة للعوامل الخارجية العربية والدولية، في أن تلعب أدواراً هامة في شكل وطبيعة المواجهة الوطنية في الداخل، مثلما ساعدت تلك العوامل على لعب دور هام وفاعل ترافق مع الشروط الداخلية لنجاح ثورة 14 تموز عام 1958.
5.إن إمكانات وقدرات العراق الاقتصادية، إضافة إلى موقعه الجغرافي الهام قد مكنته من أن يلعب أدواراً، سلبية أو إيجابية، فاعلة ومؤثرة في أحداث المنطقة، على ضوء موقف وسياسة السلطة المسيطرة على مقدرات البلاد.
6.إن القضية الكردية قد أثرت وإلى حد كبير في طبيعة تطور العراق الاقتصادي والاجتماعي، وأن عجز الحكومات المتعاقبة بعد ثورة تموز 1958 عن إيجاد حلول ديمقراطية حقيقية للقضية الكردية، ساعد في إبقائها، باستمرار،جرح نازف يضر بمصالح الشعبين العربي والكردي على حد سواء، ويعيق التطور الديمقراطي الحقيقي للعراق، والذي يضمن بالضرورة حلاً ديمقراطياً وعادلاً للمسألة الكردية.
إن مسألة الديمقراطية كانت منذ الاستقلال وتأسيس العراق الحديث ولا تزال، أحد الأهداف الكبرى والأساسية في نضال الشعب العراقي وهدف الشعب الكردي، فعبرها تستطيع القوى والأحزاب والطبقات الاجتماعية الصاعدة أن تحقق إجماعاً شعبياً يساهم في بناء وتقدم العراق، عبرها أيضاً يستطيع الشعب أن يواجه ويحل بشكل جماعي، وبقناعة تامة جميع المشاكل والمعضلات التي تواجهه، وبالمقابل فإن غياب الديمقراطية ومصادرتها، قد أكد، وطوال تاريخ العراق الحديث تعثر تطور العراق وتقدمه بل وقطع الطريق عليه للانتقال إلى مراحل أرقى من التقدم والازدهار. بل وأكثر من ذلك فإن الديمقراطية الحقيقية هي الضمانة الأكيدة للحفاظ على استقلال العراق الاقتصادي والسياسي الناجز، وكذلك ضمانة تطوره وتقدمه الاجتماعي وازدهاره.
الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة
http://www.algardenia.com/maqalat/14698-2015-01-28-09-58-11.html
2042 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع